تم تصنيف الفيلم تحت بند الدراما التسجيلية التاريخية، فهو يتناول شخصية لها بصمة واضحة في إدارة أحد أهم المشاريع البحثية العلمية، «مشروع مانهاتن للحلفاء» إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي قادت فيما بعد لتوظيف الكشف العلمي كسلاح إفناء وتدمير شامل، بمرتبة القنبلة الذرية بأنواعها: «ليتل بوي» وهو سلاح انشطار يورانيوم مخصب، و»فات مان»، وهو سلاح نووي من نوع البلوتونيوم. كانت هذه الأسلحة بمثابة فتح بوابة الجحيم لاحقاً لسباق محموم للتسلح بسلاح دمار شامل هو القنبلة النووية، بين معسكري الولايات المتحدة الأميركية الرأسمالي الغربي، بمواجهة معسكر الإتحاد السوفيتي الشيوعي الشرقي، بعد أن انتهت مدة تحالفهما المؤقت، ضد النازية، التي خسرت الحرب العالمية الثانية.
هذه الشخصية الاستثنائية هي روبرت أوبنهايمر، المولود في نيويورك، ابناً لعائلة يهودية فقيرة مهاجرة غير ملتزمة دينياً، أثرت لاحقاً في الولايات المتحدة. هاجرت عائلته من مملكة بروسيا التي أصبحت فيما بعد ألمانيا الهتلرية. الأب أصبح تاجر منسوجات ناجح، والأم عملت رسامة.
كان أوبنهايمر عقلية بحثية متعددة الإمكانيات والقدرات، تارة نجده مهتمًا بالأدب الإنجليزي والفرنسي وبتعلم اللغات، فيظهر في الفيلم بإمكانات لغوية فائقة، لدرجة أنه تمكن من تقديم محاضرة علمية باللغة الهولندية رغم أنه تعلمها خلال بضعة أسابيع، وقد تمكن من نيل درجة الدكتوراة بالفلسفة لاحقاً. وتارة أخرى نجده في ميدان العلوم التجريبية في الفيزياء النظرية والتجريبية والنووية، وعلوم الديناميكيا، وميكانيكا الكم، وعلوم المعادن، وقد تمكن من نيل شهادة جامعية في الكيمياء من جامعة هارفرد، ومن ثم حصل على الدكتوراة في الفيزياء من كلية كامبريدج.
يشار إليه في التاريخ الأميركي على أنه «الأب المؤسس للفيزياء النظرية الأميركية»، قدم مع أقرانه وطلابه لاحقاً، مساهمات في نظرية النجوم النيوترونية والثقوب السوداء، ونظرية المجال الكمومي، وتفاعلات الأشعة الكونية.
تم التركيز على عقلية العالم المتعدد المواهب الذي نسب إليه قيادة مختبر «لوس ألاموس» الذي أشرف على تجربة «ترينتي» أو الثالوث، حيث تم إجراء أول اختبار للقنبلة الذرية في العالم.
أما في تركيبته الشخصية والنفسية، فقد كان «أوبي» متصنعاً وأنانياً لدرجة أنه وضع ابنه في عهدة آخرين، وعصبياً ومتزعزعاً عاطفياً وغير مستقر نفسياً، حتى أنه كاد أن يُسمم أستاذه في أحد المرات، وكان لا يُقيد نفسه بعقيدة ثابتة، ملتزم بالذرائعية والمرونة حتى في أفكاره وانحيازاته وتبريراته، يمكن اختصاره بوصف زوجته على أنه الشخصية التي ترتكب الخطايا ثم تجبرنا على أن نشعر بالأسى، لأنه كان هناك عواقب على ارتكابه لما فعل.
