للسينما الأمريكية سحرها الخالد الذي يعمي العيون، ويخطف الألباب والأنظار مسلَّحاً كل وقت بالجديد والمدهش. ومن ومضات هذا الجذب القوي شريط ‘أوز العظيم و القوي’ للمخرج ‘سام رايمي’ صاحب فيلم الرعب الشهير في الثمانينات ‘الشر الميت’ EVIL DEAD.’ (1987)، و شريط ‘الرجل العنكبوت’ SPIDER MAN’ بأجزائه الثلاثة.
هو شريط من إنتاج ‘والت ديزني’ ويحمل بصماتها المائزة و وتوابلها الضرورية التي اعتاد عليها المشاهد والمتتابع لإنتاجاتها من قبيل: الضخامة والسحر، والخيال الجامح، والإبهار في الديكورات والإخراج. ثم الأهم: الحكاية التي ينتصر فيها الخير، ويندحر الشر اندحاراً بائناً، وكذا النهاية السعيدة ، والطابع الكوميدي الذي يهون الصراع بين الخير والشر، ويبسطه إلى أبعد الحدود.
تبدأ قصة هذا الفيلم بالبطل ‘أوز’ وهو يقوم بنشاطه اليومي الاعتيادي في خداع الناس وإبهارهم بحيله الطريفة. لكن ذلك لا ينجح تماماً، خاصة عندما تتأزم علاقته بزملائه ، فيسعى أحدهم إلى الانتقام منه، ولا يجد وسيلة للهرب سوى ركوب منطاد. وفي لحظة ما يطير به المنطاد مبتعداً عن الواقع ليقذف به إلى بلاد الأحلام. هناك يكتشف أنهم ينتظرون منقذاً يستطيع إخراجهم منسيطرة ساحرة شريرة، يفترض فيه أن يكون- بدوره- ساحراً ماهراً. تتوالى الأحداث بطريقة متسارعة، و تتناسل الصدف ليقع سوء تفاهم يجعل من بطلنا الدجال الساحر المنشود وتعقد عليه الآمال. لكنه أمام محدودية قدرته وعدم تمكنه من السحر الحقيقي، يستعين بمجموعة من الأصدقاء الذين تقرب إليهم في مدينة ‘أوز’ من أجل محاولة الانتصار على الساحرة الشريرة باستعمال حيله السحرية التي يتقنها. وفعلاً استطاع أن ينتصر وأن يطرد الساحرة وأختها الشريرة إلى الأبد ليصفو له الجو، ويصبح ملكاً متوجاً على ‘أوز’.
إن القصة بسيطة جدا، و هي اعتيادية إلى درجة الإملال في السينما. لكن الإخراج استطاع أن يمنحها حيوية كبرى على مستوى تصور الفضاءات والديكورات، وفكرة بناء الشريط السينمائي ككل. لقد عمد المخرج إلى تخصيص مرحلة البداية بمشاهد بالأبيض والأسود، محطماً أفق توقع المشاهد، ومشعراً إياه ببعض الخيبة أثناء الاحتكاك الأول بالشريط. غير أن حذف الألوان من المشهد الأول، سيكون له تأثير السحر على المشاهد عندما تبدأ لحظة التحول بطيران المنطاد بعيداً عن عالم الواقع إلى عالم الخيال. وهنا تبدأ الألوان بالظهور بطريقة لافتة، وفي منتهى الروعة، فتتجاو تلك البنية اللونية المعتادة حتى في أجمل المناظر الطبيعية؛ فهي أقرب إلى اللوحات التشكيلية السوريالية، حيث الجمال أروع من أن يحيط به وصف: أشياء ومناظرأقرب إلى عالم الخيال، والتي لا يتوانى فيها جِنِّيُّ الأحلام عن أن يظهر أروع ما يستطيع: القرد بأجنحة، والحيوانات الجميلة الصغيرة ذات اللون الوردي والتي يمكن أن تتحول في لمحة بصر إلى وحوش فتاكة، والساحرات اللائي يملكن قوى خارقة يسيطرن بها على الآخرين وعلى البلد، والفتاة الفخارية المليئة بالحركة والحياة…
صحيح أن هناك عناصر ثابتة أشبه بالركائز التي لا تتغير في مثل هذه الأفلام التي تراهن على استقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين من قبيل ‘الصراع بين الأخوات’ و’قزم البلاط العابس’. لكن كل ذلك لم يَحُلْ دون خلق الدهشة، وتحريك انفعالات المتلقي في معظم لقطات ومشاهد الفيلم، ومفاجأته بديكورات رائعة، ونقلات نوعية في الأحداث مثلما هو الأمر عندما يكتشف ‘أوز’ أن الساحرة الشريرة التي طُلِبَ منه التخلص منها هي أطيب أخواتها، وهي الضحية وأختاها هما اللتان حاولتا تنحتيها من طريقهما بعد قتلهما لأبيهما، واستحواذهما على زمام الملك، مما يدفع المتلقي ومسار الأحداث في اتجاه آخر غير الذي بدأت به رحلة ‘أوز’ الساحر المُزَيَّف في بلاد الخيال العجيب ومملكته المستقبلية. ومع ذلك، يبقى جوهر الحكاية على حاله حيث انتصار البطل على الساحرة الشريرة، وإبعادها عن المملكة بالقتل أو الطرد، لتتغير الشخصيات ومرجعياتها فقط على مستوى الشريط.
