في مذكراته عن 24 أيار (مايو) 1950، يوم أكتبُ هذه الساعة، ولكن بعد 70 سنة؛ دوّن الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس (1909 ــ 1990) التالي: “كتبنا الكثير من الوصايا اللطيفة/ التي لم تُفتح قطّ/ ولم يقرأها أحد/ لأننا لم نَمُتْ/ وقلنا أشياء/ لا يقولها المرء إلا مرّة واحدة/ كلمات كبيرة/ متناهية البساطة/ مثل ملاعق في كيس على الظهر/ لأولئك الذين سقطوا قتلى”. كان ريتسوس يكتب من مركز اعتقال للسجناء السياسيين في قرية كونتوبولي، على جزيرة ليمنوس، حيث اعتُقل في خريف 1948؛ وتدويناته تلك سوف يجمعها كتابه “يوميات المنفى”، الذي ستصدر طبعته اليونانية الأولى سنة 1975، وتنقله إلى الإنكليزية كارين إمريش وإدموند كيلي في سنة 2013.
وإلى جانب عيد ميلاد ريتسوس في الأوّل منه، ثمة أكثر من مصادفة تنتمي إلى أيار وتستوجب استذكار الشاعر اليوناني الكبير قبل أن ينقضي هذا الشهر؛ لعلّ في طليعتها، من وجهة نظري بالطبع، حكايته مع قصيدة “شاهدة قبر”. وهذه واحدة من أبكر وأبهى قصائد ريتسوس الطويلة التي استثمرت الكثير من أشكال الشعر الشعبي الغنائي، وحرّكت شرارة ثورة ثقافية عارمة في اليونان مطلع الستينيات؛ خاصة بعد قيام الموسيقار الكبير ميكيس ثيودوراكيس بتلحينها، من منفاه في باريس آنذاك. وكان ريتسوس قد تعمّد اختيار شكل إيقاعي تقليدي في بعض تفاصيله، رغم أنّ الميل الجمالي العامّ ــ في اليونان، وفي العالم أيضاً ــ كان أقرب إلى التجريب والتطوير وتثوير أشكال الشعر بصفة خاصة.
يشهد ريتسوس كما يتوجب أن يفعل الفنان إزاء واقعة لا تعبر العصر ببساطة أو برتابة، بل تسجّل على وجه الدقة منعطفاً إنسانياً أو وجدانياً أو أخلاقياً أو حتى تاريخياً، لا يملك الفنّ رفاه إدارة الظهر له والترفّع عنه
“أردت من خلالها أن أحصّن روح شعبنا، وأن أشدّد على هوّيته الوطنية، من خلال اختيار أوزان تقليدية”، قال ريتسوس سنة 1978؛ مستذكراً أنّ القصيدة ألحّت عليه في أيار 1936، وهو يرقب مشهد أمّ تبكي ولدها المضرّج بدمائه على الإسفلت، في أحد شوارع مدينة ثيسالونيكي، خلال الإضرابات العمالية وحركات الاحتجاج الشعبي. ولم يكن غريباً أنّ القصيدة تعرّضت للإحراق العلني في الساحات والشوارع، على يد زبانية الجنرال ميتاكساس وطغمته العسكرية الدكتاتورية. و”شاهدة قبر” واحدة من ألمع النماذج على شعر يجوز له أن يشهد على عصره، لا كما يفعل المؤرّخ أو الموثّق أو كاتب المنشور السياسي؛ وإنما كما يتوجب أن يفعل الفنان إزاء واقعة لا تعبر العصر ببساطة أو برتابة، بل تسجّل على وجه الدقة منعطفاً إنسانياً أو وجدانياً أو أخلاقياً أو حتى تاريخياً، لا يملك الفنّ رفاه إدارة الظهر له والترفّع عنه.
