في فن الأوبرا تكون المبالغات في كل أشكالها وفي أقصى درجاتها مقبولة، بل لازمة وضرورية، وما يبدو ثقيلاً مملاً في أي فن آخر، يكون ممتعاً داخل الأوبرا التي يكون خلوها من تلك المبالغات في بعض الأحيان، علامة من علامات الضعف والإخفاق. وتحتوي أوبرا توسكا على أجمل المبالغات في التعبير عن الحب والغيرة، والوفاء والحفاظ على القيم والمبادئ ومعاني الصداقة، والتضحية بالحياة من أجلها، وكذلك في التعبير عن الشر والخداع والألاعيب الخبيثة. وهي من النماذج التقليدية للأوبرا الإيطالية، وإن كانت الحكاية فرنسية في الأصل، جاءت في مسرحية بعنوان «لا توسكا» للكاتب الفرنسي فيكتوريان ساردو، وحولها إلى نص غنائي اثنين من الشعراء الإيطاليين، هما جوسيبي جواكوزا ولويجي إليكا. أما الموسيقى فوضعها الموسيقي الإيطالي يواكيم بوتشيني، الذي كان فن الأوبرا وجهته الرئيسية، وليس طريقاً يمر عليه مرور الكرام مثل بيتهوفن وتشايكوفسكي، وهو من عظماء الأوبرا بلا شك، ولا تزال أعماله تحظى بالنجاح، وتحقق الجماهيرية. ومن يستمع إلى موسيقاه يجد أنها مسرحية الطابع في الأساس، تحمل في داخلها كل عناصر التعبير الدرامي، والتلوين الشعوري، لا يمكن القول إنها ميلودية تماماً، لكنها تفيض بجمال الألحان وعذوبة الثيمات.
تتميز أوبرا توسكا بشهرتها الكبيرة، وجاذبيتها الفائقة وسهولة تذوقها، فهي ليست من الأوبرات الشاقة العسيرة، كأوبرا عطيل لفيردي على سبيل المثال، وإن كانت تضم بعض الآريات الصعبة، لكن صعوبتها تقع على المغني وحده، بينما يصل جمالها إلى المتلقي سلساً ناعماً. عُرضت توسكا على مسارح روما للمرة الأولى عام 1900، وصارت من الأوبرات الخالدة، التي احتفظت بمكانها في مواجهة الزمن، وأجمل عروضها الحديثة ترتبط باسم التينور الألماني يوناس كاوفمان، الصوت الأوبرالي الأول في العالم حالياً. فرغم أن الأوبرا تحمل اسم بطلتها توسكا، إلا أن بوتشيني منح صوت التينور البطولة الموسيقية، حيث لحن له أجمل الآريات، وجعله يغني أكثر من قطعة منفرداً، بينما يعتمد أداء توسكا أو صوت السوبرانو، على الغناء المشترك، سواء مع صوت التينور أو صوت الباريتون.
يوجد جمال ساحر في توسكا، بعيداً عن القوة الدرامية أو ضعفها، وتعالج هذه الأوبرا قصة حب المغنية توسكا، والرسام كافارادوسي، حيث يسكن الفن في أعماق كل منهما ويعيشان غرامهما الحالم، لكن الأحداث تجبرهما على مواجهة الواقع والعالم الحقيقي، والاصطدام مع نوع آخر من البشر، يمثل النقيض والنموذج المضاد لهما في كل شيء. وإن كان عاشقاً هو الآخر، لكن الحب عنده لا يختلف عن أي جريمة، ينفذها بالغصب، وفرض القوة وبسط النفوذ، ويمارس القتل في سبيلها. وإلى جانب أجواء الحب والفن والشر في أوبرا توسكا، توجد أيضاً الأجواء الكنسية، الحاضرة موسيقياً وغنائياً ومكانياً، فقد وظف بوتشيني الأجراس الكنسية وجعلها آلة من آلاته الموسيقية، واستخدم أيضاً آلة الأرغن، والمعروف عنه أنه كان يعمل عازفا على هذه الآلة الموسيقية داخل الكنيسة مثل باخ، وأدخل بعض الصلوات التي يغنيها خادم الكنيسة والمجموعات الصوتية، وغناء المجموعات يكون له الأثر القوي والإحساس الروحي الجليل. وعندما يفتح الستار، تبدأ الأوبرا في أول مناظرها داخل إحدى الكنائس، التي تحتوي على مرسم يقف فيه كافارادوسي أمام لوحة من لوحاته يعمل على إنهائها، تظهر فيها فتاة جميلة تناجي ربها، وكانت إحدى الفتيات المصليات في الكنيسة هي التي أوحت له بفكرة هذه اللوحة.
