كيف مَرَّ الْخَريفُ عليّ وَلَمْ أَنْتَبهْ؛ مَرَّ كُلُّ الْخَريفِ؛ وتاريخُنا مَرَّ فَوْقَ الرَّصيفِ.. وَلَمْ أَنتبهْ؟ فجأة رن في عقلي جرس، وأنا أقرأ بيت شعر محمود درويش هذا، صرت أردده مع تحوير بسيط، كيف مرّ عليّ الربيع ولم أنتبه؟ ها هي السنوات تتفلت من بين يدي، صرت كبيرا، كبيرا بما يكفي لأن أكون حكيما. خيمة الخريف قبالتي، ورزنامة الحساب خاصتي، لا تشي بفعل فائق فعلته يتفاخر به الأبناء. أنا شخصيا لم يعد يعنيني لا فرح، ولا ترح. لم يعد يعنيني شيء؛ ربما بلادة.. زهد.. نرفانا.. خيبات متكررة، لم يعد يعنيني حتى أن أعرف، تخليت عن روح الحصان البري الجامح، وصرت أتعامل مع نفسي كما يتعامل زعماء المافيا المتقاعدين، أمارس التأمل فقط. لكن لا أنكر أن شعورا خفيا ما زال يثير سعادتي حينما يعطيني أحدهم سنا أقل من سني، سواء تصريحا أو تلميحا، أهو أحد أوهام الخلود، وإكسير الشباب، حلم البشرية الأبدي؟ لا أعرف. وما المانع، التاريخ البشري في مجمله هو تاريخ الوهم. لكن ماذا حدث؟ ما الذي تغير في داخلي، وجعل ما لم يكن يعجبني من عبارات يطربني اليوم؟ وأنا في السابعة عشرة، وما فوقها كنت أنادى في الفضاء العائلي بالأستاذ، لقب كان يفرحني صغيرا. بعدها بسنوات قليلة، أضيفت ألقاب آخرى، وهو ما خلق حالة من انتفاخ الذات المبالغ فيه بلا داعي، انتفاخ ذات يجعلني الآن أضحك خجلا. هذا الإضافات جعلتني أتعامل بعجرفة شديدة مع كل من يناديني باسمي مجردا، أتذكر في عرس لأحد أقارب زوجتي، خرجت من الحفل مغاضبا وزوجتي تلحق بي مستفسرة، «يبدو أن خالك تزوج أمي وأنا لا أعرف، يناديني باسمي مجردا». ضَحِكتْ وصَمَتتْ.
ربما النقطة الوحيدة الجيدة في تقادمنا بالعمر أنها تمنحنا إحساسا بالسلام، ونتشبث بحكمة لاإرادية تنتظرنا على أبواب الكهولة، ونتصالح بلا مبرر مع ما مضى. هذا في حد ذاته جيد، أظن ذلك.
أتذكر يوما ما، أن سائق (ميكروباص) أشار لي بسبابته، واحد يا كابتن، كابتن؟ أتراني أنتعل حذائا رياضيا، أو بيدي شارة الكبتنة؟ كابتن قال. تذكرت هذا السائق وخجلت مما فعلته، وأنا أضبط نفسي متلبسا وفرحا حين ناداني سائق (ميكروباص) آخر بعدها بسنوات طويلة (واحد يا كابتن) فرحت، إذا أنا مازلت يافعا وصغيرا، وشابا. نعم أنا كابتن، المجد لك، يا لك من سائق، إحجز لي أنا الكابتن الكرسيين الأماميين بجوارك. الكرسيان الأماميان اللذان أصبحا علامة سسيولوجية دالة عند المصريين، تشير إلى تفوق طبقي متوهم. من فترة طويلة لم أعد أتذكرها، أصبحت أنادى في الفضاء العائلي «عمو». مرّ الوقت بلا انتباه مني، كبر الأولاد وكبرت البنات، وأصبح مشهدا معتادا أن أقابل إحداهن في مناسبات العائلة الاجتماعية، «شحطة تتأبط ذراع شحطا بلحية»، «وتناديني عمو، أعرفك بخطيبي، أو زوجي فلان؛ فيمد فلانا يده بابتسامة، عريضة، أهلا يا عمو فرصة سعيدة. صرت عما لكتيبة شبابية هائلة، بعضها أصغر مني بأعوام قليلة ويدلف ناحية الكهولة، وما زال يتشبث بي عما له. لكن بلغ كرشيندو المأساة ذروته، حين رفعت إحداهن ابنها الصغير، ووضعته في مقابلتي، سلم على جدك هاني. جدو؟ أنا جدو؟ تحلى بالمنطق يا بن بكري. بما أنني عمها إذا أنا جد رضيعها؛ قاتل الله المنطق يرضينا أحيانا. ورغم المنطق؛ لكن لا أنكر أنني تمنيت لو مسحت تلك الابتسامة البلهاء التي ارتسمت على وجهي، وألقيت بالولد جانبا. إنه الزمن الذي لا يقاوم. عوامل تقادم الوقت وتفلته، لا شيء ينفع حيالها؛ لا أوهام الخلود، ولا إكسير الشباب. ذات نوبة اكتئاب شتوي وسطي جميل، من التي أدخل فيها بين حين وآخر، كنت في الصيدلية في ليلة شتوية، أحضر دواء لنوبات الحساسية التي لا تنتهي، متدثرا ببالطو ومرخيا لحيتي بلا اكتراث. انشق بطن «التوكتوك» فجأة عن جمال أنثوي يهبط منه، ويتجه ناحية باب الصيدلية، امرأة تدك جسدها المكتنز بعباءة سوداء لامعة، وتتجه نحونا، امرأة مكتنزة، ترتدي عباءة سوداء لامعة؛ النموذج الأشد ايروتيكية لي، سواء في مراهقتي، أو حتى الآن، كتلة لحم هائلة، وبالتأكيد دافئة (لا أذكر أنني كنت جزارا فالحا في مراهقتي) بقداسة مزعومه تفرضها منطقتي الجغرافية فقط، أدرت وجهي مشيحا عن الصدر البهيج، والمؤخرة الحضارية. «ليذهب الريجيم إلى الجحيم، الجميلات هن المكتنزات، أما النحيفات فلهن رب اسمه الكريم». فجأة التفتت ناحيتي كتلة اللحم غير عابئة بالصيدلي، وهي تمسك بعلبة دواء، وتناقشني في مدى جدواها، لأن ابنها صغير وهي خائفة عليه. وأنا عمو وأعرف كل شيء. حتى أنت يا فاتنة التوكتوك تناديني عمو؟ إذا عمو ينظر كما يشاء، لا تثريب عليه. ربما النقطة الوحيدة الجيدة في تقادمنا بالعمر أنها تمنحنا إحساسا بالسلام، ونتشبث بحكمة لاإرادية تنتظرنا على أبواب الكهولة، ونتصالح بلا مبرر مع ما مضى. هذا في حد ذاته جيد، أظن ذلك.
٭ كاتب وإعلامي مصري