روبرت أوبنهايمر (1904/1967) أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين يعود إلى واجهة الأحداث العالمية عبر الفيلم السينمائي، الذي خرج إلى صالات العرض يوم 21 يوليو/تموز 2023 تحت عنوان «أوبنهايمر» كتابة وإخراج كريستوفر نولان، والفيلم يحكي قصة العالم الشهير المقتبسة عن كتاب السيرة الذاتية «بروميثيوس الأمريكي انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر» الذي ألفه الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج . شيروين، واقتضى أكثر من عشرين عاما من الإعداد حتى استحق جائزة بوليتزر الأمريكية، وقالت اللجنة بشأنه (في هذه السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر نتعمق في شخصية إحدى الشخصيات البارزة في القرن العشرين وهو فيزيائي لامع قاد جهود بناء القنبلة الذرية لبلاده في زمن الحرب، والذي وجد نفسه في وقت لاحق في مواجهة العواقب الأخلاقية للتقدم العلمي). إنه يغوص في قصة صعود العالم وسقوطه وهو المعروف بالطموح والنجاح العلمي في مواجهته للسياسة الأمريكية ببراغماتيتها ومكيافيليتها، إذ لما تغلب فيه صوت الضمير وانحاز للجانب الإنساني على مطامح الشهرة والنجاح، انتهى نهاية فريدة بين العلماء، وكأنه بروميثيوس قابس النار الذرية التي أشعلها، ثم احترق بنارها وكان أحد ضحاياها في خاتمة المطاف. وكأننا بهذا الفيلم المقتبس عن هذه السيرة نغوص في أعماق التاريخ الحديث من تطور العلم إلى الحرب العظمى إلى الحرب الباردة وأسندت البطولة إلى الممثل الأيرلندي كيليان مورفي في دور أوبنهايمر، في حين أسند دور الزوجة كيلي إلى الممثلة إيميلي بلنت ويفاجئ الفيلم متابعيه بانفجار نووي بلا مؤثرات بصرية، وقد كلف أكثر من مئة مليون دولار ويوزع بواسطة شركة يونفرسال بيكشرز، وسيحتاج إلى 400 مليون دولار لتحقيق أرباح في جميع أنحاء العالم.
فمن هو هذا العالم الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وجعلت هوليوود من سيرة حياته فيلما تتطرق من خلاله إلى أهم أحداث القرن العشرين، فضلا عن تعمق الجوانب النفسية والإنسانية والسياق التاريخي الذي عاش فيه هذا العالم؟
أوبنهايمر اليهودي الألماني الأصل، ولد في نيويورك عام 1904 لأب تاجر ثري وأم فنانة تشكيلية أظهر تفوقا منذ صغره وولعا بدراسة الفيزياء، ونال البكالوريوس من هارفارد عام 1925، كما درس في كامبريدج وكان من مدرسيه العالم الشهير طومسون، وأخيرا حط الرحال في مدينة العلم غوتينغن في ألمانيا وفي جامعتها التي مر عليها 45 عالما من حملة جائزة نوبل، درس على يد العالم الشهير ماكس بورن، وأشرف بورن شخصيا على أطروحته للدكتوراه عام 1927 وربطته في غوتينغن صلات فكرية وعلمية بماكس بلانك وهايزنبرغ وأينشتاين، ليتقلد حين عودته إلى أمريكا منصبا أكاديميا مرموقا في جامعة كاليفورنيا بيركلي ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيات، وتعرف له مساهمات وأبحاث في ميكانيكا الكم منها تقريب بورن- أوبنهايمر ودراسات عن النجوم النيوترونية والثقوب السوداء التي تنبأ بوجودها عام 1935، فهو باختصار الأب المؤسس للمدرسة الأمريكية للفيزياء النظرية ويطلق عليه كذلك لقب أب القنبلة الذرية.
