لا تزال رواية الكاتب الأمريكي مايكل كانينغهام «الساعات» التي أصدرها سنة 1998، وحاز بها جائزة بوليتزر، تحقق نجاحاً في قوالب فنية أخرى، فبعد الفيلم الشهير بالعنوان نفسه، الذي تم إنتاجه سنة 2002، وتم ترشيحه لتسع جوائز أوسكار، وحصلت نيكول كيدمان على جائزة أفضل ممثلة، عن أدائها دور الكاتبة البريطانية فرجينيا وولف، اتجهت الرواية نحو الموسيقى والغناء هذه المرة، من خلال أوبرا «الساعات» التي عرضت للمرة الأولى على مسارح أمريكا سنة 2022. ألف الموسيقى كيفن بوتس، وكتب الليبريتو غريغ بيرس، واعتمد الأداء الصوتي في أدوار البطلات الثلاث، على اثنين سوبرانو، وواحدة ميتزو سوبرانو. بين الرواية والمؤلف والبطل والقارئ، كتب مايكل كانينغهام روايته، بإلهام من رواية «السيدة دالواي» للكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف، فيعرض من خلال روايته يوماً واحداً في حياة ثلاث سيدات، يفرق بينهم الزمان والمكان، لكن يجمعهما الكثير، تجمعهما رواية فرجينيا وولف بشكل أو بآخر، ويجمعهما الانهيار النفسي والاحتراق الداخلي والسأم الرهيب، والقلق والخوف والكآبة العميقة.
كتبت فرجينيا وولف رواية «السيدة دالواي» سنة 1925، تنتمي الرواية أدبياً إلى تيار الوعي، وتتناول أحداثاً في حياة السيدة دالواي تقع في يوم واحد، وتركز على الشعور بشكل كبير، فتجعلنا نرى الشخصيات من الداخل، أكثر مما نراها من الخارج. المعروف أن فرجينيا وولف كانت تعاني أثناء حياتها من اكتئاب شديد، وأنها انتحرت عندما كانت في التاسعة والخمسين من عمرها سنة 1941، بأن أثقلت جيوبها بالحجارة وذهبت لتغرق نفسها في نهر أوس. وللانتحار حضوره في روايتها وفي رواية كانينغهام أيضاً. فكما ينتحر «سيبتموس» في رواية «السيدة دالواي» ذلك الشاب العائد من الحرب العالمية الأولى، المعافى جسدياً والمصاب نفسياً بدرجة شديدة، الذي يكره طبيبه النفسي إلى درجة أن يلقي نفسه من النافذة، مفضلاً التخلص من حياته نهائياً على لقاء الطبيب. ينتحر كذلك ريتشارد، الشاعر والروائي في رواية كانينغهام، الذي حصل على جائزة أدبية رفيعة، لكنه يعاني من اكتئاب شديد أيضاً إلى جانب مرضه بالإيدز، ويشعر بأن الجائزة ليست اعترافاً بأدبه وإنما تعاطفاً مع مرضه، يلقي نفسه من النافذة هو الآخر، في اليوم الذي كانت كلاريسا فون، حبيبته السابقة وصديقته التي تعتني به، تعد سهرة للاحتفال بالجائزة التي حصل عليها.
الرابط الموسيقي بين الشخصيات
جعل الموسيقار كيفن بوتس من الموسيقى رابطاً إضافياً، يجمع بين البطلات الثلاث على خشبة المسرح، حيث تنتقل الموسيقى بنغماتها وثيماتها، من السوبرانو رينيه فليمنغ التي تؤدي دور كلاريسا فون، إلى الميتزو سوبرانو جويس ديدوناتو التي تؤدي دور فرجينيا وولف، إلى السوبرانو كايلي أوهارا التي تؤدي دور لورا براون، وهن الشخصيات الرئيسية في رواية مايكل كانينغهام. تغني كل شخصية آلامها وتسرد الرواية موسيقياً، فتخبرنا الأغنيات أو الآريات بالخلفية الدرامية، وما تعانيه الشخصية في مواجهة الحياة وساعات الحياة. مع السوبرانو رينيه فليمنغ نكون في فترة التسعينيات مع شخصية كلاريسا فون، التي تعمل محررة أدبية في مدينة نيويورك، وتكافح من أجل حياتها الخاصة، والتغلب على كآبتها وحزنها أيضاً، وتحرص على أن تكون قوية دائماً، من أجل أن تساعد حبيبها السابق ريتشارد، الذي يحيط به الموت من كل جانب، سواء بسبب مرض الإيدز، أو بسبب الاكتئاب وهاجس الانتحار الذي يطارده. تغني كلاريسا عن كل ذلك، وتتذكر وهي تسير في شوارع نيويورك، تشتري الزهور وتستعد للحفلة التي تقيمها، كل ما عاشته مع حبيبها السابق ريتشارد في هذا المكان أو ذاك.
