مشروع، وقد يكون حيوياً ومنصفاً، التوقف عند دلالات شتى خلف التزامن بين الذكرى الـ30 لتوقيع اتفاقيات أوسلو؛ والذكرى الـ20 لرحيل إدوارد سعيد (1935-2003)، أحد كبار منتقدي تلك الاتفاقيات، والذي اتضح تباعاً أنه كان مصيباً في القسط الأعظم من نقاط معارضته لها.
وفي دلالة أولى، ومن حيث المبدأ ربما، ليس خروجاً عن سياقات أوسلو (السياسية والأمنية والاجتماعية – الاقتصادية والديمغرافية والثقافية…) أنّ اعتراضات سعيد عليها أتت أيضاً من موقعه، واتكاءً على عدّته النقدية والنظرية الرفيعة، في قراءة التجارب الاستعمارية والمشاريع الإمبريالية في المنطقة العربية عموماً، وفلسطين بصفة خاصة أكثر وضوحاً وأعلى راهنية.
وما يضيف دلالة ثانية إلى هذه الأولى أنّ سعيد لم يكن مواطناً أمريكياً – فلسطينياً فقط، أدلى بملاحظات انتقادية ثاقبة ضدّ اتفاقيات أوسلو؛ بل كان أيضاً، كما قد يصحّ القول، أحد كبار الفلسطينيين الذين انخرطوا في العمل الفلسطيني العامّ، إعلامياً وفكرياً وسياسياً وتنظيمياً، وليس ابتداءً من عضوية المجلس الوطني الفلسطيني أو صياغة هذا الخطاب السياسي للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أو تلك الوثيقة الحاسمة أو الإعلان التاريخي.
دلالة ثالثة أنّ اللسان المفوّه، المسلّح بالحجّة والمنطق ولغة الإقناع البليغة، الذي صرف عقوداً في الدفاع عن القضية الفلسطينية في وجه مجموعات الضغط الصهيونية أو المناصرة لدولة الاحتلال في وسائل الإعلام الكبرى المختلفة؛ كان اللسان ذاته الذي كتب عشرات المقالات، بالإنكليزية وبترجمات إلى العربية ولغات أخرى حاسمة، تحذيراً من مخاطر اتفاقيات أوسلو وميادين الأذى العديدة التي ألحقتها وسوف تُلحقها بالشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.
دلالة رابعة أنّ مواقف سعيد من اتفاقيات أوسلو تسببت في توحّد من طراز غريب ونادر، بين قوى إسرائيلية وصهيونية واستشراقية سعيدة تماماً بما أنجزته دولة الاحتلال مع السلطة الفلسطينية، وبين شرائح سلطوية استسلامية وتسووية داخل منظمة «فتح» الأكبر على نطاق منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل الكفاح المسلح التاريخي. وهكذا جاء ذمّ سعيد من أمثال برنارد لويس ودانييل بايبس، ولم يتردد رقباء فتحاويون تابعون لسلطة رام الله في مصادرة ومنع الترجمة العربية لكتاب سعيد «سلام بلا أرض».
دلالة خامسة، ولكنها ليست البتة آخر الدلالات، أنّ عدداً من «أذكياء» التفكير الصهيوني الإسرائيلي، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، وهنا وهناك حيث يسود ولاء أعمى لدولة الاحتلال؛ تنبهوا إلى قوّة المعمار الانتقادي في نظرة سعيد إلى اتفاقيات أوسلو، أكثر (بكثير، وعلى نحو محزن محبط، غير مفاجئ مع ذلك) من «أذكياء» التفكير العربي بصدد القضية الفلسطينية وأبعادها الجيو – سياسية والتاريخية والحضارية.
وبين العواقب الضارّة الكثيرة، الآخذة في التكاثر بمعدّلات جنونية وعنفية وفاشية في ظلّ حكومة الإسرائيلية الحالية تحديداً، والتي يصحّ استحضارها مع استذكار 30 أوسلو و20 سعيد؛ يتوجب التوقف عند التشريح المعمق لظواهر «اندلاق» بعض نُخب السلطة الفلسطينية على رجالات الاحتلال في القطاعات العسكرية والأمنية والسياسية، وحتى تلك الدينية الحاخامية، بدعوى مزيفة عنوانها «إعرفْ عدوّك» تارة، أو بزعم إشاعة مناخات «السلام» وتوطيد «النوايا الحسنة» تارة أخرى. كذلك فإنّ الاطوار الراهنة من انقسامات القوى الفلسطينية تقتضي استئناساً أعمق تأملاً حول الزائف قبل الصادق في سجالات الفصائل الفلسطينية حول مفاوضات ما قبل أوسلو وما بعدها.
ولم يكن غريباً أنّ الغالبية الساحقة من مناوئي أفكار سعيد الانتقادية بصدد اتفاقيات أوسلو ومزالقها، توزعوا بين يسار طفولي ويمين سلفي وليبرالية جوفاء، فلسطينية وعربية وإسرائيلية وعالمية؛ وشكلوا تلك الفسيفساء السياسية والفكرية والسلوكية التي تقبع اليوم على خرائب ما تبقى من تلك المعاهدات الفاسدة القاصرة التي سُمّيت بـ»إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي». بئس المصير، قد يقول قائل ساخط وشامت في آن؛ ولا عزاء لرهط الانبطاح والاستسلام والاستسهال والاستيهام والفساد والتسلط، قد يضيف قارئ حصيف لدروس التاريخ.