وكان أينشتاين قد وجه رسالة إلى الرئيس روزفلت، يؤكد له فيها حقيقة الانشطار النووي، وسعي النازيين إلى امتلاك السلاح الذري وأنهم جادون في ذلك، وإذا لم تبادر أمريكا إلى امتلاكه فسيكون الأوان قد فات، وتعد هذه الرسالة من العالم الشهير جرس إنذار جعل روزفلت يحث الخطى ويسابق الزمن للمضي قدما في تنفيذ رغبة أينشتاين، التي تحولت لاحقا إلى ما يعرف باسم مشروع مانهاتن عام 1943 وهو الاسم الرمزي لإنتاج القنبلة الذرية بتعاون من كندا وإنكلترا في صحراء لوس ألاموس في ولاية نيومكسيكو، وجند للمهمة السرية والخطيرة أكثر من 1500 عالما في الفيزياء والكيمياء ومن ضباط من الجيش في سرية شديدة، قصد إنتاج البلوتونيوم وعهد إلى أوبنهايمر بتوصية من أينشتاين إدارة مختبر لوس ألاموس. وفي 16 يوليو/تموز 1945 نجح أوبنهايمر مع فريقه في إنتاج أول سلاح غير معروف في ذلك الوقت، إنه السلاح الذي قدر له أن يحسم أمر الحرب العالمية الثانية ويضع مستقبل البشرية على شفير الهاوية، وحضر مع أينشتاين وفيرمي أول تفجير ذري في تلك الصحراء في اختبار ترينيتي، الذي أطلق عليه أوبنهايمر نفسه هذا الاسم مستوحيا إياه من قصيدة للشاعر الإنكليزي جون دون، وكان الانفجار مهولا ومرعبا، فقد تحرر المارد النووي من قمقمه ووضع مصير البشر على المحك، هذا المصير الذي سيكون محفوفا بالمخاطر والمخاوف ويروى أنه قال لحظة الانفجار (الآن أصبحت الموت مدمر العوالم).
ولم ينتظر ترومان طويلا فقد كانت هناك قنبلتان جاهزتان «الرجل البدين» و»الولد الصغير» وحسما للحرب وإرغاما لليابان على الاستسلام تقرر إلقاء القنبلة الأولى على هيروشيما والثانية على ناغازاكي، ما اضطر اليابان إلى الاستسلام وأسدل الستار على إحدى أكثر الحروب البشرية دموية وهولا وتدميرا على مدار التاريخ.
عين أوبنهايمر بعد الحرب مديرا لمعهد الدراسات المتقدمة في برنستون ورئيسا للجنة الاستشارية لهيئة الطاقة الذرية الأمريكية لكنه بعد نجاح تجربة إلقاء القنبلتين على المدينتين اليابانيتين ورؤية حجم الرعب والدمار الذي حاق بهما، والمستقبل القاتم الذي ينتظر البشرية جراء السباق النووي – الذي سيكون مسارا حتميا بسبب انقسام العالم إلى كتلتين متنافرتين – غلب الجانب الأخلاقي والإنساني على حساب مكيافيلية السياسة وذرائعيتها كما انتصر لذاته الإنسانية ولضميره الأخلاقي، فانخرط بعد ذلك للضغط من أجل السيطرة الدولية على السلاح الذري ومنع السباق النووي بمعية أينشتاين وراسل ،وكان رأيهم وضع السلاح الذري في يد هيئة دولية ومنع انتشاره لكن ترومان كان غاضبا منه ويروى أنه قال بشأنه ( لا أريد أن أرى ابن العاهرة في مكتبي) وتعرض لمضايقات بعد معارضته إنتاج القنبلة الهيدروجينية ومنع من الوصول إلى الأسرار العسكرية خلال لقاء حكومي (1949/1950) وجاءت المكارثية نسبة إلى السيناتور جوزيف مكارثي لتزيد من متاعبه وقد اتهمه مع لفيف من العلماء بالميول الحمراء والتآمر والخيانة وضمت القائمة 205 علماء وشخصيات نافذة منهم أينشتاين نفسه وكثير من هذه الاتهامات لم تكن مؤسسة وسميت المكارثية بالإرهاب الثقافي، أو الرعب الأحمر الثاني بعد الرعب الأحمر