وكم يجيد التينور الألماني يوناس كاوفمان تقمص شخصية الرسام، في وقفته أمام اللوحة وإشاراته الجسدية بتفاصيلها الدقيقة، والحق أن قدراته التمثيلية تلك تميزه كثيراً، إلى جانب معجزته الصوتية بالطبع. لأنه يفهم الشخصية جيداً ويمتزج بها عاطفياً ونفسياً، ويجسدها حية نابضة على المسرح. فيؤمن المشاهد بأنه يرى كافارادوسي بالفعل لا مغني أوبرا يؤدي آرياته وحسب، ولا يعني ذلك أنه ممثل، فهو قد يفشل أعظم الفشل، إذا قام بالتمثيل بعيداً عن الغناء الأوبرالي، لكنه يجيد التمثيل داخل حدود هذا الفن، ووفقاً لما يتطلبه وتشترطه قواعده. يغني كافارادوسي أول آرياته في بداية الأوبرا وهو يرسم ويتحاور مع خادم الكنيسة بشأن اللوحة، وتكون الموسيقى رائقة ولطيفة، ثم تضطرب وتصطخب مع دخول أنجيلوتي صديق الرسام والسجين السياسي الهارب، الذي ينشد الملجأ الآمن لدى صديقه.
للموسيقى دورها في أوقات الصمت وتوقف الغناء، فهناك دائماً تلك الجمل اللحنية اللطيفة، التي تأتي بعد انتهاء الآريات أو كفواصل بين الحوار المغنى. فلا تسمح بالملل أو الانقطاع عن الشعور بالأبطال والتعاطف معهم، وأحياناً تتصدر المشهد عندما يكون الغناء أقرب إلى الإلقاء الملحن، كما في الجزء الخاص باتفاق كافارادوسي مع أنجيلوتي على طريقة الهروب.
وبينما هو يهدئ من روعه ويقدم إليه الطعام والشارب، ويبحث عن حل لمشكلته، تأتي توسكا لتزور حبيبها في مرسمه، وعندما يتأخر كافارادوسي في أن يفتح لها الباب، حتى يخبئ صديقه الهارب، تشك في وجود امرأة أخرى معه في المرسم، ويغني لها ويطمئنها، وبعد أن تتأكد من عدم وجود امرأة أخرى، تنظر إلى اللوحة وتغار من الفتاة الجميلة التي يرسمها، فيضحك كافارادوسي ضحكا منغما، ويعاود طمأنتها. وبعد أن تنصرف يعود إلى صديقه الهارب، ويرشده إلى طريق سرداب سري في بيته ويطلب منه الذهاب إليه والاختباء هناك.