وهذا لا يعني، البتة كما يصحّ التشديد، أن تنحصر خيارات الشاعر/ الشاهد على عصره في “القصيدة السياسية”، حسب المصطلح الشائع المفتقر إلى كثير من الدقة أو حتى سلامة المعنى والدلالة؛ لأنّ ريتسوس نفسه كتب نماذج فذّة في قصيدة التأمّل المادّي والميتافيزيقي والتصوّفي والسوريالي، وتغنّى كثيراً على منوال كبار شعراء الإغريق القدماء والمحدثين، ولم يكتفِ بعشرات قصائد الحبّ الحسّي والرومانسي بل كتب القصيدة الطويلة “إيروتيكا” التي تعدّ من عيون هذا “الغرض” الشعري على مدار التاريخ.
والشاعر هنا، على غرار ريتسوس، لا يشهد لأنه يستهوي الإشهاد، أو لأنّ مدرسته الفكرية والجمالية تحثه على الانحياز؛ بل، ببساطة بليغة، لأنه هكذا يحيا ويمارس وجوده وفنونه، ولأنّ سلطات الاستبداد تدرك جيداً قِيَم ما يمارس ويكتب فلا تضطهد قصائده وتمنعها وتحرقها علانية في الشوارع، فحسب؛ بل تزجّ به في غياهب السجون، ولا تتردد أحياناً في تصفيته جسدياً. وبهذا المعنى فإنّ الانحياز لا يكون محلياً فقط، كأنْ يكتفي ريتسوس بمقارعة الاستبداد العسكري في اليونان؛ بل يبدو صعباً تماماً ألا يكون كونياً، شجاعاً وجسوراً وفصيحاً، في مساندة القضايا الكبرى و”الخاسرة” منها على وجه الخصوص.
هذا، على سبيل المثال، موقف ريتسوس من القضية الفلسطينية، وتثمينه للفنّ الفلسطيني من خلال استقبال محمود درويش على مسرح أثيني ضمن أمسية حافلة، وتقديمه بحماس لا تأتأة في انحيازه إلى مزيج الحقّ والجمال في القضية كما في الشعر. وكما هو معروف، سبق أن ردّ درويش التحية عبر قصيدته “كحادثة غامضة”، التي يسير مطلعها هكذا:
“في دار بابلو نيرودا، على شاطئ الباسيفيك
تذكرتُ يانيس ريتسوس.
كانت أثينا ترحّب بالقادمين من البحر،
في مسرح دائري مضاء بصرخة ريتسوس:
(آه فلسطينُ
يا اسم التراب،
ويا اسم السماء،
ستنتصرين…)
وعانقني، ثم قدّمني شاهراً شارة النصر:
(هذا أخي)
فشعرتُ بأني انتصرتُ
وأني انكسرتُ كقطعة ماس
فلم يبقَ مني سوى الضوء”.
ويبقى أنّ ريتسوس أعطى الشعر اليوناني، والإنسانية جمعاء، حفنة من القصائد الخالدة، الرفيعة في التزامها، الجسورة تماماً في خياراتها الفنّية، والمنصتة عميقاً إلى أصفى ما تختزنه النفس الإنسانية من مزيج الغنائية والشجن، الفرح والرثاء، والحسّ والتأمل. ولعلّنا نتذكّر، على الفور، أن ريتسوس كان أوّل مَنْ استخدم تعبير “الملحمية الغنائية” في توصيف شعر محمود درويش، من باب امتداحه، هو اليوناني العريق الذي كان يدرك أقدار اقتران الملحمة بالغناء، في حياة فلسطيني كُتب عليه أن يكون بطولياً كلّ يوم، شاء أم أبى، وأن يغنّي ولادته الإنسانية في كلّ محنة.
حبذا لو استشهد الكاتب في مقاله عن ريتسوس ببعض من شعر ريتسوس نفسه، بدلا من أن يكتفي بشيء من رد درويش الشعري على تحية ريتسوس،
خاصة وأن الكاتب ذاته أنهى مقاله عن ريتسوس قائلا: /ويبقى أنّ ريتسوس أعطى الشعر اليوناني، والإنسانية جمعاء، حفنة من القصائد الخالدة، الرفيعة في التزامها، الجسورة تماماً في خياراتها الفنّية، والمنصتة عميقاً إلى أصفى ما تختزنه النفس الإنسانية من مزيج الغنائية والشجن، الفرح والرثاء، والحسّ والتأمل/..!!
