يبدو أن السلطة ليست ذكَراً خالصا، فرغم أن تشكيلها المورفولوجي يوحي بالأنوثة، إلّا أنها بالتأكيد تملك نزوعا ماكرا لتبرير الحصول على «عشبة» القوة والخلود، وتكريس مفهومها العمومي في السلطة والسيطرة، والاستحواذ، بقطع النظر عن إجناسية «المسيطر» إنْ كان في الحكم، أو في النص أو الخطاب، أو في البيت أو في السرير.
حديث النسوية فيه كثير من الغموض والالتباس، إذ يعاني من إشكالات كثيرة، مفهومية ونقدية وتاريخية، فالبعض تساءل عن موته، كما نشرته مجلة «التايم» على غلافها عام 1998٭٭ والبعض الآخر وضعه في سياق أيديولوجي، وحتى نقابي، لكن ما يحدث عربيا بات أقرب للمزايدة والغلو، والبحث عن تعويض أو إشباع، لا علاقة له بالتوصيف، بالمعنى «الهوياتي» بل بالرغبة الشغوفة التي يجللها البحث السري عن تلك السلطة، لاسيما في إطار تفخيخ سلطة المفاهيم، إذ تحوّل الجندر من موضوع في النوع الاجتماعي، إلى موضوع في سايكولوجيا الاضطهاد والانتهاك والسيطرة، والجسد، تحول من طابعه البايولوجي إلى قضية إشكالية تلامس الجنس والقمع والاستلاب، والهوية تجاوزت إطارها التعريفي لتتحول إلى عقدة في التمثيل، والنظرية، من كونها مقاربة لتوليد المعرفة إلى اشتراط يؤسس استراتيجيته على نقد إكراهي للآخر.
تغويل موضوع النسوية، يعني مناكفة التاريخ، والنمط، والنظام الأبوي، لاسيما البحث عن سلطة ما، وعن تحويل مقولات الجنس إلى فواعل «عالية الصوت» في الاحتجاج الاجتماعي، وفي التحليل الثقافي، فضلا عن تشكيل دوال لتلك السلطة عبر السياسي والاجتماعي والإيروتكي والطقوسي، بما فيها الدال الحقوقي، ورغم أن ربط النسوية بالسلطة لا يعني تذكيرها، بقدر ما يعني اصطناع نوعٍ من المديح والتبجيل والاختلاف لخطابها، إذ يكون الجسد فيها هو المحور، وهو الشيفرة التي تحرك علاقة ذلك الجسد باللذة وبالسياق والمنصة والفرجة. حتى يتحول إلى مصدر لتوليد علاقات متعالية، تتبدى عبر الحديث الثقافي عن الجندر والهوية، وعبر الحديث السياسي عن المساواة والحقوق، وحتى عن «الكوتا» في الخيارات الديمقراطية.
النسوية والجنسانية
المجاهرة بـ«موت النسوية» لا يعني تغليب الجنسانية بوصفها جوهرا للجسد، وللعلاقة مع السلطة، أو مع الآخر، بل يعني إعادة تأهيل القوانين العامة لتساعد على معالجة الحياة المهنية والحياة الشخصية للمرأة، بما فيها قوانين الأحوال الشخصية، والإرث والعمل والثقافة، فما يحدث في واقع المرأة العربية يتبدى عبر طبيعة السلطة المركزية، على مستوى التوصيف والتشريع الديني، أو على مستوى الأيديولوجيا المتعالية، أو على مستوى السياق الذي تتموضع فيها مفاهيم غامضة مثل الجنسوية والنسوية والأنثوية، والتي يشتبك فيها القدسي والمُحرّم، والرمزي والطقوسي، الإشهاري والمضمر، وهذا ما يجعلها متورطة في لعبة إزاحة دائما، حيث التحول، والتقنع والإغواء، وحيث السطوة والانتهاك ومواجهة الوجود والآخر، وكلّ ذلك يبحث عن السلطة، عبر أسطرة الجسد، أو عبر تقديسه، أو عبر تمثيله الحكواتي لمواجهة غريزة الموت الشهرياري.
