يتناول دي كوينسي في كتابه «أيام إيمانويل كانط الأخيرة» ترجمة عبدالمنعم المحجوب دار ميسكيلياني، سؤالا رئيسيا وهو كيف كان يعيش كانط أيامه الأخيرة؟ لاسيما أن معيار الأيام الأخيرة وسيلة شديدة الإحكام والتجرد، لمشاهدة موجز رحلة كانط، وهو كتاب اعتمد دي كوينسي في إخراجه على السجلات الأصلية لأصدقاء كانط وتلاميذه، لاستخلاص نبذة عن حياته وعاداته الشخصية. وعلى الرغم من أن نهاية الكتاب تودي بالقارئ إلى أن الموت يحسم النهاية لصالحه في العادة، على الرغم من ذلك، فتأمل الأيام الأخيرة في حياة كانط وعاداته اليومية، ربما يهب القارئ شيئا من اليقين بتقدير قيمة الحياة والموت معا، وهو ما يبدو جليا في تلك العادات اليومية المفعمة بالحياة، ورؤيته للموت من منظور عام للحياة، وتقبله له بصدر رحب، وهي بنية ربما تعطي الإنسان وسيلة للحفاظ عليه من الانزلاق إلى مناطق العبث واللاجدوى. فشتان بين أن تنظر للحياة بمنظور الموت، وأن تنظر للموت بمنظور الحياة.
منهج دي كوينسي
يوشك المنهج الذي اتبعه دي كوينسي في تتبع هذه الأيام، أن يكون نوعا من التجربة وضعت حياة كانط وعاداته اليومية في مسرحين مختلفين، مسرح الممارسة اليومية المعتادة الممتلئة بالحياة، ومسرح الأيام الأخيرة، لمشاهدة التحول للعادات الشخصية نفسها في سياقين مختلفين لرؤية النتائج. وهو يؤدي في النهاية إلى أن الأيام الأخيرة ما هى سوى لحظات المفارقة التدريجية لما عاشه الإنسان واعتاده واندمج فيه بروحه، إلى نوع من فقدان شهية عام للحياة وفك تدريجي لوشائجها ويتشكل ذلك عبر ثلاثة مستويات، الأول نبذة عن نشأته وتطوره، والثاني عاداته اليومية، والثالث الأيام الأخيرة من حياته، فيرى الكاتب أن السير الذاتية التي تناولت حياة كانط أجمعت على أننا أمام شخصية قوية، ظلت منتصره حتى آخر لحظة على كل الصعاب من الملكات الذهنية المضمحلة، أو الآلام الجسدية والاكئتاب، رغم تفاقمها في أيامه الأخيرة.
نشأة كانط وتطوره
منذ نشأته ذاق كانط شظف العيش، وعانى بنفسه العوز والحاجه في شبابه، لكنه لم يضطر للاقتراض من أحد، وعمل مربيا خاصا لأبناء بعض العائلات، وكان محاضرا لفن إقامة التحصينات العسكرية، وكان جمهوره من رجال الجيش في كونيغسبرغ، وتم تعيينه وهو في عمر 45 في الجامعة ليتولى كرسي الرياضيات، لكنه استبدله بعد فترة وجيزة بكرسي المنطق والميتافيزيقا، ونشر كتابه الأهم نقد العقل المحض، وهو في عمر 57 عاما، والملاحظ سيجد سيرة شخصية أمام اختبارات صعبة تجاوزتها بشغف السؤال واكتناه الحقائق والحيطة بالعلم والامتلاء بالحياة.
الحياة في عاداته اليومية
تجسد عاداته اليومية الحياة في أعظم تجليات معانيها، في عادات مفعمة بالنشاط، تحاط بسياج من الشروط، تدفع إلى إخراج اللحظة الحياتية بأكبر قدر من المتعة، فنشاهد استيقاظه المبكر والاستمتاع بشرب القهوة، حياة الجامعة، ومتابعة أخبار تلاميذه السابقين، والسعادة بنجاحهم، الجلوس إلى مكتبه، القراءة ومنهجه في التعامل مع الكتب، وتصنيفه لها ما إذا كانت تستحق التأمل أو لا، والاستمتاع بكل كتاب جديد يتم نشره، والسعادة بالسخاء والعطاء. ويمثل الإعداد لحفلات العشاء مع اصدقائه، كما يصفه دي كوينسي ذروة الاستمتاع بالحياة، وهي حفلة صغيرة كان يحرص على إقامتها ضمن شروط صارمة من خمسة إلى ثمانية من أصدقائه، وضمن قاعدتين كان يراقب تنفيذهما بدقة متناهية، الأولى: أن يكون المدعوون متنوعي التخصصات لضمان قدر كاف من تنوع المحادثة، والثانية الحرص على وجود عدد مناسب من الشبان صغار السن، لإضفاء نوع من المرح والدعابة على المحادثة. ونلاحظ نظاما صارما لا شك، لكنه نظام تحول إلى طقوس حياتية تهدف إلى ممارسة الحياة بأكبر قدر من المتعة.
