انتهى العدوان الإسرائيلي المدمر على قطاع غزة، لكن معاناة الأسر الغزية التي باتت مشردة وعالقة بعد الدمار الواسع الذي حل بها لم تنته بعد. في غزة يسقط مصطلح المناطق الآمنة فكل من فيها معرض للموت في أي لحظة، فالترسانة العسكرية الإسرائيلية عبر سلاح الجو والمدفعية والبحرية الإسرائيلية لا تفرق بين مدني وعسكري، ومدارس الأونروا المنتشرة في مناطق غرب مدينة غزة، أصبحت ملاذاً للمئات من الأسر التي دمرت بيوتها، حيث تمكث في المدارس التابعة لوكالة الغوث قرابة 38 ألف عائلة، تعرضت أحياؤها ومناطقها السكنية لقصف وتدمير أحدث خراباً ودماراً هائلاً، دفع بها إلى ترك منازلها واللجوء إلى تلك المدارس كمأوى بديل ومؤقت لها، ليدخل الغزيون في فصل جديد من فصول الألم والمعاناة.
وشنت إسرائيل عدواناً على قطاع غزة في 10 أيار(مايو) الجاري وصف بالأعنف، وذلك في أعقاب قصف كتائب القسام مدينة القدس رداً على محاولات تهجير أهالي حي الشيخ جراح، حيث دمرت إسرائيل خلال هذا العدوان آلاف المنازل والمنشآت الصناعية والتجارية، إلى جانب تدمير البنية التحتية في القطاع، محدثة في ذلك خسائر بشرية ومادية فادحة.
وارتكبت إسرائيل مجازر بالجملة خلال عدوانها الغاشم على قطاع غزة، الذي يعد الأعنف منذ عدة سنوات، وكان الأطفال والمدنيون الآمنون والعزل بنك أهداف إسرائيل، بعد أن تعمدت الطائرات الإسرائيلية إلقاء عشرات الصواريخ دون سابق إنذار على بيوت المدنيين، ليكون الأطفال والنساء والشيوخ أبرز الأهداف لإيقاع أكبر عدد ممكن من الضحايا والشهداء، والإمعان في استهداف المزيد منهم في جرائم حرب ترتكب عن سبق إصرار وترصد.
وعبر عدد من المواطنين النازحين في مدرسة غزة الجديدة التابعة للأونروا غرب مدينة غزة، عن بالغ استيائهم وتذمرهم الشديد، بعد أن أدخلتهم الحرب الإسرائيلية في أزمات جديدة أكثر تعقيداً واتساعاً، مع غياب أي حلول عاجلة في ظل تهديد مئات الأسر المشردة بالجوع وتفشي الأمراض بينهم، خاصة مع استمرار تفشي وباء كورونا بشكل واسع داخل قطاع غزة.
المواطن وافي نصير (38) عاماً لجأ إلى تلك المدرسة، بعد أن تعرض منزله في مدينة بيت لاهيا الحدودية شمال قطاع غزة للتدمير من قبل الطائرات الحربية الإسرائيلية، 14 فرداً ما بين أطفال ونساء هم أفراد عائلة النازح نصير، منذ أن دمرت الطائرات منزله ويعيش دون أدنى لمقومات الحياة داخل إحدى فصول المدرسة في ظروف إنسانية قاهرة.
يقول النازح نصير في حديثه لـ»القدس العربي» إن «الوضع الذي أعيشه أنا ومئات العائلات داخل المدارس يرثى له، المكان لا يصلح للعيش الأدمي، فنحن كمواطنين عزل ما زلنا نعاني من آثار الحرب الإسرائيلية على غزة صيف 2014 وغير قادرين على أن نتحمل حروبا جديدة ومدمرة».
ويشير إلى أن «أوضاع المواطنين المشردين، تختلف عن الأوضاع التي تعرضنا لها خلال الحروب السابقة، نقضي أياما ولم تأت لنا أي مؤسسة إنسانية أو إغاثية لتقدم الدعم اللازم من الملبس والمأكل والمشرب، حتى أن إسرائيل تمنع ادخال المساعدات للنازحين في مراكز الإيواء، فاستمرار الوضع الذي نحن عليه، يهدد بكارثة إنسانية حقيقية لا تحمد عواقبها».