كلاريسا هو اسم بطلة رواية «السيدة دالواي» لفرجينيا وولف أيضاً، وتتقاطع معها في بعض الأمور. ومع السوبرانو كايلي أوهارا نكون في فترة الخمسينيات مع شخصية لورا براون، أم لطفل صغير وحامل في طفلها الثاني، تعيش في بيت جميل في لوس أنجلس مع زوجها الناجح مهنياً، يبدو كل شيء على ما يرام في حياة لورا، لكنها تعاني من كآبة شديدة، كما لو أن كل شيء فقد معناه بالنسبة إليها، تريد أن تترك ذلك المنزل، ويتنازعها الشعور بالأمومة والمسؤولية تجاه طفلها وزوجها، مع رغبتها العميقة في الفرار، لأن بقاءها سيؤدي بها إلى فقدان حياتها وإقدامها على الانتحار. تذهب لورا إلى غرفة في أحد الفنادق، تكمل ما بدأته من قراءة في رواية «السيدة دالواي» لفرجينيا وولف، وتمتزج كآبتها بكآبة أبطال الرواية، وتخرج بعض الحبوب التي تنوي الانتحار عن طريق تناولها، لكنها تتراجع بعد ذلك، وتعود إلى البيت. تغني لورا هذا المشهد، بينما تجتمع على المسرح مع فرجينيا وولف، التي كانت تفكر في الانتحار أيضاً.
أما مع الميتزو سوبرانو جويس ديدوناتو، فنكون في فترة العشرينيات مع شخصية الكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف، التي تعمل على تأليف رواية «السيدة دالواي» بينما تعيش في ريتشموند مع زوجها، الذي يخشى عليها من مرضها النفسي، ومن إقدامها على الانتحار وقتل نفسها في أي لحظة، تغني فرجينيا وولف عن صعوبة الإمساك بالقلم وإكمال كتابة الرواية، حيث يبدو كل شيء ثقيلاً مظلماً، حتى أبسط الأمور تبدو صعبة ومنهكة للنفس. لا تخلو الأوبرا مع بعض الأصوات الأخرى الثانوية، كصوت الباريتون الذي يؤدي شخصية ريتشارد، في دور قصير لكنه أساسي ومهم للغاية في كل من الرواية والفيلم والأوبرا، فريتشارد ذلك الأديب المكتئب المريض بالإيدز، الذي يرمي نفسه من النافذة وينهي حياته بالانتحار، رغم نجاحه المهني وحصوله على جائزة أدبية رفيعة، كانت صديقته تعد للاحتفال بها، هو نفسه «ريتشي» الطفل الصغير ابن لورا براون، الأم المكتئبة التي كانت على وشك الانتحار هي الأخرى، ولا نعرف ماذا حدث لها إلا بعد موت ريتشارد، عندما تذهب إلى صديقته كلاريسا، ونفهم أنها تركت البيت بالفعل بعد أن وضعت طفلتها الثانية، تعترف لورا بأن هجرانها لأسرتها وأطفالها، كان سبباً قوياً في تدمير نفسية ريتشارد وإصابته بالاكتئاب، لكنها تدافع عن نفسها قائلة إنها كانت مخيرة بين الموت والحياة، واختارت الحياة.
كاتبة مصرية