البلشفي الأول، واتهم أوبنهايمر بالولاء للشيوعية لمجرد أن زوجته كانت شيوعية وانتهى الأمر بتجريده من التصريح الأمني وفرض عزلة أكاديمية عليه ليعيش كئيبا ووحيدا مستسلما إلى التدخين الشره والتفكير في مأساته وفي مصير العالم، والغريب أن أوبنهايمر مرغته السياسة في أوحالها وهو المعروف بالعزوف عنها حتى إنه لم يدر بالأزمة الاقتصادية العالمية 1929 لانخراطه في البحث وعزوفه عن مطالعة الجرائد، ويأتي تجريده من نفوذه السياسي وحصاره، ثم رفض عمل ابنته كمترجمة في الأمم المتحدة وتكرار التهمة بالتعاطف مع الشيوعيين لعزله عن التأثير بعد معارضته الشديدة إنتاج القنبلة الهيدروجينية، ولإسكات صوته الرافض لخطر انتشار السلاح النووي، وعلى الرغم من أن كينيدي وجونسون حاولا رد الاعتبار له بمنحه جائزة فيرمي وتبرئة اللجنة له من تهمة الخيانة والتآمر ودفاع العلماء عنه، إلا أنه عاش تتجاذبه مختلف المشاعر كالإحساس بالهوان والكآبة والخذلان والندم، حتى مات بسرطان الحلق عام 1967 ليسدل الستارعلى حياة واحد من ألمع العقول العلمية وشخصية جدلية تضاربت حولها الآراء جمع في إهابه بين طموح العلم ونوازع النجاح والتفرد فهو فاوست القرن العشرين، الذي باع نفسه للشيطان وإغراءات السياسة ليواجه ضميره الأخلاقي وواجبه الإنساني في نهاية المطاف ويعيش مأساة حقيقية على حساب أعصابه وكيانه الروحي.
كتب آرثر ميلر في مذكراته «انحناءات الزمن» على إثر لقاء جمعه بأوبنهايمر في الستينيات قبل رحيله فوصفه بأنه شديد المرارة والحزن، ويائس من كل شيء وليس بسبب المرض، بل من الاكتئاب بعد إلقاء السلاح الفتاك على هيروشيما وناغازاكي، فقد كان يعتقد أنه صاحب مسؤولية عما حدث، أي مسؤوليته كعالم في وضع السلاح في يد الساسة الذين يفكرون بمنطق مخالف لا يضعون في حسابهم الجوانب الإنسانية والأخلاقية. بينما هو تغلب فيه صوت الضمير بعد بريق النجاح الأول كعالم وصل إلى تنفيذ فكره وتحقيق مبتغاه مدفوعا مثل أينشتاين بهاجس قطع الطريق على النازيين، حتى لا يمتلكوا هذا السلاح، لكن اكتشف في ما بعد أن ترومان من أجل إنهاء الحرب وتهديد السوفييت، لم ير بأسا من تدمير مدينتين فالغاية تبرر الوسيلة، لقد كان ترومان مرعوبا من فكرة امتلاك السوفييت للسلاح النووي بعد ضبط كثير من الجواسيس، وقد أعدمت أمريكا مواطنين أمريكيين هما يوليوس روزنبرغ وزوجته إيثل عام 1953 واتهمتهما بالتجسس لصالح الشيوعية، ولعب العالم الألماني كلاوس فوكس دورا في نقل الأسرار النووية إلى السوفييت عن طريق أشهر جاسوسة في التاريخ، أورسولد ماريا كوتشينسكي «سونيا» التي نقلت 570 وثيقة من أسرار القنبلة إلى السوفييت، تسلمتها من فوكس العالم النووي الذي شارك في تجارب لوس ألاموس وكان هدفهما غير تجاري هو وضع السلاح الذري في يد جهة أخرى لتحقيق التوازن ولمنع أمريكا من التفرد بامتلاكه.
قصة أوبنهايمر قصة عالم جمع في شخصه بين نبوغ العبقري وتوهج العالم وطموح الإنسان في تحقيق أهدافه، لكنه اصطدم برغبة الساسة التي لا تعرف أخلاقا ولا حدودا ولا قيما، إلا المكاسب السياسية فراح ضحية تلك الأطماع وانتهى كنثرة رماد حزينة.
كاتب جزائري