هذه لحظة قلق عام في القارة الأوروبية. فالصعود غير المسبوق لليمين المتطرف والعنصري في انتخابات البرلمان الأوروبي يضغط بقسوة على السياسة ويستدعي استجابات متنوعة، من دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى انتخابات برلمانية مبكرة في فرنسا إلى مطالبة أصوات نافذة داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا بتصويت البرلمان الفيدرالي على الثقة في حكومة المستشار أولاف شولتز ومن ثم إما تثبيتها حال النتيجة الإيجابية أو الاتجاه إلى انتخابات مبكرة حال سحب الثقة. من جهة أخرى، يختبر استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية قدرة الأوروبيين ذوي المصالح المختلفة على التمسك بسياسة موحدة جوهرها الدعم العسكري والمالي لكييف ومواصلة فرض العقوبات التجارية والاقتصادية على موسكو. تختبر قدرة الأوروبيين في هذا السياق، بينما غياب أفق الحلين العسكري والسياسي يقلق حكوماتهم التي لا تريد تقديم دعم لا يتوقف لكييف ولا إلى ما لا نهاية فرض عقوبات على موسكو تضر اقتصاديات برلين وباريس وروما قبل غيرها. من جهة ثالثة، تعصف بالمجتمعات الأوروبية التفاوتات الشديدة في الموقف من حرب غزة والقضية الفلسطينية، بين قطاعات طلابية وشبابية تحتج على تواطؤ بعض الحكومات الأوروبية مع اليمين الإسرائيلي المتطرف وبين قطاعات شعبية أخرى ترى حكوماتها ملزمة بتحالفها التقليدي مع تل أبيب، بين عواصم كبرلين تقدم الدعم العسكري والمالي لحكومة نتنياهو وعواصم أخرى كمدريد تعترف بالدولة الفلسطينية وتطالب بإنهاء الحرب والانفتاح على مفاوضات سلام لإنهاء الصراع المستعصي منذ عقود طويلة.
لم تعد قوى اليمين المتطرف والعنصري دخيلة على المشاهد الانتخابية والسياسية في عموم أوروبا، بل صارت صاحبة تأييد شعبي واسع يدفع بها إلى موقع الكتلة الثالثة من حيث الحجم (عدد المقاعد في البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي) والتأثير (فرض أولوياتها على أجندة الحكم والسياسة) والقدرة على الحشد الانتخابي (نسب الأصوات التي تستحوذ عليها أحزاب اليمين المتطرف والعنصري). وهي هنا تلي فقط أحزاب يمين الوسط (أحزاب المسيحيين الديمقراطيين) وأحزاب يسار الوسط (الاشتراكيون الديمقراطيون والخضر) وتنفتح أمامها من ثم عديد الفرص إما لتحديد هوية الحكومات والائتلافات الحاكمة أو لشكل من أشكال المشاركة فيها إن المباشرة (هولندا) أو غير المباشرة (السويد).
لم تعد قوى اليمين المتطرف والعنصري دخيلة على المشاهد الانتخابية والسياسية في عموم أوروبا، بل صارت صاحبة تأييد شعبي واسع يدفع بها إلى موقع الكتلة الثالثة من حيث الحجم
ويدفع الصعود غير المسبوق لليمين المتطرف والعنصري إلى حالة من الاستقطاب السياسي والمجتمعي في عديد البلدان الأوروبية ضحيتها الأولى هو التعايش السلمي والخلاق بين الأغلبيات والأقليات في القارة العجوز، وضحيتها الثانية هو القبول العام لتجربة الاندماج الأوروبي ولمؤسسات الاتحاد التي تريد ماري لوبن في فرنسا وحزب البديل لألمانيا والأحزاب المتطرفة في هولندا والسويد تفتيتها، وضحيتها الثالثة هي أجندة السياسة في أوروبا التي لم يعد لها من قضية في الصدارة غير أوضاع الأجانب واللاجئين وكأن قضايا كفقر الأطفال واتساع الفجوة بين الميسورين ومحدودي الدخل وأخطار التغير المناخي لا وزن لها ولا أهمية.
