في اليوم العالمي للقبلة، الذي يراه الكثيرون مجرد ماركة تجارية مسجلة، تفرض الكثير من اللوحات الفنية العالمية نفسها علينا، بقوتها الفنية وحضورها القوي عبر التاريخ، لأنها جعلت من القبلة رهاناً يكشف ما يخفيه الإنسان من أحاسيس وأشواق. ليست القبلة فعلاً حسياً طارئاً، ولكنها شكل من أشكال تسامي الروح نحو أعلى المراتب. لنا في لوحات العظماء خير ما يخرج القبلة من السياق التجاري نحو البعد الإنساني مع المحافظة على أناقتها ورونقها وسحرها. قبلة الفنان الإيطالي فرانشيسكو هايز، الموجودة في متحف ميلان، التي أنجزها في 1859، تحمل كل السمات الرومانسية والعاطفية للحقبة، بل والسياسية أيضاً المتعلقة بالوحدة الإيطالية.
قبلة للفنان النمساوي الكبير أوغست كليمت التي أنجزها بين سنتي 1908-1909، التي أثارت جدلاً كبيراً في مكوناتها وموضوعاتها، قبل أن تصبح لوحة مرجعية باعتمادها على الورق المذهب والفنون القديمة. وقبلة بيكاسو 1925، لوحة إشكالية هي الأخرى، جسدت القبلة في خارجها، لكن في جوهرها ذهبت إلى أبعد، الشهوة الذكورية في أقصى حالات اندفاعها المتوحش، على حساب أنوثة في تعبيراتها الرومانسية، تبحث عن حالة وجدانية خارج الغريزي. والقبلة عند النحات الفرنسي أوغست رودان أعطت تجسداً حقيقياً شبيهاً بالواقع، لهذا استمرت في الوجدان الإنساني طويلاً، وما تزال. السجال ليس في قيمة المنحوتة، ولكن في نسبها لرودان بالمعنى الفني للكلمة؟ في بداية مسارها، كانت النحاتة كامي كلوديل تشتغل في ورشة رودان، الذي أحبها ووعدها بزواج ظل معلقاً. كان عملها في ورشته يتلخص في إنجاز أطراف بعض منحوتاته، لدرجة أن ملمسها الكبير بدا واضحاً على أعماله الضخمة التي كانت تغيب فيها التفاصيل، فتركت لمستها الأنيقة والإنسانية على أعماله الفنية. لكنها مكثت في الظل، لأن وضعها الاعتبار في النهاية لا يتعدى كونها عاملة في ورشة رودان، قبل أن تتعقد وضعيتها الصحية وينتهي بها المطاف إلى مستشفى الأمراض العقلية الذي بقيت فيه حتى تاريخ وفاتها في 1943. فامتص موهبتها ومستقبلها الفني. لكن انفصالها عن رودان سمح لها بتطوير أدواتها الجميلة لتتبوأ مرتبة فنية عليا. أعمالها التي قدمتها في تلك الحقبة الوجيزة قبل حصار رودان، تشهد على موهبتها الخلاقة من خلال تماثيلها الصغيرة التي تتبدى فيها تفاصيل المرأة العاشقة بشكل كبير وواضح. فقد غيرت كامي كلوديل في نظام النحت ومقاييسه العالمية التي كانت تعتمد الإدهاش بالضخامة التي اتصف بها رودان، التي تملأ اليوم القصور والحدائق والإدارات الرسمية كبعض البلديات، بدل اعتماد التفاصيل الدقيقة والملامح العميقة؟ فقد أعطت بعملها روحاً جديدة لمنحوتات رودان الذي لم يجد من حل لكآبتها المزمنة إلا الزج بها في مستشفى الأمراض العقلية، حتى الموت، بعد تواطؤ واضح مع أمها بالخصوص، وحتى أخيها الشاعر والدبلوماسي بول كلوديل.