يهمل الفيلم تماماً، الجانب الآخر حيث وقعت الكارثة، بعد أن تم إسقاط القنبلتين النوويتين على مدينتي ناجازاكي وهيروشيما، ما أجبر اليابان على توقيع معاهدة استسلام وإنهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة ساحقة لدول «المحور» المؤلفة من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان التوسعية، على يد دول الحلفاء. كما يهمل الفيلم تبعات الكارثة وضحاياها من البشر المدنيين، الذين سقطوا بأعداد مهولة، إذ تجاوزت أعدادهم بشكل مباشر عشرات الألوف، ولاحقاً بسبب الأضرار التي وقعت على مستويات متعددة مئات ألوف آخرين.
تم التركيز على عقلية العالم المتعدد المواهب الذي نسب إليه قيادة مختبر «لوس ألاموس» الذي أشرف على تجربة «ترينتي» أو الثالوث، حيث تم إجراء أول اختبار للقنبلة الذرية في العالم. ويتحدث الفيلم عن مرحلة زمنية سياسية معقدة مرت بها الولايات المتحدة الأميركية، يتم الإشارة إليها على أنها مرحلة المكارثية السياسية، المرحلة التي كان فيها وباء الخوف من انتشار الفكر الشيوعي أمراً طاغياً على المستوى الحكومي وأجهزة الأمن الاستخباراتية، التي تصدت لهذا الوباء بشكل قاس، لم يخلُ من تجنٍ وتحامل على كل من حمل فكراً يسارياً تقدمياً، كان يتفق في بعض مفاصله مع المد الشيوعي القادم من الإتحاد السوفيتي البائد.
المكارثية السياسية والأمن القومي الأميركي
المكارثية هي حقبة اضطراب سياسي، لاحقاً تم الإشارة إليها بالهوفيرزم، والمعروفة أيضًا باسم الرعب الأحمر الثاني، فقد كان يمارس عبرها كل أشكال القمع السياسي والاضطهاد للأفراد ذوي التوجهات اليسارية (نشاهد عبر الفيلم بعض الإشارات لدعم حركة التحرر في إسبانيا، كأحد مظاهر الاشتباه للانتساب للشيوعية)، قامت هذه الحركة بنشر ثقافة الخوف من التأثير الشيوعي والسوفييتي في المؤسسات الأمريكية، بالأخص ذات الأهمية الاستراتيجية، وحذرت من تبعات التجسس السوفياتي على الولايات المتحدة، وامتد تأثير هذه الحركة من أواخر الأربعينيات وحتى خمسينيات القرن العشرين المنصرم.
عزل الإنجاز العلمي بمقابل غياب الولاء التام لتوجهات الدولة السياسية
في خضم العمل الدرامي نشاهد أوبنهايمر رهين تحقيق دقيق يمنع عنه الوصول لمواقع حساسة في أميركا، وهو ما يضعه في مرتبة المشكوك بأمرهم من الذين يتوجب أخذ الحيطة منهم، والتدقيق بعلاقاتهم، خاصة وأنه كان صاحب علاقة وثيقة بشبكة واسعة، بل وقريبة مباشرة، من أصحاب الفكر اليساري، وهذا وضعه في دائرة المنع، كأحد أولئك الذين لا يُظهرون الولاء التام والطاعة، بحسب تصنيفات أجهزة الأمن القومي العليا، لذا يتوجب الاحتراز منهم، بالرغم من كل الإنجازات التي قدمها للولايات المتحدة الأميركية.
وقد تم ربط هذا المسار الدرامي بطريقة تصاعدية عبر حامل زمني متقطع ولكنه مترابط، بطريقة إخراجية ملفتة قدمها كعادته المخرج المبدع كريستوفر نولان، أحد العقليات الفذة في صناعة الدراما البصرية، المختصة بدفع المشاهد للحرص على أن لا تفته التفاصيل، ليستجمع ويربط الفكرة الأساسية بأن الولايات المتحدة أم الحريات والتعددية، مارست العزل الإقصائي حتى مع ألمع علمائها، لاختلاف العقلية السياسية غير المتوافقة بشكل كامل مع عقلية الدولة. بالتوازي مع البنية المحورية للعمل التي تضع أبا القنبلة الذرية في قفص الاتهام، مقترناً بالجريمة الكبرى المتعلقة بإلقاء القنبلة التي قتلت وهدمت وشردت وشوهت مئات الألوف، والتي كان هو مساهماً أساسياً في صناعتها. إذن بالنتيجة فقد تذوق الطباخ بعضاً من السم الذي صنعه، بالرغم من ادعائه وبكائياته اللاحقة، بأنه لم يكن راضياً عن توظيف العلوم في التدمير.