تنتقل الأوبرا بعد ذلك إلى الغناء الجماعي بأصوات الباص، وبعض الرقصات الخفيفة، ابتهاجاً بالأخبار الكاذبة عن هزيمة بونابرت، ثم يبدأ صوت الباريتون في الغناء، وتظهر شخصية سكاربيا مدير البوليس، والعاشق الشرير، الذي يرغب في امتلاك المغنية توسكا والحصول عليها بأي طريقة، وإن قتل حبيبها وتخلص منه إلى الأبد. يأتي سكاربيا إلى الكنيسة بحثاً عن أنجيلوتي السجين السياسي الهارب، وعندما يعرف أن حبيب توسكا هو من ساعده على الهرب، يجدها فرصة مناسبة للقبض عليه. ويأتي به معذباً أمام توسكا لمساومتها على شرفها، لكنها ترفض، ويغني كافارادوسي وهو مرمي على الأرض والدماء تسيل منه. يخبر توسكا بسر صديقه ويطلب منها ألا تبوح بمكانه مهما عذبوه، لكن سكاربيا يضاعف تعذيبه فتنهار توسكا وتدل البوليس على مكان السرداب السري، وتطلب العفو عن حبيبها، ويرفض سكاربيا ثم يحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص. ويشترط أن تسلم جسدها إليه مقابل أن تنقذ حياة حبيبها، فتوافق وتطلب منه أن يكتب لها إذن الأمان ، فيدون ورقة وهمية، ويخبرها بأنه طالما قد صدر الحكم فلا بد من تنفيذه ظاهرياً على الأقل، وأنه أمر جنوده بإطلاق رصاص مزيف، وعلى حبيبها أن يمثل ويدعي الموت. وبعد انصراف الجنود يمكنها أخذه والهروب بعيدا، تنتظر توسكا حتى ينتهي من كتابة هذه الورقة، وعندما يقترب منها لاحتضانها تطعنه بسكين في صدره وتقتله. وتظن أنها نجت وأنقذت حبيبها، وفي يوم تنفيذ حكم الإعدام تخبره بما صنعت، وتطمئنه بأن الرصاص المزيف لن يقتله، وعليه أن يدعي الموت، وبعد التنفيذ وانصراف الجنود، تقترب من جسده الملقى على الأرض وتخبره بأنه يستطيع أن يقوم الآن ليهربا معا، لكنها تفاجأ بأنه قتل بالفعل وتكتشف خديعة سكاربيا، وبينما هي في ذهولها وصدمتها وفجيعتها، تعود الجنود مرة أخرى للقبض عليها بعد اكتشاف مقتل سكاربيا، فلا يكون منها إلا أن تقفز من فوق سور الحصن، وتنهي حياتها وتذهب إلى حيث يوجد كافارادوسي.
للموسيقى دورها في أوقات الصمت وتوقف الغناء، فهناك دائماً تلك الجمل اللحنية اللطيفة، التي تأتي بعد انتهاء الآريات أو كفواصل بين الحوار المغنى. فلا تسمح بالملل أو الانقطاع عن الشعور بالأبطال والتعاطف معهم، وأحياناً تتصدر المشهد عندما يكون الغناء أقرب إلى الإلقاء الملحن، كما في الجزء الخاص باتفاق كافارادوسي مع أنجيلوتي على طريقة الهروب. ويشعر المرء أحياناً بأن بعض مقاطعها تكاد تكون موسيقى تصويرية، فهي تكون رشيقة على قدر من الخفة وهي تصاحب خادم الكنيسة أثناء تأدية عمله في صمت. وجادة تخلق الإحساس بالخطر والخوف والتوتر مع دخول أنجيلوتي السجين الهارب، وقاسية عنيفة مع كل خطوة من خطوات سكاربيا مدير البوليس، وشاعرية بليغة في لحظات الحب، وأصدق ما تكون عندما يواجه الأبطال مصائرهم في النهاية. وكما تعبر موسيقى بوتشيني عن الشعور جيداً، فإنها تهتم أيضاً بالتعبير عن الحركة وطبيعتها وإيقاعها. ورغم إبداع بوتشيني في تلحين أوبرا توسكا بشكل عام، إلا ان أقصى طاقاته الجمالية تكاد تتركز في الآريا، التي يغنيها كافارادوسي وحيداً في محبسه قبل إعدامه، وهي بعنوان E lucevan le stelle وتتميز بثيمتها الموسيقية الحزينة الرقيقة، مع التوظيف الرائع لصوت التينور، وبعد أن يغني كاوفمان هذه الآريا، يكاد الجمهور أن يجن، ويظل يصفق لأكثر من خمس دقائق متواصلة، ويطلق صيحات الإعجاب، ويطالب بأن يغنيها كاوفمان مرة أخرى، ولا يكف عن التصفيق حتى يسمح المايسترو بالإعادة، فيغني كاوفمان بلسان كافارادوسي الذي يتهيأ للموت، ولا يبكي شيئاً في هذه الحياة سوى الحب الذي ضاع إلى الأبد، ويتذكر حبيبته توسكا، عطرها وقبلاتها الرقيقة، وخطواتها التي تنتهي إلى أحضانه، ويبكي هذه اللحظات التي لن يعيشها مرة أخرى، ويبلغ التأثير ذروته عندما يقول وقد بدأ الموت يلامس روحه بينما هو يزداد حبا للحياة وتشبثا بها: وأنا لم أحب الحياة هكذا من قبل.
كاتبة مصرية
شكرا استاذة مرة – ننتظر المزيد
العفو. شكرا لك