ربط السلطة بالجنوسة، أو تحويل موضوع «النسوية» إلى مادة لتقويض الآخر، هو الرهان الصعب، أو ربما الرهان الهش، لأن خطاب النسوية في جوهره ينطوي على خطاب غامض للسلطة، تلك التي تستنفر اللغة عبر التخيل والحكي والسرد، مثلما تستنفر الآخر، عبر استدعائه إلى الشراكة والمتعة، وباتجاه تحويله إلى علامة وإلى خيار لحديث أكثر غموضا عن هبات ميتافيزيقية تتعلق بالخصب واللذة والتواصل، وعن اشتغالات أيديولوجية، تمنح مفهوم النسوية تداوله واستعماله في تمثيله الاجتماعي والسياسي والحقوقي، الذي اكتسب في الدراسات الثقافية أهمية للحديث عن النسق المضمر، وعن علاقة ذلك بالنصوص والظواهر، حيث تحولت إلى مرجعيات أكثر راديكالية من خلال تعالقها بالفلسفي والنقدي، وباصطناع «سرديات» لها خطابها، الذي وضع مفهوم النسوية في نسق «المقموع» والمهمل والمُهمّش، والذي تكرس تاريخيا عبر سياسات النظام البطرياركي، في تمثيله الأنثروبولوجي، وحتى في تمثيله للمقدس عبر رمزيته وطقوسه وعلاقته، وهذا ما تعمل على صناعته المركزية والشمولية في السلطة، بوصفها منظومة لها مؤسساتها التي تُدير الجسد، وتؤطر الحق، وتُخضع العلاقة مع الآخر إلى سياقات المراقبة والقمع، والتي تسعى منصات النسوية إلى نقدها وتغييرها.
صناعة الخطاب النسوي لا تنفصل عن الصناعة الرمزية للسلطة، فبقدر ما تسعى بعض النساء في سياق الجماعات الحقوقية والنقابية والجندرية إلى تغويل مفهوم «النظرية النسوية» وتكريسها كقوة نقدية ضد المركزية الذكورية، فإن إنتاج ذلك الخطاب وتسويقه لا يتعدى اللغة، إذ هو رهين بجملة من العوامل الموضوعية.
النسوية وتقويض الهيمنة
قد يكون تقويض الهيمنة من أكثر القضايا إثارة في موضوع النسوية، لأنها تعني ـ افتراضا- تقويض سلطة الذكورة، وإعادة توصيف العلاقة مع الآخر على أساس تقوية الهامش، وتجاوز عقدة الانتهاك الإنساني والأيديولوجي والجنسي، لكن ذلك سيقود بالمقابل إلى البحث عن توصيف آخر، ليس بعيدا عن اصطناع نسق مضاد، نسق يتجوهر حول السلطة، وحول الهيمنة، في إطار النص، أو في إطار الطبقة والجماعة ورأس المال، التي ستعود حتما إلى إعادة إنتاج تلك السلطة الاحتوائية، التي تشمل الجندر أيضا، إذ لا شيء خارج السلطة، بدءا من السوق وليس انتهاء بالنص، ولا تسويغ لها خارج ما تحمله النصوص، إذ يكون النص هو المجال التمثيلي الكاشف عن الاحتفاء بالجسد، عبر تمظهراته، وعبر وظيفته في العمل، أو في اللذة، أو عبر ما تتبدى به في الموضة، أو في الفرجة والإعلان والتسويق، أو في اللغة، أو في الطقوس والمقدس.