أيام كانط الأخيرة
وفي أيامه الأخيرة نلاحظ تحولا تدريجيا للإحساس بالحياة وبالطبيعة، والضجر بالوقت، واستعجال وصول الصيف، وحزنه الشديد على غياب العصفور الدوري الذي كان يغرد لسنوات أمام نافذته، ومعاناة آلام اضطرابات المعدة، ومقاومة اضمحلال الملكات العقلية، وكلها مظاهر للانسلاخ التدريجي من الواقع، والتسليم المطمئن لهذه الحقيقة الأبدية الموت. لقد عاش كانط مقدرا لكل متعة تقدمها الحياة فهي السبيل الوحيد لمحو الخوف الطفولي من الموت، وهو منهج واضح المعالم للتغلب على الخوف من الموت، بالقيام بواجب ممارسة خير الحياة إلى أقصى درجة، وهو ما عبر عنه في أحد لقاءاته بنبرة جدية صادقة، ميزت أسلوبه وكلماته «أيها السادة أنا لا أخشى الموت أؤكد لكم.. لقد عشت ثمانين سنة، ففي أي وقت قد ألحقت الأذي بالناس أليست المسألة على خلاف ذلك».
وفي الفيلم الذي أخرجه المخرج الفرنسي فيليب كولين، وحمل عنوان الكتاب نفسه «أيام إيمانويل كانط الأخيرة» لدي كوينسى، ينقل لنا المشهد الأخير للفيلم، كانط وهو يمشى بين الاشجار، ينتقل من الظل إلى ضوء الشمس، ويختفى رويدا رويدا، وفي الخلفية تغريد مستمر للعصفور الدوري.
الترجمة
تبقى ملاحظة أخيرة حول الترجمة، مقارنة بين النص الإنكليزي لدي كوينسي والنص العربي، نلاحظ أن الترجمة تجاوزت بعض العبارات التي أخلت بالمعنى في المقدمة التي وضعها دي كوينسي للكتاب، وذلك في عبارة «فإنه لا يوجد فيلسوف على الإطلاق باستثناء أرسطو، يستطيع الادعاء بأنه يضاهي كانط في مدى التأثير الذي مارسه في عقول البشر» في حين أنها في الأصل الإنكليزي تنص على «فإنه لا يوجد فيلسوف على الإطلاق باستثناء أرسطو، وديكارت، ولوك….» بالإضافة إلى ذلك هناك اختصار واضح لهوامش الكتاب، بشكل أخل بالهوامش في الأصل الإنكليزي، ومن ناحية أخرى لم تتم الإشارة إلى أي نسخة تم الاعتماد عليها في الترجمة، سوى عبارة «العنوان الأصلي الذي تم الاعتماد عليه هو….» في حين أن المقارن للنسخ المترجمة للكتاب إلى اللغات الأخرى مثل، الفرنسية والإيطالية والإسبانية، يجد التزاما واضحا بالنص الأصلى والهوامش، ودور النشر المأخوذ عنها الترجمة، بالإضافة إلى مقدمات وافية عن الكتاب ومعظمها مأخوذة عن نسخة الأعمال الكاملة لدي كوينسي الجزء الثالث. وفي النهاية سيبقى كانط وحياته ومنهجه وأعماله جديرا على الإطلاق بالاطلاع عليها وتأملها والتعلم منها.
كاتب من فلسطين
شكراً لك على هذه القراءة.
لقد اعتمدتُ في ترجمتي الطبعةَ الأصلية التي صدرت عام 1827، ولا أساس عن أسماء أخرى بعد اسم أرسطو في المقدمة، أما الهوامش فهي من وضعي إذ لا وجود لها أصلاً في الكتاب، وأشير إلى أن هناك عشرات الطبعات من هذا العمل، ولكنني فضلت اعتماد الطبعة الأولى.