الشخصية الشكسبيرية الوغدة يتم إحياؤها من جديد
ضمن تفاصيل الفيلم نشاهد دوراً لافتاً قام به الممثل الذي اشتهر بأداء شخصية «الرجل الحديدي» روبرت داوني، تلك الشخصية التي راجت عبر صناعة «عالم مارفل» للسينما، والتي تصلح لليافعين الذين أدمنوا على مشاهدة مجلات الكوميكس وشخصيات الأبطال الخارقين، ولا يعتقد كاتب هذه المراجعة بأنها تندرج تحت بند عالم صناعة الأفلام البشرية الحقيقية، بالرغم من تحقيقها مليارات الدولارات من الأرباح لمنتجيها، والكثير من الشهرة المبالغ فيها لممثليها، الذين كانت التقنيات التكنولوجية تتكفل بمهام إدهاش المشاهد بكل وسائل الإبهار البصري المتعلق بالتقدم الرسومي للحاسبات المتطورة، أكثر بكثير من إبداع الممثلين الحقيقي.
أما في دوره الهادئ والبسيط هذا فقد أعاده مجدداً في عداد الممثلين المحترفين، وأعتقد أنه لحدٍ ما يشبه دور اف موراي أبراهام في رائعته «أماديوس»، إذ تُظهر كلا الشخصيتين انحرافاً ونفاقاً مقابل الشخصية الرئيسة، ومن ثم يظهر أنها كانت وراء كل المصائب، التي صُنعت في الكواليس لشح في أخلاقيات الشخصية لا يمكن كشفها الا بصعوبة.
اينشتاين بمقابل أوبنهايمر واستبدال العالم برجل الدين:
يظهر الفيلم العالم العبقري «أينشتاين» وهو يقوم مقام رجل العلوم النظرية مقابل رجل العلوم التجريبية المواكبة للكشوفات العلمية الحديثة «أوبنهايمر»، ومدى اختلاف نظرتي العالمين للعالم، رغم كون الطرفان من خلفية يهودية، وكلاهما صاحب عقلية علمية استثنائية. لكن أينشتاين مثلاً كان أكثر فهماً للحياة وإدراكاً أن العلوم بإمكانها أن تفتح باباً من العنف غير المحدود، لا يمكن إغلاقه بسهولة حين يتمكن سياسي شعبوي يمتلك كمية محدودة من الأخلاقيات والضمير، من توظيف هذه العلوم في مواجهة آخرين، لإخضاعهم وترويضهم، بل وجعلهم أسواقاً لما ينتجه من منتجات، ويمتلك هذا السياسي عموماً سيلاً من التبريرات التي بإمكانه تسويغها وتسويقها عبر أمثاله من علماء الفلسفة والاجتماع، حين يستدعي الأمر المزيد من السيطرة ضد من يرفض مثل هذا التوظيف للعلوم في غير مكانه، ففي الفيلم نشاهد أن المسوغ لإلقاء القنبلة كان لتقليل عدد الضحايا المحتملين من الأميركيين وإطفاء أوار الحرب العالمية الثانية، وهي حجج ضحلة تم تلقيمها للرأي العام الأميركي والعالم وهي بمثابة ذرائعية مسيطرة على الفكر السياسي الأميركي لتحقيق «السلام الدولي».
في السياق ذاته، يروج كثيرون من أصحاب الاتجاه العلمي الذين يعزلون أنفسهم وعوالمهم وفلسفاتهم واكتشافاتهم عن الأديان السماوية، ويعلنون ليل نهار، أن العلماء يمتلكون أخلاقيات سليمة وضميراً حياً، بمعزل عن منظومة الأديان السماوية وأدبياتها وخطوطها الحمر، بل عن حدود معينة ترسمها هذه الأديان لتقييد الحركة العلمية مخافة أن تصبح سلاحاً فتاكاً، تقع بيد جهة لا تملك الحد الأدنى من القيم الإنسانية، في غفلة من الزمن لتحقيق أهدافها.