وأحسب أن ربط ما يسمى بـ«النظرية النسوية» بأطروحات ما بعد الحداثة، وما بعد البنيوية، ليس دقيقا بالكامل، فرغم تعالقها بـ»التقويض» لكنها تظل موضوعا إشكاليا، من الصعب تحديد استراتيجياته، ومصطلحاته، وحتى «نصوصه الخالصة» الصالحة للدرس والمعاينة، وأن التعامل معها سيكون مدعاة لقراءات يختلط فيها الأيديولوجي بالأنثروبولوجي، والطقوسي الرمزي بالجندري، والسياسي بالاجتماعي، والجنسي، لاسيما مايتعلق بـ»ابستم الذكورة» الذي يظل عنوانا رمزيا للسلطة والعنف والفحولة والعمل والجنس، إذ من الصعب تقويضه، لأنه جزء من اللغة والمقدس ومن القوة، وربما هو الرمز الإشباعي لما يسمى بـ«البنية الفوقية» التي تصنعها السلطة الفاعلة، التي تملك وسائل الإنتاج، وتسيطر على قوى الإنتاج، بما فيها قوة المرأة عبر العمل، أو عبر مؤسسة الزواج، أو عبر ملاذات اللهو والبغاء.
النسوية والنص المضاد
صناعة الخطاب النسوي لا تنفصل عن الصناعة الرمزية للسلطة، فبقدر ما تسعى بعض النساء في سياق الجماعات الحقوقية والنقابية والجندرية إلى تغويل مفهوم «النظرية النسوية» وتكريسها كقوة نقدية ضد المركزية الذكورية، فإن إنتاج ذلك الخطاب وتسويقه لا يتعدى اللغة، إذ هو رهين بجملة من العوامل الموضوعية، مثلما هو رهين للعوامل الثقافية التي تسعى دائما إلى أدلجة مفاهيم الصراع والهوية والذات والجنوسة، حيث يكون النص المضاد هو محاولة في الإشهار، والبوح والاعتراف، حيث يتبدى عبر تفخيخ المتخيل النسوي، وعبر وضع المجال الحقوقي في سياق نصوصي تخيلي، وليس في سياق الصراع التاريخي ضد السلطة، وضد النمط، والاستعمار والاحتكار والتابو، وحيث تبدو لعبة الكتابة الأدبية، وكأنها رهانات يتكرس فيها وهم مقاومة العنف الذكوري الرمزي والجندري والحكواتي والجنسي، أكثر من مواجهة العوامل التاريخية التي أسهمت في صناعة الظلم الاجتماعي، وغياب العدالة والحقوق، وجعل المرأة مثال الكائن الاستلابي، التي تعيش فوبيا تمثيلها للمسكوت عنه، ولهواجس الانتهاك و»العوز اللاواعي» للحماية بوصفها ضحية تاريخية للنظام الطبقي والسلطة والمقدس.
سرديات الانتهاك هي الأكثر تمثيلا لموضوعات النص المضاد، فالنساء لسنّ ضحية الرجل بوصفه التمثيلي للذكورة، بل هنّ ضحايا للنظام البطرياركي ومركزيته الأيديولوجية، وأن بطلات ذلك النص لا يظهرنّ إلا بوصفهن المعذبات المغتصبات المنفيات، وكأنهنّ المجال العلاماتي لفكرة القربان والأضحوية، كما في المثيولوجيات القديمة، إذ لا نجد الرجل المنتهك والمغتصب والقاتل يحضر في كثير من الروايات، إلّا بوصفه التمثيلي للسلطة، إذ هو الزعيم الديكتاتور في روايات محسن الرملي، أو هو السجان في روايات لطفية الدليمي، أو هو المنحرف والمشوه الأيديولوجي كما في رواية «الرجع البعيد» لفؤاد التكرلي، أو الإرهابي في رواية «يا مريم» لسنان انطون، أو الميليشاوي المقنع كما في روايات أحمد خلف، أو الجنرال الهارب، والتاجر المتصابي كما في روايات هدية حسين، أو هو رجل الاحتلال المهووس بحكايات ألف ليلة وليلة كما في روايات لميس كاظم وغيرها..
٭٭الدراسات الثقافية: مقدمة نقدية/ سايمون ديورنغ/ ترجمة د. ممدوح يوسف عمران/ المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب/ الكويت العدد 425 سنة 2015 ص277
كاتب عراقي