/وأني انكسرتُ كقطعة ماس / فلم يبقَ مني سوى الضوء” /..
نسيت أن أعلق على واحد من الاستيهامات /أو حتى الأكاذيب/ الشعرية التي تؤخذ على شعر محمود دروش /بطل الكاتب الشعري/، وهو /أي درويش/ الذي يمتاز شعره بالواقعية الصارمة وإلى حد “الدقة العلمية” في التوصيف في كثير من الادعاء..
من المعروف أن حجر الماس هو أقسى أنواع الأحجار النفيسة على وجه الأرض /حتى أقسى من الحديد والفولاذ بالذات، كما يؤكد علماء الفيزياء والكيمياء/.. فمن سابع المستحيل، أو بالكاد التابع، لأية قطعة ماس حقيقي أن تنكسر بتلك “السهولة الشعرية” التي يتصورها درويش في شعوره الاستيهامي والوهمي ذاك.. !!
** محمود دروش
** محمود درويش
يجب أن تعلم (أو تعلمي) أن الكاتب مقيد بمساحة محددة لا يستطيع تجاوزها وبالتالي لا يتاح له المجال أن يطيل الشرح أو أن يسوق الكثير من الشواهد. أعتقد أن الكاتب المبدع صبحي الحديد أثار الموضوع وكان موفقاً فيه اي التعريف بشاعر يوناني ربما يجهله الكثيرون وترك الحبل على الغارب للقراء أن يبحثوا بأنفسهم عن إبداعات الشاعر وأن ينتقوا من شعره ما يحلو لهم. أم أنكم تريدون البيضة المسلوقة أن تكون مقشرة أيضاً وجاهزة للأكل وفوق ذلك تريدون من يلقمكم الطعام. هذا كثير في مساحة ضيقة للكتابة وعلى كل حال يجب أن نشكر القدس العربي على إتاحة الفرصة للمبدع الأستاذ صبحي الحديدي الذي يأخذنا كل مرة إلى عوالم جديدة!
تحية خاصة إلى الأخت الأستاذة الدكتورة على ملاحظاتها الثاقبة كما عهدناها، ملاحظات دوما تغني نص المقال بالجانب النقدي الهادف والبناء ، شاء المدعو المراقب المتطفل الذي يقول كلامه الفظ المعتاد دون يعيه أم أبى !!!؟؟
طبعا التحية الخاصة موجهة إلى الأخت الأستاذة الدكتورة آصال أبسال !!؟؟
يتمثل شعر ريتسوس ببساطة كلماته وعمق معانيه وربما هذا كان سببا في انتشاره. كما قال جاحظنا الكلمات مطروحة في الطريق والخير للمعاني. فالمتنبي قال: الخيل والليل والبيداء تعرفني .. كلمات بسيطة علقت في ذهن كل العرب. ودرويش الكبير تأثر بلوركا وبريتسوس ايضا
شكرا عزيزي صبحي
نعم،آصال.ليته فعل.
طبعا التحية الخاصة موجهة إلى الأخت الأستاذة الدكتورة آصال أبسال !!؟؟
رغم ومن خلال نقاشاتي مع يونانيون ممن عاصروا الديكتاتورية في اليونان ويذكرون أنهم كانوا وطنيون وشرفاء و انجزوا الكثير لبلدهم وكانوا نسبة لما نراه اليوم من المجرمين في البلاد العربيه أفضل من أي حاكم ممن يحكمون الٱن و قد تركوا الحكم بعد ثورة طلابية، شعبية قتل فيها ثمانية عشر شخصا ولم يغادروا البلد معرضين أنفسهم للمحاكمة والسجن وجلهم توفوا فقراء