صرخاتها الوحيدة ليسمعها العالم الذكوري الأصم، كانت تمر عبر رسائلها. فقد قامت بالمستحيل لتظل متوازنة، على الرغم من هشاشتها. وقد زرعت الحياة والدفء في الحجر الميت، وفي عيون الناس، وفي قلوبهم، وفي التربة التي كانت تختارها بدقة لتصنع منها منحوتاتها الحية، لكن الثمن الذي دفعته كان ثقيلاً وقاهراً. الشابة الهشة والجريئة، ذات العينين العسليتين، التي بدأت كعاملة في ورشة النحات الفرنسي والعالمي الكبير، غوستاف رودان، أصبحت تحلم بأن تكون المعبرة عن نفسها، في وقت كان فيه رودان نصف إله، بنفس مرتبة زولا وبلزاك في الحقل الأدبي. لم يكن يرى فيها إلاّ المنفذة لسلسلة من أجزاء المنحوتات التي كان يطلبها منها، بالمقاييس التي يحددها لها سلفاً، ويقوم هو بتركيبها لاحقاً. نقاد مختصون في أسلوب رودان يؤكدون أن منحوتته «القبلة» التي رفعته إلى سدة العظماء، فيها الكثير منها. المنحوتة تجسد باولو وفرانشيسكا من شخصيات الكوميدية الإلهية لدانتي أليغيري ( 1265-1321) اللذين قتلهما الزوج المخدوع، وحكم عليهما بالتيه في جهنم. يظهر في المنحوتة جلياً سحر ونعومة ورومانسية كامي كلوديل. حركة الذراعين، وحالة الاستسلام للحبيب كانت قوية جداً ومؤثرة، وهي لا تشبه يقين وصرامة رودان. وهو ما ظلت توكده حتى وهي في مستشفى مونتفيرغ، للأمراض العقلية، متهمة رودان بسرقة جهدها. عندما أنجزت بعض أجزاء القبلة، لم تكن منفذة فقط، لكن فنانة ومبدعة، جسدت عشقها لرودان لدرجة أن غطت عاطفياً على روز التي كانت بمثابة زوجته التي أنجب منها أبناءه، خارج علاقة الزواج. بعد الانفصال أنجزت في 1905 قبلتها من خلال منحوتة حملت اسم الاستسلام l’abandon، بالمعنى العاطفي. منحوتة صغيرة من البرونز، بينت شغفها الفني الكبير من خلال قبلة هي حالة عناق تجلت فيها حرارة اللقاء والاستسلام للحبيب.
أبهرت المختصين بعملها. فقد كان عليها أن تبرز موهبتها ولا تبقى تابعة لأوغست رودان. حلمت بأن تضع حداً لمن سرق منها الأنوار وعذوبتها الفنية. رودان أنكر أن يكون قد أخذ منها شيئاً، لكن لمساتها الأنثوية التي صبغت منحوتاته، بالخصوص القبلة، تبين إلى أي مدى امتص أنوثتها ورشاقتها واستثمرها لصالحه. طبعاً من يسمع إلى مجنونة؟ ظلت تشتكي إلى مختلف المؤسسات سرقة رودان لجهدها وعملها الفني، لكن لا أحد استمع إليها. بل إن رودان حاصرها، بالتأثير على المؤسسات الوطنية التابعة للدولة، الزبون الأساسي للفنانين وقتها، لكيلا تشتري منها أعمالها، قبل أن يجهز عليها بإدخالها مستشفى الأمراض العقلية وتبقى بشكل نهائي. يظل رودان السبب الرئيس الذي يتخفى وراء مأساتها التي لم تمنحها أية فرصة لاستعادة جهودها وموهبتها.
لا شاهد اليوم على مأساتها إلا رسائلها التي كتبتها لعائلتها، أو للمسؤولين في الدولة المشرفين على الفن، الذين تواطأوا مع رودان وأغمضوا أعينهم على آلام كامي كلوديل. كان لرودان سلطة اجتماعية وفنية من الصعب تخطيها. حتى النخبة الثقافية القوية وقتها التي كانت في عمومها بورجوازية مصلحية، أغمضت أعينها على سرقات رودان، وظلت تمجد «القبلة» بوصفها مدرسة في النحت. لم يقف أي من أقطابها مع الحق ضد الظلم، فسلموا بجنونها، وأغلقوا ملفها. لكن في «القبلة» شيء كبير من روح كامي كلوديل، كلما وقفنا أمام هذه المنحوتة العالمية رأينا نعومة قلبها، وأناقة يدها الناعمة وهي تهذب، بإزميلها، خشونة أوغست رودان.
لا حبر يراعك سيدي ؛ دائما ابحث عن المرأة فهي دائما المضحية ومستعدة ان تحرق مثل الشمعه من اجل من تحب ، وحتى ان ينتهي بها الامر الجنوب مثل كامي كلوديل ، هذه القبلة هي صرخة أنثوية حيث المرأة ترى بالقبلة صورة اخرى عن الرجل الذي يعتبرها مفتاح الجسد والشهوة فهي بنظرها تقبيل للروح المعذبة لديها وراء الكواليس مئات مثل كامي اللواتي لهن الفضل بعبقرية وشهرة ذكور عالميين وهن قابعات بالعتمة والظلمة.مقال رائع كعادتك سيدي .