إن فيلم ‘أوز’ من طينة الأفلام التي هيمنت في الفترة الأخيرة على شباك التذاكر، لكنه- رغم ذلك ـ يشكل بصمة خاصة ومميزة عن أعمال أخرى شبيهة به، استفادت هي أيضاً من الإمكانات الهائلة التي وفرتها التقنيات الجديدة في مجال الحاسوب، ومنها فيلم ‘أليس في بلاد العجائب’ الذي أنتج سنة 2010، وأخرجه ‘تيم بورتون’، ومثل فيه ‘جون ديب’.
كان هذا الفيلم قفزة هائلة على مستوى التلاعب بالديكورات وبناء الفضاءات الخيالية مستفيدا من طبيعة النص وغرائبية أحداثه، غير أن هذه الجمالية الإبداعية في ابتكار الفضاءات وتأثيثها بالغريب والمدهش، وتشكيل رؤية بالشخصيات والأحداث، والتحويرات القليلة التي طرأت على جوهر القصة ، لكن ذلك لم يشفع له لدى المتلقي بسبب سوداويته المفرطة التي تتنافى مع وهج الطفولة واندفاعها وحماسها وجموح خيالها، ولعل ذلك ما فطن إليه المخرج عندما جعل بطلة ‘أليس في بلاد العجائب’ امرأة ناضجة وليس طفلة كما هي في القصة الأصل ، فسحب بذلك منها طاقتها المرحة، ومسح عليها طابع الحزن الذي هيمن على الشريط وأفقد الكثير من بهائه وجماله،
وهذا ما حاول مخرج فيلم ‘أوز’ تفاديه بتجنب السمة الحزينة، و إغراق الشريط في دوامة التراجيديا التي لا يمكن أن تتناسب مع ما يفترضه العجائبي والغرائبي من مَرَحِ وجموح في الفكرة والخيال، وهيمنة للبراءة الطفولية الجميلة.
لا يكتفي شريط’أوز’ إذن – بالخيال الجامح الذي انعكس بارزاً في الديكورات والفضاءات وساحرية المشاهد والمناظر الطبيعية، وبالمرح الذي أتقن استحضاره المخرج من خلال شخصيات السَّاحِرِ المرِح والمخاع، المليء بالتفاؤل، والذي يحاول الاستفادة من الأحداث، ويرى فيها دائما فُرَصاً سانحةَ يجب استغلالها لصالحه مهما كانت صعوبة التحدي وخطورته، لايكتفي بكل ذلك وحيثياته ومستلزماته الإخراجية، وإنما حاول أن يرفع من درجة التحدي عبر المراهنة على عبرة تجعل من الشريط انتصاراً مبرَّراً وبديعاً للخير على الشر، من خلال تحول الشخصية ‘أوز’ من عالم الواقع المخادع المقاتل السوداوي الفاقد للجمال بفقده لحيوية الألوان واكتسائه صبغة ثنائية تتراوح بين السواد والبياض حيث الحياة مليئة بالملل والسكونية والتكرارية القائدة ، إلى عالم الخيال الجميل الماتع العاجِّ بالألوان والحركية المُوَلِّدة للحياة، والتي تعطي للوجود أكثر من معنى وأكثر من نفس.
إن مثل هذه الأشرطة التي تخاطب المتلقي بنوع من الحيوية والحركية والأمل في فضاءات مخيلة مؤثثة بالغريب والعجيب والرافضة لكل تسييج، من شأنها أن تشكل منطقة جذب كبير للمشاهد العربي خاصة فئة الأطفال في غياب البديل القادر على المنافسةّ. و من ثم ، تكون ‘والت ديزني’ مرة أخرى قادرة على تعويض الفراغ الذي تسمح به السينما العربية، و ملء المساحات التي لا يستهدفها خطأ- مبدعونا العرب ، فاتحين بذلك المجال لثقافة سينمائية مسلحة بالخيال و الجرأة و الأمل، و محملة بقيم إنسانية بمرجعيات غربية لتغزو مشاهدا عربيا يبحث عن قبس من الأمل في ظل ما يعيشه من مرارة و حزن و خيبات أمل.
بعض صور الفيلم ‘أوز 2013’ مأخوذة من موقع:
http://www.boxoicemojo.com/movies/’page=media&img=42056&id=oz.htm
مقالة رائعة شكر جزيل للدكتور