أما المواطن أحمد قلجة (59) عاماً والنازح إلى تلك المدرسة، فقد عبر خلال حديثه لـ»القدس العربي»: عن بالغ استيائه من الظروف التي يعيشها داخل المدرسة، لا كهرباء ولا مياه صالحة للشرب ولا طعام، فالحياة بوصف المواطن أحمد لا تصلح للعيش الآدمي، والخوف الذى ينتاب المواطن وجميع النازحين، هو بقائهم داخل هذا المركز فترات طويلة، حيث إرتفاع درجات الحرارة داخل الفصول وغياب مصادر التهوية يشكل معاناة إضافية لهم وينذر بتفشي الأمراض بين الأطفال وكبار السن.
ومن أبرز صور المعاناة والمأساة التي واجهت المواطنين العزل في غزة بعد العدوان الإسرائيلي، أن هناك العديد من العائلات تم مسحها من السجل المدني الحكومي، بعد أن دفنتها صواريخ الطائرات تحت أنقاض بيوتها، وما يزيد هذه المعاناة أن غالبية هذه الأسر نجا من أفرادها القليل، ليحملوا ذكريات عائلاتهم طوال فترة حياتهم، فالمواطن عدلي الكولك يعد أحد الناجين من مجزرة عائلة الكولك في شارع الوحدة وسط مدينة غزة، التي راح ضحيتها 37 فرداً من عائلة الكولك جلهم من النساء والأطفال.
يقول عدلي لـ»القدس العربي»: «فقدت خلال العدوان 8 من أفراد عائلتي، بعد أن أسقطت طائرات الاحتلال أطنانا من المتفجرات فوق رؤوسنا، فالبيت الذي نسكن بداخله يخلو من أي نشاط عسكري أو من أي فرد يعمل في المجال العسكري، لكن الاحتلال تعمد بتدمير البيت بدون سابق إنذار، ومكثت تحت الأنقاض 5 ساعات متواصلة، رأيت الموت وسمعت صرخات بعضاً من أفراد العائلة الذين فقدوا أرواحهم، كانت لحظات لا يمكن في أي حال من الأحوال نسيانها».
ولم تقتصر معاناة أهل غزة في هذه الحرب على موت أو فقدان أو إصابة ذويهم، بل إن السياسة الإسرائيلية في هذه الحرب تقوم على أساس إلحاق أكبر أذى بالبنية التحتية، فخطوط الكهرباء والماء والصرف الصحي تعمدت إسرائيل تدميرها لإغراق سكان القطاع في أزمات عالقة، فالعديد من خطوط الكهرباء الرئيسية دمرتها طائرات الاحتلال، إلى جانب أن عددا كبيرا من آبار المياه الرئيسية والمضخات التي تغذى مساحات كبيرة، توقف عن ضخ المياه نتيجة الضرر الفادح الذي أصابها، حتى أن مياه الصرف الصحي باتت تغرق شوارع وأحياء المدن، بعد تدمير الطائرات الخطوط الأرضية باستهدافها الطرق والمفترقات.
داخل حي النصر أحد الأحياء السكنية الكبيرة غرب مدينة غزة، حيث يواجه سكان هذا الحي معاناة قاسية وهي عدم وصول المياه إلى منازلهم منذ قرابة أسبوعين، وبعد التواصل مع الجهات المختصة في بلدية غزة، تبين أن المضخة الرئيسية التي تقوم بنقل المياه إلى هذا الحي، تعطلت نتيجة استهدافها المباشر من قبل الطائرات الإسرائيلية، في حين أن اصلاحها يحتاج إلى أيام طويلة، وهذا يزيد من حدة المعاناة لدى سكان الحي وباقي المناطق الأخرى.
فهذه الأزمة تفاقمت لدى عائلة المواطن أبو وائل صالح، الذي يملك بناية سكنية مكونة من ستة طوابق تضم جميع أفراد أسرته، يشتكي المواطن صالح في حديثه لـ»القدس العربي»: من عدم وصول المياه إلى منزله، وتزداد المعاناة سوءاً مع ارتفاع درجات الحرارة وانتشار الروائح الكريهة داخل منزله نتيجة قلة النظافة، فهذا الحال الذي يعيشه المواطن أبو وائل يتعرض له قرابة 300 ألف نسمة يعيشون في هذا الحي، والذين تضرروا بفعل العدوان الإسرائيلي.