أوراسيا وكازاخستان والاستشراق الذاتي

حجم الخط
0

ضعفت فكرة «الجامعة السلافية» بمرور الزمن بعد أن كان لها في القرنين الماضيين شأو وتألّق وأخذ ورد ثم كوابيس من المرارة والخيبة.
لأجل ذلك لا ترى لهذه الجامعة أثر في التصورات التي تبنتها روسيا الاتحادية حول دورها وتطلعاتها في عالم اليوم، والروابط التي يمكن أن تجمعها مع جوارها، إلا في مناسبات عارضة ولا يُراكم عليها. كمثل تجربة مجموعة «الأخوّة السلافية» بين روسيا وبيلاروسيا وبين صربيا غير المجاورة لهما.
التقليعة التي كان لها مجال للتداول والخوض بشأنها في الزمن ما بعد السوفياتي كانت بالأحرى فكرة الرابطة الأوراسية. أي مجموعة البلدان التي يمكن أن تُحمل على الانتماء الى قارتين في الوقت نفسه، أوروبا وآسيا، وعلى ثقافتين متداخلتين فيها، أوروبية وآسيوية، والتي تشكل في حقيقتها، بالنسبة لأهل الدعوة الأوراسية عالماً قائماً بذاته، قارة لا هي أوروبا ولا هي آسيا.
وعند الأوراسيين الروس تمثّل روسيا القطعة الرئيسية من هذا المدى الأوراسي، وهي المؤهلة لقيادته وجمع شمله. والتركة السوفياتية تتأول بهذا، أي أن الإتحاد السوفياتي ومن قبله الإمبراطورية القيصرية شكلا صيغتين تاريخيتين متعاقبتين للحفاظ على هذه القوة الأوراسية. ما يستفاد منه أيضاً في خطاب الأوراسيين الروس أن تمدد الموسكوب وسيطرتهم تباعاً على تتار الفولغا وتتار القرم والقوقاز والتركستان لا يُشبّه بالاستعمار الأوروبي الغربي ما وراء البحار، على الرغم من كل مآسي التوسع الروسي وأعمال الطرد والإجلاء اللاحقة بأقوام بأسرها مثل شركس البحر الأسود وسواهم.
صحيح أن الفكرة الأوراسية لم تفلح في انتاج حالة تعاضدية منتظمة في المجال الما بعد سوفياتي، لكنها لا تزال تمارس تأثيرها، في حين أن أثر الجامعة السلافية اندثر بعد أن كانت له صولات وجولات في القرنين الماضيين.
والدعوة الى التضامن بين الشعوب المتحدرة من الأرومة السلافية، نظرت لها الكتلة الألمانية في وسط أوروبا سواء الألمان الداخلين في امبراطورية آل هابسبورغ أو الألمان المتأخرة وحدتهم القومية تحت قيادة المملكة البروسية العسكرية على أنها بمثابة تهديد وجودي لها وتمكين لإمبراطورية الموسكوب لاستباحة أوروبا. في المقابل غلب على روسيا القيصرية النظرة الى البانسلافية هذه بشديد ارتياب، وأنها تحوي مخاطرة على قلب النظام الأوتوقراطي وسلالة آل رومانوف. بل رأت في التشديد على رابطة الدم بين الشعوب السلافية محاولة زرع شقاق بين الروس، أكبر الشعوب السلافية الشرقية وبين سلالة آل رومانوف برد أنساب هذه السلالة إلى أصول تويتونية جرمانية أو إلى أصول سكاندينافية سويدية والتشديد على غلبة زيجة أباطرة هذه الأسرة من الألمانيات الى درجة أن واحدة منهن، الألمانية صوفيا هولشتاين غوتورب، لم تتردد بعد زواجها ممن سيصبح القيصر بطرس الثالث وتحولها لأجل ذلك عن اللوثرية الى الأرثوذكسية وتسميها يكاترينا الثانية في الانقلاب عليه، بدعوى أنه ميال هو للمملكة البروسية وجرمانوفيلي الهوى. وكاترينا الثانية ذهبت أكثر من سواها من الأباطرة على ربط مشروعية عرشها بالأرثوذكسية وتبني مشروع انبعاثي للامبراطورية البيزنطية بما في ذلك اشتهاء السيطرة على القسطنطينية، هذا الموال الذي ظل يدغدغ آل رومانوف الى لحظة سقوطهم.
ارتاب النظام القيصري من «البانسلافية الديمقراطية» لكنه حاول في الوقت نفسه إمساك العصا من وسطها. فالرابطة العرقية اللغوية الثقافية هذه كان يمكن الاستناد عليها مثلا لتسويغ ضم بولونيا الى الإمبراطورية الروسية. في المقابل، ظهر باكراً مأزق دعاة التضامن بين الشعوب السلافية. فمن جهة عندهم تطلعات تحررية لهذه الشعوب، لكن من جهة أخرى تضاربت مواقفهم ومواقعهم حيال الإمبراطورية الروسية. بيد أن المشكلة الأساسية التي ظهرت هي محدودية التعويل على مشترك سلافي بين السلاف الشرقيين الأرثوذكس وبين السلاف الغربيين وفي مقدمتهم البولونيين الكاثوليك.
بعد الحرب العالمية الأولى، نشأت عن فكرة الرابطة بين الشعوب السلافية دولتين، تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا. بالطلاق الحبي في الأولى والاحتراب الإثني الدموي في الثانية كانت الفكرة السلافية تختتم أعمالها في تسعينيات القرن الماضي. رابطة الدم واللغة ظهرت أوهن من رابطة الدين والقومية الحديثة، تحديدا في مسار العلاقة بين الكروات السلاف الكاثوليك والصرب السلاف الأرثوذكس. تطايرت أضغاث أحلام داعية الجامعة السلافية نقولا دانييلفسكي في أواخر القرن التاسع عشر في أن الأمور ذاهبة الى ثنائية تضاد بين المتحد السلافي وبين المتحد الأوروبي «الجرماني الروماني».