وفي الفيلم نشاهد كيلي مورفان يعيش حياة ماجنة، فيها الكثير من الأفكار اليسارية التقدمية، التي لم تمنعه من أن يقدم مع فريقه أسوأ ما تم تقديمه للبشرية من علوم، العلوم الذرية وما تعلق بها، والتي بإمكانها القضاء على الحياة، بكل أشكالها حرفياً، في لحظات معدودة.
حاول صانعوا الفيلم وضع أوبنهايمر بالتوازي مع أسطورة «بروميثيوس» من عمالقة التيتان، مستشار كبير الآلهة زيوس، المتنبئ بالمستقبل، الحكيم بعيد النظر، الذي علم الانسان كيف يشعل النار وكيف يستأنس الحيوانات ويستفيد منها، وفضّل البشر على زيوس.
عبر الفيلم تم استخدام السلاح النووي ضد اليابان التي كانت تترنح قبل السقوط، وبالرغم من ذلك تم استخدامه مرتين، فلم يكن سوى استعراض قوة أميركي – أصلاً أمريكا لم تشارك في الحرب إلا في نهايتها – وكان فعلها الإجرامي عبر قرار الرئيس الأميركي هاري ترومان أشبه بما يفعله حيوان مفترس منتصر يقف فوق جثة غريمه، يُمّثل بها من غير حاجة، ويتقصد إظهار سيطرته وبزوغ إمبراطوريته، وكعادة الحيوانات فهي تترك أثراً من بولها على مناطق نفوذها، وقد رسمته أمريكا بالانشطار النووي للبلوتونيوم واليورانيوم والرعب عبر التسبب بكارثة لم يشبهها مثيل في التاريخ، خلفت ضحايا مدنيين بعشرات الألوف، وأصابت مئات الآلاف من المدنيين بالتشوهات، وحولت ذرياتهم بعد فترة من الزمن لماكينات إنتاجية جبارة تعمل لصالح السيد المسيطر الجديد على قطيع هذا العالم الكبير.
احتوى الفيلم على أسماء ممثلين كبار من نجوم الصف الأول بالإضافة لمخرجه صانع الروائع السينمائية، وبالرغم من كل الألم الذي تم تجاهله في الفيلم على الضفة الأخرى حيث وقعت الواقعة وفتح باب الجحيم على البشرية، شاهدنا فاصلاً كوميدياً ترقيعياً ترفيهياً في اجتماع رفيع المستوى على الصعيد السياسي الأميركي حول كيف تم استبعاد قصف أحد المدن اليابانية من قائمة الأهداف المحتملة من أصل 12 مدينة أخرى لأنها ذات بعد ديني عند اليابانيين، ولأن الوزير أمضى فيها مع زوجته شهر العسل وكان له ذكريات طيبة فيها!
حاول صانعوا الفيلم وضع أوبنهايمر بالتوازي مع أسطورة «بروميثيوس» من عمالقة التيتان، مستشار كبير الآلهة زيوس، المتنبئ بالمستقبل، الحكيم بعيد النظر، الذي علم الانسان كيف يشعل النار وكيف يستأنس الحيوانات ويستفيد منها، وفضّل البشر على زيوس. كما حاول الفيلم إظهار ندم أوبنهايمر، حين وصفه ترومان بـ»البّكاء»، ولكن ندمه كان ولا زال بلا وزن، وقد حاول بعدها أن يحاكي تجربة «نوبل» بالاعتذار، عبر تقديم أسف بدون جدوى، من خلال قيادته لبعض التحركات التي تدعو للتحذير من السلاح النووي، فكان أشبه بحكيم ضل عن الحكمة، يمارس الوعظ ويدعو لأخلاقيات باتت بلا معنى.
كاتب سوري