القاهرة ـ «القدس العربي» : بمرور الوقت تحكم الأزمة الاقتصادية قبضتها على الحكومة والجماهير على حد سواء، وإن كان الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء قد سعى لطمأنة المواطنين، بأن الأوضاع بخير، ودعاهم لأن يتشبثوا بالنعم الكونية، وفي القلب منها الأمن والاستقرار، وإن شح الغذاء وغلت الأسعار.
وفي الصحف المصرية الصادرة أمس الخميس 1 سبتمبر/أيلول كان أمام كتاب صحف الحكومة وغيرهم من المدافعين عن السلطة، مهمة مقدسة تتمثل في نشر التفاؤل والأمل بين المواطنين. ومن القرارات الرئاسية في هذا الشأن: استجاب الرئيس السيسي، لما طرحته الأطراف المشاركة في الحوار الوطني، وقرر الرئيس زيادة الدعم الاستثنائي للأسر الأكثر احتياجا على بطاقات التموين إلى 300 جنيه بدلا من 100. ووجهت وزارة التموين والتجارة الداخلية، رسائل بصرف الخبز المدعم، إلى الأسر المستحقة للدعم الاستثنائي، الذي وجه بصرفه الرئيس السيسي رئيس الجمهورية، لمدة 6 أشهر. ومن أخبار المحاكم: تقدم أشرف نبيل محامي المتهم محمد عادل قاتل الطالبة نيرة أشرف، بمذكرة طعن على الحكم الذي صدر ضد المتهم بإعدامه شنقا إلى محكمة النقض في المنصورة، حيث تتضمن 11 سببا قانونيا.. من جانبه قال المحامي أشرف نبيل: ننبه ونشدد في التنبيه على مستخدمي فيسبوك للتعبير عن تضامنهم مع القضية أو تعاطفهم مع المتهم، بعدم إرسال أي رسائل أو تعليقات أو صور تسيء للمجني عليها رحمها الله، أو أسرتها، أو أي من عائلتها أو محاميها، أو المتعاطفين معها. ومن أخبار الحوادث كذلك: لقيت طفلة صغيرة مصرعها، في قرية أبويط في مركز الواسطي في بني سويف، إثر طعنها بسكين على يد مجهول، داخل شقتها في ظروف غامضة، وتم استدعاء سيارات الإسعاف لنقلها إلى المستشفى.
محنة الأشجار
من بين الذين يخوضون حربا دعما لحماية الاشجار والحدائق كريمة كمال في “المصري اليوم”، التي عبّرت عن غضبها مما يجري: “أحمق من يقطع شجرة كتلك التي عمرها أكثر من ألفي عام ليقيم مكانها مبنى أو كوبري سينهار على أكثر تقدير خلال مئة عام، فتاريخ تلك الشجرة الموجود في حديقة أنطونيادس أقدم من تاريخ 95% من دول العالم”. ما جرى في مصر الجديدة جرى في غيرها، لكن ربما هي النموذج الأمثل لكل ما جرى وما يجري، خاصة في الإسكندرية التي تم تشويه الكورنيش فيها بمبان ضخمة تحجب الرؤية تماما، وتنزع عنه ما كان يتمتع به من امتداد مفتوح على البحر. وأنا أتساءل هنا: أين التنسيق الحضاري؟ ومن الذي يأخذ كل هذه القرارات؟ من الذي أخذ قاعدة أن أي مكان خال يتحول إلى كافيه أو مقهى أو محل؟ أصبح الازدحام والتكدس بالأبنية هو السائد الآن، لم يعد هناك تخطيط، بل استغلال لكل مساحة للاستفادة منها ماديا لتأجيرها، حتى لو نتج في النهاية شيء قبيح يشوه المكان. الواقع أن كثيرين كانوا قد بدأوا يصرخون على مواقع التواصل مما نما إلى علمهم عن بدء العمل داخل الحديقة العريقة، وإزالة بعض الأشجار. وبصرف النظر عما ورد من إنكار بعض المسؤولين، إلا أننى لا أصدق هذا الإنكار، فما جرى في الإسكندرية وما جرى في مصر، يؤكد أن هناك من يمد يده باسم التطوير ليشوّه أجمل ما في بلدنا، وأتمنى أن يثبت أنهم لن يدمروا حديقة أنطونيادس، وأن ما يجري مجرد تقليم للأشجار، كما قالت إحدى المسؤولات.. لكننا لا نستطيع أن ننتظر لنرى، خشية أن نرى تدميرا آخر.. فهل نسينا كيف كانوا يريدون إقامة كوبري يمر من فوق كنيسة البازليك لولا صرخاتنا واعتراضنا وتصدينا بحملة قوية؟ وانظروا لما حدث في مصر الجديدة.. وانظروا لما حدث في كورنيش الإسكندرية..
أقرب للتدمير
تابعت كريمة كمال هجومها: كل يد امتدت بدعوى التطوير شوهت ما هو جميل وقائم منذ عشرات، بل آلاف السنوات.. مصر الجديدة لم تعد هي الحي الهادئ الجميل المقسم بطريقة بسيطة، الذي تستطيع أن تتجول فيه بحرية واستمتاع. أصبح هذا الحي السكني مجرد طريق سريع لمرور السيارات بسرعة في طريقها للعاصمة الإدارية، أما الحي وسكانه فقد أصبحوا غرباء عنه لا يستطيعون التجول فيه كما اعتادوا، لم يعد الحي حيهم، اختلفت المعالم تماما.. والأسوأ هذه المقاهي والكافيتريات، التي أنشئت تحت الكباري، وفي كل بقعة توفرت حتى لو كانت في الأصل مجرد حديقة صغيرة. لا أعرف ما رأي الناس في هذه الأبراج الضخمة التي يخاصمها الجمال، والتي أقيمت بدلا من مثلث ماسبيرو.. لن أتحدث هنا عن ازدحام المنطقة في الأساس، وكيف يمكن لها أن تتحمل مثل هذه الأبراج الضخمة.. سوف أتحدث هنا عن جمال العاصمة، لقد فرحنا بشدة بالتطوير الذي حدث في منطقة وسط البلد، أو القاهرة الخديوية، لأننا نعتز بشدة بتراثنا.. فلماذا لا نضع هذا التراث في حسابنا عندما ننشئ مناطق جديدة بدلا من أن يكون الهدف هو الاستغلال المادي وحده، حتى إن جاء على حساب جمال الموقع؟ القاهرة والإسكندرية ليستا مدينتين حديثتين يمكن العبث بهما بمثل هذه الطريقة.. هاتان مدينتان عريقتان يجب الحفاظ عليهما وعلى ملامحهما، ويكون التدخل فيهما بالترميم والصيانة فقط، وليس بالإطاحة بمعالمهما وبما تتميزان به.. أتمنى ألا تكون هناك نية حقا لتدمير حديقة أنطونيادس.. لكن المشكلة لا تتوقف هنا فقط، بل تمتد إلى الكورنيش والقاهرة ومصر الجديدة، وكل ما نعتز به من أماكن.. إذا لم يكن التنسيق الحضاري هو المسؤول عن كل هذا الذي يجري، فمن المسؤول إذن؟
ورطة الحكومة
لا شك في أن خدمة الدين الخارجي العام، وفق ما يرى هاني سري الدين في “الوفد” خلال العامين المقبلين من أهم الصعوبات التي تواجه الحكومة، في ظل عجز الميزان الدولاري إن جاز التعبير. وفي هذا الخصوص أطلقت الحكومة مؤخرا خطة تقشف في ما يخص استهلاك الطاقة على المستوى العام لتوفير قدر ما من الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الكهرباء، ليتم تصديره إلى الخارج، بما يوفر حصيلة من النقد الأجنبي، التي يُمكن أن تعوض جانبا من التراجع الكبير في العملة الصعبة. وتضمنت أهم محاور الخطة قطع التيار الكهربائي عن المبانى الحكومية كافة، بعد انتهاء مواعيد العمل الرسمية، وخفض إنارة الشوارع والميادين الرئيسية، فضلا عن إغلاق المحال التجارية في الساعة الحادية عشرة ليلا، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى خفض استهلاك الكهرباء، ومن ثم خفض استهلاك الغاز المستخدم في توليدها، وإمكانية تصديره إلى الخارج للاستفادة من العملة الأجنبية. ووفقا لتصريحات المسؤولين في الحكومة فإن مصر تستخدم نحو 60% من إنتاجها من الغاز في توليد الكهرباء، ويبلغ سعر المليون وحدة حرارية من الغاز عالميا نحو ثلاثين دولارا، بينما يبلغ سعر بيعها للمواطنين محليا ثلاثة دولارات، ما يعني أن كل دولار يتم توفيره يساوى عشرة دولارات إضافية للخزانة العامة. ومثل هذا التصور يُمثل توجها محمودا من جانب الحكومة للبحث عن حلول خارج الصندوق، لمشكلة شديدة الوطأة اتسعت آثارها خلال العام الحالي نتيجة انهيار عائدات السياحة بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وخروج استثمارات أجنبية ساخنة، وزيادة أسعار السلع الرئيسية المستوردة من الخارج. لكن في الوقت ذاته، ينبغي دراسة أي توجه في هذا المسار وفقا لمعطياته الكلية، وطرح مستهدفاته بشكل واضح وتفصيلي، مع السعي لضمان عدم تضرر أي قطاعات اقتصادية من أي إجراء تقشف، حتى لا يتكرر سيناريو أزمة الاستيراد، التي حاول فيها البنك المركزي خفض الطلب على العملة الأجنبية، من خلال تقييد الاستيراد، فأدى ذلك إلى توقف الصناعة المحلية توقفا شبه تام، نتيجة عدم توافر الخامات الرئيسية ومستلزمات الإنتاج. إن تفعيل خطة التقشف يدفعنا إلى التفكير في بنود أخرى في الإنفاق الحكومي قد تحتاج إلى بعض المراجعة.
مرض جديد
لدى سامي صبري في “الوفد” ما يدفعنا للقلق: باتت لغة الشارع هي المتحكمة قولا وفعلا.. في المدرسة والجامعة والعمل، وفي كل مكان، بل حتى في بيوت الله التي لم يسلم بعضها من الاشتباكات والمعارك والعنف اللفظي، البعض يرى أن الظروف الاقتصادية الضاغطة هي السبب، وآخرون يتهمون البيت والمدرسة، أما الغالبية العظمى، وأنا منهم يعتقدون أن السبب الرئيسي هو غياب القدوة وفقدان الثقة والأمل في الغد، إضافة إلى النت (وسائل التواصل الاجتماعي) ثم التلفزيون (الفضائيات وبرامج التوك شو). الخطير في هذا المرض الاجتماعي الجديد، أنه لم يعد مقصورا على الجهلاء والأميين والمتسربين من التعليم وناقصي الوعي، وأنصاف المتعلمين، وإنما طال الفئات المتعلمة والمثقفة، بل وصل لحاملي الماجستير والدكتوراه، وغيرهم ممن يفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم، وتحول هذا المرض إلى ظاهرة تحتاج إلى دراسة عاجلة من المختصين. فأينما ذهبت لقضاء أي مصلحة في أي إدارة أو مؤسسة أو حتى دخلت مسرحا أو سينما، تطاردك ألفاظ ما أنزل الله بها من سلطان، سواء كانت من الموظف نفسه أو من الجمهور، وسرعان ما يتحول الاشتباك اللفظي إلى خناقة ومعركة لا تخلو من الدماء، والغريب أن كل ذلك يحدث، ولا أحد يتدخل لفض الخناقة، وإنما تجد الجميع في مشهد المتفرج الصامت، يستمتعون بالخناقة، التي غالبا ما تكون تنفيسا وتفريغا لما يعاني منه الطرفان من ضغوط نفسية وعصبية. هذا الجو غير الطبيعي، لا يمكن أن يكون مناسبا أبدا للعطاء، ويترك بمرور الوقت فلسفة معينة في التعامل مع الآخرين، لا تخلو من البلطجة وفرض السيطرة، حتى لو كان الأمر تافها، ولا يستحق كل هذه الانفعالات، ويصبح لسان حال الجميع أنا ومن بعدى الطوفان، وبدا ذلك واضحا الآن في تعامل التلاميذ والطلاب مع بعضهم بعضا، بل بين الإخوة الأشقاء، فقد يشتبك الأخ مع أخيه ويسيل دمه بسبب فتاة أو مئة جنيه، وقد يضرب بائع خضار أو فاكهة زبونا بالميزان لمجرد أنه اتهمه بالمغالاة، وربما يتجاوز الطالب الجامعي حدوده، ويشتبك مع أستاذه في قاعة المحاضرات، لمجرد أن أستاذه يأمره بالانضباط.
دماء ساخنة
ما بين التفجير إلى حد عودة أشباح الاحتراب الأهلي والتهدئة إلى حد الرهان على إحياء العملية السياسية، التي ماتت إكلينيكيا، يجد العراق نفسه كما اوضح عبد الله السناوي في “الشروق” معلقا على احتمالات وسيناريوهات متناقضة. لليلة طويلة دامية خيمت احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلي جديد على المشهد المأزوم. بدت المنطقة الخضراء، الأكثر تحصينا وتأمينا في العاصمة بغداد حيث تتمركز مؤسسات الدولة والسفارات ومكاتب الصحف والفضائيات الدولية والإقليمية، موقع الصدام المسلح. كان مثيرا للالتفات أن موجة العنف امتدت في الليلة نفسها إلى ساحة الفردوس، أهم ساحات بغداد، التي شهدت الموجة الأولى لزحف قوات الاحتلال الأمريكي عام (2003) وإسقاط تمثال صدام حسين باسم نشر الديمقراطية في العراق. في صباح اليوم التالي تغيرت الصورة من نقيض إلى نقيض بفض الاعتصامين المتناقضين بدواعي طلب التهدئة وصيانة الدم العراقي. المفارقة الأولى في قصة ما جرى، أن طرفي النزاع، التيار الصدري والإطار التنسيقي، ينتسبان إلى بيت واحد يطلق عليه «البيت الشيعي»، فيما أخذت الجماعات السياسية الأخرى التي تنتسب إلى السنة والكرد مسافة محسوبة من النزاع، خشية أن تتورط في ما لا تريده ولا تطيق تكاليفه. المفارقة الثانية، أن طرفي النزاع يختلفان جذريا في توصيف الأزمة العراقية، كلاهما يحمّل الآخر مسؤوليتها الكاملة. «التيار الصدري» يتهم «الإطار التنسيقي» بإفساد الحياة السياسية ونهب مقدرات الدولة، مطالبا بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة وإدخال تعديلات دستورية جراحية لإعادة بناء النظام السياسي، عهد جديد ونظام جديد. و«الإطار التنسيقي» يتهم الصدريين بالتعدي على مؤسسات الدولة وتعطيل العملية السياسية وجر البلاد إلى الفوضى مطالبا بحكومة جديدة تمتثل عمليا لما يريده من سياسات ومصالح. بعبارة الرجل الأول في «الإطار التنسيقي» نوري المالكي رئيس الوزراء الأسبق لثماني سنوات وأمين عام حزب الدعوة الأكثر تشددا، وهو متهم من خصومه في ذمته السياسية والمالية: «القوة لا تخول طرفا أن يحدد البوصلة ويفرضها على الآخرين».
استمعوا للوطن
المفارقة الثالثة، في المشهد العراقي كما يراه عبد الله السناوي، أن كلا الطرفين المتنازعين صلاته ممتدة مع الجار الإيراني بدرجتين مختلفتين، «التيار» يطلب الحق في الاختلاف دون صدام، فيما أغلب أحزاب وقوى «الإطار» أقرب إلى التماهي. كان قرار مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي تعبيرا مباشرا عن علاقات معقدة مع المرجعيات الدينية في قم، لا يقدر أن ينازعها، ولا يتقبل أن يمضي حيث تريد. بعبارة لافتة في نص بيانه: «يظن كثيرون بمن فيهم السيد الحائري، أن هذه القيادة، جاءت بفضلهم أو أمرهم».. «مرجعا قيادته إلى فضل الله أولا، وفيوضات والده الذي لم يتخل عن العراق وشعبه ثانيا».. لا إلى مرجعية الحائري المقيم في قم، أو غيره من المرجعيات خارج العراق. بتوقيته والأجواء المتوترة التي أحاطته استدعى ذلك الإعلان تفلتا واسعا في صفوف أنصار الصدر. جرى اقتحام القصر الحكومي ومؤسسات أخرى في المنطقة الخضراء وعمت الفوضى المكان. بدا الأمن عاجزا عن مواجهة ما يحدث أمامه، لا يريد أن يصطدم مع أحد طرفي النزاع، لكنه مطالب في الوقت نفسه حماية ما تبقى من هيبة واحترام. دخل الطرف الآخر الأكثر تسليحا على الخط وأفلت الزمام تماما في ما يشبه «بروفة حرب أهلية». باليقين يحسب لمقتدى الصدر المبادرة الشجاعة، التي دعا فيها أنصاره للانسحاب خلال ساعة واحدة من محيط المنطقة الخضراء، وإنهاء الاعتصام في مبنى البرلمان، وإلا فإنه سوف يتبرأ من «التيار». وصف ما يحدث بأنه لم يعد ثورة وتياره بـ«المنضبط والمطيع». فكرة «السمع والطاعة» من طبائع الأحزاب الدينية، الأمر نفسه يسري على «الإطار التنسيقي». فى خطوة مماثلة دعا «الإطار» أنصاره المعتصمين في المنطقة الخضراء إلى «العودة سالمين غانمين إلى منازلهم» حتى يستدعيهم مجددا «نداء الوطن». العبارة في نصها ورسائلها تعني أن الأزمة المستحكمة في جميع عناصرها، ما زالت ماثلة في المشهد العراقي، رغم ما جرى من تهدئة موقتة. تجنب العراق الاحتراب الأهلي، لكن أسبابه ما زالت كامنة في انتظار نقطة تفجير جديدة. ساعد على احتواء الخطر أن اللاعبين الرئيسيين الإقليميين والدوليين، لا مصلحة لهم الآن في تفجير الوضع العراقي المأزوم، العالم بأسره بلا استثناء تقريبا حث العراقيين على التهدئة واللجوء إلى الحوار وتجنب الانخراط في العنف. بتلخيص ما: نحن أمام حرب أهلية مؤجلة.
سيظل لغزا
بعد سنوات طويلة في الظل، والكلام لجلال عارف في “الأخبار” رحل غورباتشوف بعد أن تجاوز التسعين، تاركا وراءه أسئلة ما زالت تبحث عن إجابات عما جرى في هذه السنوات المثيرة، وحول دوره الذي سيظل يثير الجدل بين من يراه مصلحا يستحق التكريم، ومن يراه خائنا فتح الطريق لانهيار الاتحاد السوفييتي، وما أعقبه من سنوات إذلال لن ينساها الروس. عندما وصل غورباتشوف إلى قمة الحزب الشيوعى السوفييتي عام 1985 مزيحا من طريقه كل قادة الحزب وأعضاء المكتب السياسي، الذي كان أصغر أعضائه.. كان ذلك تعبيرا عن رغبة أكيدة في التغيير بعد سنوات طويلة من الجمود الذي حكم الاتحاد السوفييتي في سنواته الأخيرة. وعندما أطلق دعوته الإصلاحية تحت اسم “البروسترويكا” أي إعادة البناء، و”الغلاسنوست” أي الشفافية لم يكن متصورا أن ينتهي الأمر في بضع سنوات إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، وأن يكون مصير رجل البروسترويكا هو الرحيل إلى الظل، بعد أن انتهت مهمته. كانت زعيمة بريطانيا ثاتشر هي من اكتشفت أن هناك فرصة للغرب مع غورباتشوف، وهى التي نسجت علاقته مع الرئيس الأمريكي ريغان التي وضعت حدا للحرب الباردة، والسباق النووي أحاطوه – كالعادة – بأضواء “نوبل للسلام”، وبعدسات الإعلام المبهرة، وأحاطوه أيضا بالمساعدين الذين انقلبوا عليه بعد ذلك، ووقفوا في النهاية مع غريمه يلتسين، وهو يقتحم مكتبه مطالبا إياه بالرحيل. هل كان غوربا تشوف، ضحية أحلامه، أم ضحية العجز عن تحويل هذه الأحلام لبرنامج عمل يحقق الإصلاح ويحافظ على الدولة؟ وهل خانه الغرب لأنه كان يريد الانتقام من الاتحاد السوفييتي، أم خانته قلة الخبرة وضغوط سنوات الجحود في موسكو؟ التاريخ يحكم، لكن الواقع يقول إن صاحب “البروسترويكا”، يرحل بعد أن رأى روسيا تتخطى أزمتها، وبوتين يؤكد أن انهيار الاتحاد السوفييتي هو مأساة القرن العشرين، والحرب الباردة. رحل غورباتشوف بعد سنوات طويلة في الظل نعاه الجميع وبقي لغزا.
بحجم كف اليد
بعيدا عن عالم الأطباء وموسوعاتهم العلمية تعلمت خديحة حمودة في “الوطن” من أحاديث العجائز وأمثالهم الشعبية ونوادرهم، أن كلا منا يحمل داخل صدره قلبا بحجم كف يده المغلقة، وأن هذا الجزء الدقيق ينمو معنا ويكبر، حاملا داخله الأحبة والأعزاء، والفرز الأول من البشر الذين يعبرون حياتنا ويتركون بصماتهم وآثارهم وملامحهم محفورة داخل هذا الجزء الذي يشبه كف اليد، ومهما زاد عددهم وبلغ حجمه واصطحبوا معهم مدنا ومنازل وأماكن عمل ودراسة وحياة تحمل المعزة نفسها، فإن لكل منهم مكانا محددا لا يغادره أبدا ولا يتحرك منه، أو ينسحب أو يتزحزح، وقد تدفعه الأيام إلى التواري خلف آخر ربما خجلا أو إرهاقا من مواقف حياتية مشتركة سبّبت له ألما، إلا أنه لا يغادره أبدا. وعندما تمر بنا الأيام والسنون والتجارب السعيدة منها بطعم حلوى الأطفال اللذيذة، التي تذوب في الفم، تاركة مذاقا لا يُنسى ولا يُمحى لفترة طويلة، والحزين أيضا بدموعه وآهاته، فإننا نحتفظ بكل قصة حب وصورها وذكرياتها وهداياها وأوراقها وعطورها وأغانيها ولقطات من أحلامها وبعض من أمنياتها التي لم تتحقق، وآلمتنا داخل نقطة عميقة ثابتة مغلقة سرية لا يصلها أحد مهما حاول، ومهما كانت مكانته لدينا. وفي عالم الاقتصاد والأرقام والأوراق المالية والخزائن الحديدية والعملات المتنوعة والبورصة، قرأنا عن صناديق الاستثمار ودورها في صنع الثروات وتحويل المشاركين فيها إلى عالم الملايين والمليارات، ومن المؤكد أن الأغلبية منا تتمنى لو خاضت تلك التجربة وعاشتها ومارست هذه اللعبة بمخاطرها ونجاحاتها وإخفاقاتها، إلا أن البعض الآخر اختار نوعا مختلفا من تلك الصناديق، فمن أجمل ما يمكن أن نملك (صناديق استثمار الحب)، تلك التي لديها قدرات خارقة نادرة ممتعة وسطوة تنافس ما عرفته البشرية وتكالب عليه الناس ظنا منهم أنه الأمل والمنتهى والهدف الأقوى، ألا وهو سطوة المال.
استثمار القلوب
في صندوق استثمار الحب تقول خديجة حمودة، وضعت كلمات لا تُنسى طارت بي إلى السماء، ورقصت برفقتها وسط السحاب ومعها وبها تعلمت الرضا والحمد والنوم العميق الهادئ المشبع لكل الرغبات والمسيطر على جميع الحواس، وأضفت إليه أسماء أحبتي التي صنعت منها قلادة ضمّت أغلى الأحجار وأندرها وأقواها بريقا ولمعانا، ولأن هذا الصندوق تكون مع أول أيام لي في الحياة ولازمني وما زال حتى الآن، فقد حاولت أن أعرف إلى أي فصيلة ينتمي وكيف خرج للحياة الاقتصادية ذلك الذي منحته اسمه وصفته فوجدت أن تلك المسماة (صناديق الاستثمار) نشأت في القرن التاسع عشر في هولندا، ثم انتقلت منها إلى فرنسا ثم إلى بريطانيا، التي كانت آنذاك في مقدمة الدول الصناعية. وقد ظهرت في الولايات المتحدة لأول مرة في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وظهر لها قانون خاص لتنظيم تكوينها ونشأتها وإدارتها عام 1940، الذي أطلق عليه قانون شركات الاستثمار. وعادة فإن هذا الصندوق يعتبر محفظة لرأس المال ينتمي إلى الكثير من المستثمرين الذين يستخدمونها بشكل جماعي لشراء الأوراق المالية، ويحتفظ كل مستثمر بملكية أسهمه الخاصة ويتحكم فيها.
وإذا كانت تلك الصناديق تدار بواسطة خبراء متخصصين يقومون بعمل دراسات عن أفضل الشركات التي يمكن الاستثمار فيها لضمان أفضل عائد ممكن، كما أنها تعتبر الوسيلة الأكثر ملاءمة لصغار المستثمرين، باعتبار أن الصندوق يحتوى على الكثير من الأسهم والسندات، بالتالي يحصل المستثمر على ميزة التنويع ومخاطر أقل نسبيا من الاستثمار المباشر في البورصة، الأمر الذي يعيدنا إلى صناديق استثمار الحب التي نحتاج من أجلها إلى مجموعة من أطباء القلب وعلماء الطب النفسي والاجتماع والشعراء والملحنين والنحاتين والرسامين، ليضعوا لنا قانونا خاصا بها من واقع خبراتهم، وليقوموا بإعداد الدراسات، بحثا عن أكثر السياسات ملاءمة لإدارتها، لنضمن الاحتفاظ بمحتوياتها والاستمتاع بكل لحظة من الحياة مع سكانها، ولتحقق معهم مليارات من عملة الحب والسعادة.
من المسؤول؟
لدى أشرف البربري في “الشروق” ما يدفعه للتفاؤل: أسعدني الحظ بمشاهدة مسرحية «أنا مش مسؤول» التي تقدمها مجموعة من الفنانين الشباب بقيادة المخرج محمد جبر على مسرح الهوسابير، لأكتشف أنه ما زال هناك من يستطيع أن يقدم فنا مسرحيا ممتعا وخاليا من الابتذال وبأقل الإمكانيات، وأن هناك جمهورا يبحث عن هذه الأعمال. كان اللافت بالنسبة لي حتى قبل بدء العرض، هو الجمهور الكبير نسبيا لأنني لم أتوقع حضور مثل هذا العدد لمسرحية لا تتوافر لها الدعاية التي تستحقها بحكم جودتها ومواهب المشاركين فيها. فالمسرح لم يكن ممتلئا عن آخره، لكن العدد كان كافيا لكي يؤكد أن هناك جمهورا لفن المسرح الذي يكاد ينقرض في مصر، اللهم باستثناء ما تقدمه مسارح الدولة، وبعض المسرحيات التي تنتجها قنوات تلفزيونية بهدف العرض التلفزيوني، وليس العرض المسرحي بشكل أساسي. «أنا مش مسؤول» تأليف محمد عز الدين وبطولة وإخراج محمد جبر مع مجموعة مفرحة من الشباب الذين قدموا عملا كوميديا استعراضيا جيدا في حدود ما هو متاح لهم من إمكانيات مادية، وإن لم يخل بالقطع من أوجه قصور، ترتبط أساسا بضعف الإمكانيات المادية. تلقي المسرحية بالسؤال المطروح دائما على المجتمعات مع كل تدهور في الذوق العام وانحدار في مستوى الفن، وهو: «هل ذوق الجمهور هو المسؤول عن تدهور الفن؟ أم أن الفن الرديء هو الذي أدى إلى تدهور ذوق الجمهور؟».
قوتنا الناعمة
تقول المسرحية التي احتفى بها أشرف البربري، إن المسؤولية مشتركة بين الجمهور والمبدعين، لأن الجمهور عليه البحث عن الأعمال الجيدة المتاحة والحرص على متابعتها وعدم الاستسلام للفن الهابط، وعلى الفنانين الملتزمين عدم التعالي على الجمهور ومحاولة الوصول إلى «الخلطة السحرية» التي تستجيب لما يطرأ على أذواق الناس من تغيير، وفي الوقت نفسه لا يسقطون في فخ الفن الرديء. وجاء تجاوب الجمهور البسيط غالبيته من الشباب لكي يقدم إجابة واضحة على سؤال المسرحية وهي، أن الأعمال الجيدة حتى لو كانت بسيطة ستجد جمهورها، وأن الطفرة التكنولوجية ووجود الأجهزة الذكية ومنصات الترفيه على الإنترنت لم تقض على شغف الشباب بالمسرح وعروضه متى توافرت له فرصة المشاهدة. المسرحية تستحق المشاهدة رغم بساطتها والمشاركون فيها يستحقون المساندة، من كل من يهتم بأمر الفن والثقافة، لأنهم يحاولون تقديم عمل مسرحي جيد، في حدود الإمكانيات المتاحة وبسعر رمزي للتذكرة بما يتيح الفرصة لاستقطاب شرائح بسيطة من الجمهور إلى المسرح، بعد أن تخلى عنه غالبية الفنانين والمنتجين الكبار، ففقدت القاهرة بريقها المسرحي الذي كان من أهم ملامحها السياحية والثقافية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
لن تسامحنا
قبل انتحار الفتاة الجامعية رنا بساعات من موعد حفل تخرجها كتبت ابنة محافظة الدقهلية الكلمات التالية التي اهتمت بها “المشهد”: “أنا حزينة حزينة أوي إني وصلت للمرحلة دي، وأنا بكتب الرسالة دي مش شايفة من كتر الدموع اللي بتنزل من قلبي مش عيني، أنا تعبت تعبت أوي واستحملت كتير أوي، بس أنا إنسانة عندي طاقة مش قادرة أستحمل كل ده لوحدي، أنا بس كنت محتاجة حد يطبطب عليا وياخدني في حضنه، أنا عمري ما حسيت بحنية أم ولا أب ولا إخوات ولا أصحاب، أنا عايشة لوحدي حرفيا رغم وجود الناس دي حوليا، أنا لوحدي والوحدة وحشة أوي ومُتعبة أوي أنا اتهلكت واتأذيت واتخذلت من أقرب ناس ليا، وفي الآخر يتقالي معلش، محدش يكلف نفسه يفكر فيا ولا يفكر في إحساسي، أعيش ليه، أعيش لمين، أنا في الوقت ده كنت عاوزة بس اللي يحسسني إني أستاهل أتحب، وإن حد يفضل معايا عشاني عشان بيحبني”. وأضافت في رسالتها: “أنا حاربت الناس كلها عشان أبقى كويسة وكل محاولاتي فشلت، اتأكدوا إني موصلتش لهنا بسهولة كده لا والله أنا عافرت عشان موصلش بس للأسف الحزن كان أقوى مني، أتمنى ربنا يسامحني ويحاسبني على تعبي وقلة حيلتي مش على عدم إيماني به، حاجة أخيرا أنا كنت لوحدي ودلوقتي لوحدي فأتمنى محدش من أهلي يحضر جنازتي لإني ماشية زعلانة زعلانة منهم كلهم ومش مسامحة في حق نفسي أبدا، ادعولي بالرحمة افتكروني بالخير وأتمنى متنسيش زي ما كنت منسية، وقولوا للشخص اللي ختم نهاية حياتي إنه كان أملي الوحيد وللأسف خذلني، عرفوه إني كنت بحبه عرفووه إني خلاص فارقت الدنيا دي وأنا حزينة وزعلانة على نفسي”. واختتمت رسالتها: “هيعرف بالصدفة إني موت زيه زي ناس كتير أوي كانت في حياتي، حفلة تخرجي بعد بكرة هي مش حفلة تخرجي من الكلية بس ومن الحياة كلها، ادعولي ربنا يسامحني ومحدش يقولي ماتت كفرة لأن الكُفر هو إني أفضل عايشة مأذية ومنسية ووحيدة”.
ربها ارحم بها
نبقى بصحبة المتأثرين بانتحار رنا، بصحبة سحر صابر في “البوابة”: حين يكون الموت أرحم من الحياة، حين يصبح التخلص من الحياة وسيلة للهروب من جحيم الدنيا، حين تكون وصية فتاة في مقتبل عمرها ألا يسير أهلها في جنازتها، حينها فقط قل على الدنيا السلام، في صباح الأربعاء 31 أغسطس/آب 2022، قررت فتاة الدقهلية الذهاب بنفسها لخالقها ليضع بيديه الرحيمتين حدا لعذابها، ويخلصها مما عاشته من جفاء ووحدة وخذلان من الجميع، والأقربون كانوا أولى بالتجاهل والعنف تجاهها، لذا أوصت بعدم سيرهم في جنازتها، ولسنا هنا في مقام مناقشة التخلص من الحياة من الناحية الدينية، فالفتاة بين يدي ربها الآن يحاسبها برحمته لا بعدله، وكلنا نحتاج للفضل والرحمة منه، لا للعدل الإلهي والقصاص الرباني لذنوبنا وهي كالجبال، وحتى كل طاعاتنا لا ترجح إذا وضعت في كفة ميزان مقابل نعمة واحدة في جسدنا كالبصر مثلا، ناهيك عن نعم أخرى في حياتنا عموما، كالستر والمحبة ونقاء السريرة، ورسالتي لكل أب، لكل أم، لكل من في الأسرة الواحدة، كونوا لأبنائكم حصنا ودرعا من وحوش البشر، ثقوا في أبنائكم ولا تتركوهم لاكتساب الخبرات بأنفسهم، فالتجارب مؤلمة، والهزائم قاسية، لا تكتفوا بتوفير المال فقط، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، نحن نربي إنسانا لا دجاجا أو خرافا، كلنا مسؤولون عن نجاحهم وعن فشلهم، عن انتصارهم وعن خيباتهم، عن تقدمهم وعن سقوطهم، كلنا مسؤولون عن سعادتهم أو تعاستهم، والتخلص من الحياة تسبقه أسباب ومقدمات، تؤدي لنتيجة واحدة في النهاية، لذلك علينا أن نسمع لمجرد الهمس من أبنائنا، ولا نسستصغر شررا قد يتحول لنار تحرق حياتهم، فكثيرون لم يطلقوا الرصاص، لكنهم سيفاجأون يوم القيامة بأنهم قتلة، بالإهمال والتنمر والتجاهل.
احذر الآخرين
نصيحة مهمة يقدمها فاروق جويدة في “الأهرام”: سألني صديقي ماذا تفعل مع إنسان احتجت إليه في ساعة ضيق وتخلى عنك وأنت في محنة، وتصورت أنه يمكن أن يراجع نفسه، وتمادى في جفائه حتى تقطعت الخيوط بينكما ومضى كل في طريق.. هل هذا يعني نهاية الحب، أم هو فراق أبدي أم مجرد سحابة عابرة أم شتاء دائم.. قلت كل الأشياء في الحياة لها بداية ونهاية، حتى العمر ميلاد ورحيل، حتى الأيام لا نملك أن نزيدها يوما، والحب مثل كل الأشياء له بداية وله أيضا نهاية.. المهم ألا نترك جرحا أو لحظة حزن وألم، وأصعب الأشياء أن تندم على حبيب تخلى عنك وأنت تحتاجه بجانبك.. الحب قدر جميل ونهايته قدر مكتوب ومن الأفضل أن تترك النهايات ذكريات جميلة، ولا تترك خلفها جراحا دامية.. والحب يمكن أن ينتهي في أي لحظة مثل كل الأقدار، ولكن ينبغي ألا ينتهي في ظروف غامضة ولأسباب مجهولة أن يتخلى الإنسان وأن يبيع وأن يفرط دون أن يبدى سببا، وماذا تفعل إذا واجهت هذه المحنة في مثل هذه المواقف لا نملك إلا أن نستسلم لأقدارنا، لأن قرار البقاء لم يعد في يدنا أمام من اختار الرحيل.. هنا تظهر أشياء كثيرة تثور كرامة مجروحة وكبرياء متمردة وإحساس بأنه لا شيء يستحق الألم، وتصبح النهاية قدرا مكتوبا لم يختره أحد، فلا أنت تمنيت أن تعيش ظروفا صعبة، ولا أنت فرطت حتى تستسلم للنهاية، ولا تحزن على حبيب تخلى لأن معادن الناس تظهر عادة في لحظات الشدائد وتظهر أيضا أخلاق من نحب.. وفي كل الحالات هي دروس نتعلم منها في مشوار الحياة فلا تبالغ في ثقتك فقد يصيبك السهم من أقرب الناس إليك.