الأوراسية الكازاخية نشأت كتشديد على أن الفضاء الأوراسي بامتياز هو كازاخستان نفسها وليس روسيا. نشأت هذه الأوراسية الكازاخية كمحاولة رد اعتبار للشعوب التركية في تاريخ الإمبراطورية الروسية

ليس هناك اليوم أي شكل تعاضدي جامع للشعوب المتحدرة من الأرومة السلافية. في المقابل ثمة رابطة تعاون للدول التركية. تضم تركيا وأذربيجان ومعظم بلدان آسيا الوسطى التركوفونية. بل ان المجر انضمت لها كعضو مراقب منذ بضع سنوات. أساسا فكرة الرابطة التركية الجامعة، أو الطورانية، ساقتها نخبة مجرية قبل انتشار هذه الفكرة بين نخب الشعوب الناطقة بمتفرعات عائلة اللغات التركية. فالنخبة المجرية في القرن التاسع عشر رأت في التشديد على الأصول التركية السهوبية للقبائل المجرية البدوية الغازية القديمة قبل توطنها في حوض الدانوب وتنصرها، سبيلا لتفادي الحاق المجريين بالسلاف من جهة، والجرمان من جهة أخرى. واليمين الشعبوي المجري الحاكم بقيادة فيكتور أوربان، ورغم زينوفوبيته تجاه مهاجرين مسلمين محصور جدا عددهم في المجر، الا انه أعاد التشديد على هذه الأصول التركية للمجريين القدماء، لأن هذا يعزز من معنى الخصوصية المجرية في أوروبا.
بالنسبة لمعظم الشعوب السلافية ظهر أن القومية المحددة بدولة أمة هي أولى وأنفع وأجدى من التضامن الرومانسي بين معظم السلاف، وأن الفاصل بين السلاف الكاثوليك وبين السلاف الأرثوذكس ليس من السهل تخطيه بالتشديد على الأصول العرقية المشتركة أو المتخيلة.
في الوقت نفسه، لم يكن بمستطاع روسيا الاكتفاء بفكرة قومية لا تتخطى حدودها، أو تقتصر فقط على الروس الإثنيين، داخل وخارج روسيا الاتحادية. وهذا ما سمح للدعوة الأوراسية بأن تلعب دوراً، لكن هذه الدعوة يمكن التعويل عليها بين روسيا وبين كازاخستان، وليس في اتجاه الأوكران الذي يظهر كلما اتجهت في بلادهم نحو غربها وشمالها التشديد على الانتماء الأوروبي لا الأوراسي. وحتى في بيلاروسيا، رغم الطبيعة التسلطية لنظامها ومشاكله المتزايدة مع بولونيا والاتحاد الأوروبي، الا أن التشديد على الانتماء لأوروبا كبير في هذه الجمهورية. الأوراسية تنفع أكثر لمخاطبة بلدان آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين من موقع روسي هيمني.
الا أن لهذه الأوراسية الروسية ندّ على ما عملت الباحثة مارلين لارويل على تبيانه. اذ ثمة أوراسية كازاخية أيضاً. بالنسبة الى الأوراسيين الروس، روسيا هي سلافية أرثوذكسية أولا انما لها «شرق داخلي» مدى تتاري عليها أن تتصالح معه كي تكون كاملة مكتملة مستغنية عن التغريب. أما بالنسبة للأوراسية الكازاخية فالأمور تطورت بشكل مختلف.
