تراجعت كل العناوين السياسية، في أولويات الرأي العام، ليتصدر فايروس لا يرى بالعين المجردة اهتمامات الناس والحكومات ووسائل الإعلام في كل مكان. الخطر الوجودي الذي يشكله الانتشار السريع للعدوى (بمتوالية هندسية كما يقول الخبراء) في عالم مفتوح بعضه على بعض، خلق ديناميات اجتماعية غير مسبوقة يتصدرها، بطبيعة الحال، ارتفاع الطلب على الوقاية والحماية من العدوى القاتلة. فخلال بضعة أشهر بلغ عدد المصابين مئتي ألف وزاد عدد من مات منهم على ثمانية آلاف شخص من عدد من البلدان المنكوبة بالوباء.
ارتفاع الطلب على الحماية يعني الرضوخ لتدابير قاسية تحد من حرية الحركة وتفرض قواعد سلوك صارمة. إنها باختصار حالة طوارئ مطبقة بتشدد غير مسبوق، وصل في بلدان كإيطاليا وفرنسا إلى حظر التجول إلا لأسباب قاهرة. هذا يعني استسلاماً طوعياً لتدابير استثنائية لا يعرف أحد كم يمكنها أن تمتد في الزمن. ربما هذا ما دفع المفكر الإيطالي جورجيو آغامبن إلى التقليل من شأن الوباء واعتباره لا يختلف كثيراً عن الكريب العادي. جاء كلام آغامبن في منتصف شهر شباط، أي قبل فرض الحجر الصحي الشامل على كامل الأراضي الإيطالية بفترة. فقد تغلب نزوعه التحرري على المخاوف الوجودية التي يثيرها الوباء، فاتهم تلك الجهات السلطوية التي اغتنمت الفرصة لفرض مزيد من القيود على الناس، بدعوى حمايتهم.
والحال أن التدابير الوقائية تتسق فعلاً مع النزعات السلطوية المتفاقمة في بلدان عديدة، كما مع النزعات العنصرية الكارهة للاجئين والأجانب. فأول ما تبدأ به السلطات هو وقف الرحلات الجوية مع البلدان التي تفاقم فيها انتشار الوباء، إضافة إلى فرض قيود صارمة على الرحلات البرية والبحرية أيضاً. أي أن الدول القومية تنغلق على ذاتها، مانعةً الدخول والخروج عبر الحدود، بعد عقود من العولمة الواعدة و«قريتها الكونية الصغيرة».
هذه مفارقة جديرة بالتوقف عندها. ففي الوقت الذي استعاد فيه الناس، مرغمين، إحساسهم بالانتماء إلى الجنس البشري ووحدة المصير، أمام عدو لا يميز بين الأعراق والثقافات والأديان واللغات، ولا بين الطبقات الاجتماعية أو الميول السياسية أو المعتقدات الأيديولوجية أو الميول الجنسية، تراهم يغلقون على أنفسهم ـ طوعاً ـ أبواب بيوتهم، وينظرون بتوجس إلى كل «غريب» من خارج الأسرة الصغيرة المضطرة للعيش في مسكن واحد، ناهيكم عن التوجس من كل غريب من مدينة أخرى أو بلد آخر باعتباره مصدر عدوى محتملاً.
ماذا بشأن ثورات الشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة والكرامة؟ هل انتهى ذلك جميعاً وعاد الناس إلى التمسك بغريزة البقاء رائزاً متفرداً يدفعهم للخضوع طوعاً لعبودية أشد من كل نسخها في العصور السابقة؟
هذا أكثر ما يثير الأسى، أعني أن يتخلى الناس طوعاً عن حريتهم ويخضعوا لمتطلبات حرب، حقيقية كانت أو وهمية، ضد شبح مخيف أنتجته الطبيعة
بدأت أولى الاختبارات على لقاح واعد، لكن الخبراء يتحدثون عن ثمانية أشهر قبل إقرار استخدامه من قبل العموم. هذه فترة طويلة جداً من شأنها تكريس عادات سلوكية استثنائية أساسها الخوف من «الفايروس التالي». أي أن التدابير الوقائية التي سيعتاد عليها الناس من المحتمل أن تتحول إلى سلوك طبيعي ثابت. لا مصافحات، بعد الآن، ولا اختلاط بالبشر، ولا حرية تنقل بين المدن والبلدان والقارات. تعقيم كل ما يدخل البيت من «الخارج» حيث الخطر المتربص الذي لا نراه بالعين أو ندركه بالحواس.
السياحة تحولت إلى مخاطرة، وارتياد السينما أو المسرح أو ملاعب كرة القدم باتت مغامرة يتحمل مسؤوليتها كل شخص. وماذا عن التسوق وتبادل النقود الورقية والسلع؟ عليكم باستخدام البطاقات المصرفية بدلاً من النقود. ولماذا لا نخبز خبزنا في البيت بدلاً من المخاطرة بشرائه من السوق مصدر الخطر؟
إلى ما قبل ظهور فايروس كوفيد ـ 19 في مدينة يوهان الصينية، كانت التأملات المستقبلية المتشائمة تتحدث عن سطوة التكنولوجيا الحديثة على مختلف مناحي الحياة، وعن زيادة الضبط والتحكم التي سيخضع لها الناس بحكم انتشار استخدام وسائل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. مع الوباء الجديد أضيف عامل آخر إلى القيود التي ستفرض على الفرد هو عامل الوقاية من الأوبئة. ولا شك أن الذكاء الاصطناعي أكثر قدرة على مواجهة التحديات الوجودية التي تفرضها أوبئة من نوع كورونا من الخبراء المعرضين للخطأ.
هل نحن، إذن، على أعتاب تحول كوبرنيكي في علاقتنا بالعالم ورؤيتنا له؟ هل انتهى عصر الليبرالية «السعيد» إلى غير رجعة؟ هل نعود القهقرى إلى عالم بدائي لكنه، في الوقت نفسه، خاضع لـ«حكومة عالمية» من «الخبراء» في الطب والتكنولوجيا وعلم الجينات والذكاء الاصطناعي؟ أم أن الانغلاق القومي في العالم الواقعي والانفتاح الكوني في العالم الافتراضي هو ما سيشكل أسس عالم الغد؟ هل انتهى مفعول الأيديولوجيات التي كانت تحرك ملايين البشر في سبيل مثل يوتوبية لتحل محلها أيديولوجيا وحيدة قائمة على الذعر؟
وماذا بشأن ثورات الشعوب التواقة إلى الحرية والعدالة والكرامة؟ هل انتهى ذلك جميعاً وعاد الناس إلى التمسك بغريزة البقاء رائزاً متفرداً يدفعهم للخضوع طوعاً لعبودية أشد من كل نسخها في العصور السابقة؟
هذا أكثر ما يثير الأسى، أعني أن يتخلى الناس طوعاً عن حريتهم ويخضعوا لمتطلبات حرب، حقيقية كانت أو وهمية، ضد شبح مخيف أنتجته الطبيعة.
كاتب سوري