بالقطع، تستنفر أحزاب يمين الوسط وأحزاب اليسار ومعها قطاعات مجتمعية مؤثرة لمواجهة اليمين المتطرف والعنصري، وتتعالى أصوات ذات قبول عام لمطالبة مواطناتهم ومواطنيهم بحسم اختيارهم فإما قبول أوروبا المتنوعة عرقيا والمتسامحة دينيا والمنفتحة (بحساب) على الأجانب واللاجئين وإما التسليم بتحول القارة العجوز إلى قلعة للعنصريين والشوفينيين الذين حتما سيفتتون اتحادها ويصطنعون توترات خطيرة بين أغلبياتها وأقلياتها (النداء الأخير للرياضيين الفرنسيين من أجل التصدي لليمين المتطرف). غير أن الأمر المسلم به أيضا هو أن مواجهة أمثال لوبن وحزب البديل لألمانيا لن تحسم لا اليوم ولا غدا ولن تنهيها لا انتخابات برلمانية مبكرة ولا استيعابهم في ائتلافات حاكمة جديدة.
فقد صار اليمين المتطرف والعنصري من ثوابت السياسة والانتخابات الأوروبية، وصارت قضاياه من مرتكزات النقاش العام ومحددات التفضيلات الشعبية. والشاهد أن القوى والأحزاب التي تصل إلى مثل هذه الوضعية وتمزج بينها وبين عموم الحضور في كافة أركان القارة العجوز لا يتوقع لها التراجع أو الانزواء قريبا، خاصة ونحن نمر عالميا بلحظة يشتد فيها ساعد أقصى اليمين غربا وشرقا وشمالا وجنوبا.
أما مسألة استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية وغياب أفق الحلين العسكري والسياسي، فتختبر في المجتمعات الأوروبية حدود فاعلية التزامها التقليدي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بدرء الصراعات المسلحة عن أراضي القارة العجوز وحلها سلميا (بل واتقاء خطرها مسبقا بأطر مؤسسية كمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي) وقصر التدخلات العسكرية على حالات الضرورة القصوى (الحرب الأهلية في يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن العشرين). اليوم، وبعد تورط الأوروبيين منذ ربيع 2022 في تقديم السلاح والمال لأوكرانيا وفي فرض عقوبات تضرهم هم أيضا اقتصاديا على روسيا ومع غياب أفق الحل، يواجه الأوروبيون سؤال «وماذا بعد» وتتعامل معه حكوماتهم بغموض لا يعجب المواطن. فالأغلبية الساحقة من الأوروبيين، وفقا لاستطلاعات الرأي العام الأخيرة، تريد إنهاء الحرب بحل سلمي وسياسي وترفض مواصلة تقديم الدعم العسكري والمالي باهظ التكلفة لكييف وتضع علامات استفهام على استقبال النازحين من أوكرانيا في بلدان القارة. بل، وترتفع تدريجيا أصوات قوى اليسار المطالبة بوقف الحرب والامتناع عن حصار روسيا وإنهاء العقوبات المفروضة عليها (مثلما حدث في انتخابات البرلمان الأوروبي مع الحزب اليساري الجديد في ألمانيا الذي تقوده السيدة سارة فاجنكنيشت وحصل على 6 بالمائة من أصوات الناخبين في أول مشاركة انتخابية له).
تختبر الحرب الروسية-الأوكرانية عقيدة السلام وحل النزاعات والصراعات داخل القارة العجوز دون حروب ومواجهات عسكرية، وتفرض قلقا واضحا على مواطنات ومواطنين لا يريدون حربا لا تنتهي على أراضيهم ولا يجدون لها مبررا ويطالبون حكوماتهم بالكف عن الركض وراء السياسات الأمريكية التي لها حساباتها الخاصة مع روسيا. وبالمثل، تتنازع أوروبا الحرب في غزة وما يرتبط بها من أمر القضية الفلسطينية والحق المشروع للفلسطينيين في تقرير المصير والدولة المستقلة.
والمحصلة هي لحظة قلق عام في كافة أركان أوروبا لن تزول سريعا أو تنزوي.
كاتب من مصر