نشأت الدعوة الأوراسية بين مهاجرين روس في فرنسا وألمانيا بعد نهاية الحرب الأهلية الروسية. قسم من هؤلاء نفر من الذين انحازوا في المنفى للخيارات الغرباوية، فأخذوا يطورون بالضد منهم فكرة مدافعة عن الخصوصية الحضارية الروسية، وعلى أن روسيا لا يسعها أن تكون سوى امبراطورية، وسعى رهط منهم بعد ذلك للتصالح مع السلطات السوفياتية والعودة الى بلاده، وتشكيل ما يمكن أن يعرف باليمين الثقافي السوفياتي، هذا اليمين الذي رأى أن الشيوعية اغتراب ومجافاة للأصول الثقافية والروحية الروسية لكنه سجل لها، او للاتحاد السوفياتي، أن أعاد تشكيل الإمبراطورية التي كادت أن تقضي نحبها عندما انهارت سلالة آل رومانوف.
أما الأوراسية الكازاخية فنشأت بخلاف ذلك. كتشديد على أن الفضاء الأوراسي بامتياز هو كازاخستان نفسها وليس روسيا. نشأت هذه الأوراسية الكازاخية كمحاولة رد اعتبار للشعوب التركية في تاريخ الإمبراطورية الروسية والاحتجاج على الفوقية الاستشراقية الروسية بشأنها. في الوقت نفسه يشترك الأوراسيّون الروس كما الكازاخ، على ما تشرح لارويل في التنسب لملهم مشترك، ليف غوميليف، ابن الشاعرة إنا آخماتوفا.
فغوميليف شدد على استمرارية أوراسية قادها التتار في البدء ثم آلت الى السلاف. ولأجل هذا يهتم الأوراسيّون الكازاخ من بإعلاء غوميليف لشأن التتار والقجباق والترك إجمالاً، فيما ينظر اليه الأوراسيّون الروس على أنه يقول بقيادة روسيا لهذا المدى الأوراسي. ومثلما ان الأوراسية جاءت كمكمل للقومية الروسية، في روسيا، فهي جاءت مكملة للقومية الكازاخية، في كازاخستان.
ولأجل ذلك، تظهر لارويل على أن تشديد نظام نور سلطان نزاربييف على أوراسية بلاده ترافق مع تشديده على أنها بلاد للكازاخ قبل بقية الكازاخستانيين، وبما في ذلك للكازاخ خارج كازاخستان، وأنها ليست بأية حال دولة ثنائية القومية، كازاخ وروس، رغم أن تركيبتها الديموغرافية الإثنية تظهر أنها يفترض أن تكون كذلك.
مفارقة غير عابرة هنا، وهي أن الجامعة السلافية انقسمت فيما مضى بين بانسلافية ديمقراطية وبين بانسلافية منقادة للسياسات الأوتوقراطية القيصرية، في المقابل ليس ثمة أوراسية ديموقراطية. بل إن جزءا غير قليل من هذا الاستشراق على الذات عند أوراسيي روسيا أو كازاخستان سواء بسواء يرتبط بالتبرم من الفكرة الديمقراطية بحد ذاتها، وحصر فاعليتها بالغرب وحده.

كاتب لبناني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية