في عصر التكنولوجيا الحديثة، والعالم الافتراضي، تحوّلت حياة أكثرنا إلى عدة حيوات، نعيش كما لو كنا شخصين أو ثلاثة أشخاص، وحتى عدة أشخاص.
شخصية واقعية ملموسة وحقيقية، وشخصية أو شخصيات تعويضية افتراضية، وهذه توفر للناس تعويضاً عن ما ينقصهم في الواقع، وغالباً ما يتضّح أن الإنسان في العالم الافتراضي، مختلفٌ عنه في واقعه، فكم من شديد حياء في الواقع، نراه جريئاً ومنطلقاً مشاغباً بلا كوابح في العالم الافتراضي، وكم من حزينٍ ومكتئب في العالم الافتراضي وجدناه مرحاً وصاحب نكتة في الواقع، وكم من بطلٍ افتراضي شجاع وجدناه مهزوماً ومحطّماً في الواقع.
يعيش دونالد ترامب داخل دفيئة سميكة الجدران تعزله عن واقعه الجديد، تحولُ دون رؤيتِه أو سماعه لما حدث، ويكاد يخرجُ إلى الإعلام صائحاً بالسّود والأقليات الملوّنة والنساء والضعفاء والمسلمين»من أنتم» حتى أعترف لكم بالنصر؟ إنه يشبه نتنياهو، الذي يعلن بعد كل انتخابات فوزه الساحق وحصوله على أكثرية الأصوات اليهودية، متجاهلا أصوات العرب، وملمّحاً إلى أنها غير شرعية، ويجب أن لا تحسب في ميزان التنافس بينه وبين خصومه. يكاد ترامب يبق الحصوة ويقول: أنا أخذت الأغلبية من العرق الأبيض، ولهذا أنا الرئيس الشرعي المنتخب. لا يجرؤ رجال ترامب أن يبوحوا له بحقيقة فشله، لأن هذا فشل لهم أيضاً، ولهذا فهم يؤكّدون كذبته، ويردّدون بأنه لم يهزم، بل فاز، ولكنّ الفوز سُرق منه. ليس سهلا أن تكون رئيساً للعالم، تُرهب زعماء دول من خلال تغريدة على تويتر، وتجعل بعضهم يرتجف هلعاً، وتأمره بتحويل الإتاوة فوراً، قبل أن يُعاقب، وأن تعلن انسحابك من كل التزامات تخصّ البيئة والصحة العالمية، وأن تهدّد أعلى هيئة أممية بوقف دعمها المالي، وأن تخاطب دولا عظمى، كما لو كانوا طلاباً مقصّرين يستحقون التأنيب، وفجأة تفقد كل هذا. ليس سهلا على رئيس عصابة أن يعود ليمارس حياته كمواطن عادي، بل وقد يكون مطلوباً للعدالة في شبهات كثيرة، منها الفساد المالي وإخفاء الضريبة والتحرّشات الجنسية وغيرها.
ترامب يبني استراتيجية مستقبلية، بأن يخرج من البيت الأبيض كمرشح سُرق الفوزُ منه، وهذا يختلف كثيراً عن الإقرار بالهزيمة
هناك من هم حول ترامب يغذّون هذا الشعور لديه بأنه فاز، ولكنه سُرق، وهو يتمسك بالكذبة ومقتنع بأنها ستؤتي ثمارها في نهاية الأمر، وليس حتماً أن تكون في تغيير النتيجة، التي يدرك بأن تغييرها شبه مستحيل، ولكنه يبني استراتيجية مستقبلية، بأن يخرج من البيت الأبيض كمرشح سُرق الفوزُ منه، وهذا يختلف كثيراً عن الإقرار بالهزيمة، وهذا ما سيقتنع به كثيرون من أعضاء حزبه، ومن جمهوره، وهكذا سيواصل حياته كرئيس انتخب وسُرق، وسيكون من السهل عليه ترشيح نفسه عام 2024 عن الحزب الجمهوري للرئاسة، وسيكون شعاره في الإنتخابات المقبلة «استرداد الرئاسة التي سُرقت منا عام 2020» «النهج صحيح ولكن الأصوات زُيّفت».
هذه الكذبة تلقى دعماً من بعض قادة العالم، فتردّدوا في تهنئة الرئيس المنتخب جو بايدن، أو ماطلوا في تهنئته لبضعة أيام، وهذا منح ترامب وجمهوره مزيداً من الشعور بأنه سُرق بالفعل. والحقيقة أن الأعداد الهائلة من الأصوات التي حصل عليها ترامب، رغم أنها غير كافية للرئاسة بسبب كثافة التصويت غير المسبوقة، إلا أنها تعني بأن نهج الترامبية الخطير ضاربٌ جذوره في أمريكا، وله مئات ملايين من المؤيدين والأشباه في أوروبا والعالم. وهو نهج العنصرية والنظرة الفوقية والاستقواء والبلطجة والعداء للغرباء والمهاجرين، ونظرة العرق الأفضل، والغاية التي تبرر الوسيلة مهما كانت الوسيلة وضيعة. أكثر المستفيدين من حقبة ترامب هو نتنياهو، ولهذا فهو أكثر من آلمتهم الصفعة، وهناك استبيانات بيّنت أن أكثر من سبعين في المئة من الإسرائيليين كانوا يفضّلون فوز ترامب، وذلك لما قدّمه لإسرائيل من قرارات معروفة، ومكافأة له، ثُبتت لافتة في هضبة الجولان بأمر من نتنياهو كُتب عليها «هضبة ترامب» حيث ستقام مستوطنة على اسمه، فهو أول رئيس أمريكي يعترف بأن الجولان جزء من دولة إسرائيل، إضافة إلى القدس والمستوطنات في الضفة الغربية.
ترامب غاضب جداً، أقال وزير دفاعه مارك إسبر، وعيّن مكانه مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب كريستوفر ميلر، ربما كان إسبر قد عارض توجيه ضربة عسكرية إلى جهة ما مثل إيران في فترة سابقة، ولهذا رأى فيه ترامب أحد أسباب هزيمته، وربما أنه ينوي توجيه ضربة محدودة يتيحها له منصبه، قبل أن يرحل، كتنفيذ لوعد منه بمنع إيران من التقدم في برامجها النووية، قبل أن يأتي جو بايدن ويعود للاتفاقية التي وقّعها أوباما، أو أن يتقبلها مع بعض التعديلات الطفيفة. ما نتمناه أن تكون الإدارة الجديدة ذات تأثير على المزاج الشعبي الأمريكي العام بإنجازاتها نحو مجتمع أكثر إنسانية، ومن ثم على المزاج العالمي العام، فالبشرية بحاجة إلى عقول متفتحة وصدور رحبة، وإلى زراعة المحبة لا الكراهية.
كاتب فلسطيني
( تكمله ثانيه ) هل العالم الافتراضي انعتاق من العالم الحقيقي الحزين أم أن رؤيتنا وانبهارنا بهذه البقعة الافتراضية هي من جعلت واقعنا حزينا؟ لا يختلف اثنان في أننا استفدنا الكثير من هذا العالم الافتراضي الذي غير فينا الكثير لكن السؤال الجوهري هو كيف يمكننا أن نتحكم فيه لصالحنا دون أن يكون لذلك تأثيرا سلبيا على حياتنا في الواقع دون أن نصير عبدة له في أي لحظة، دون أن نكون سجناء لشيء نحن صنعناه.
بالنسبه لترامب فيبدو ان الامور تطورت وصار العالم الافتراضي وسيلة، ليس لكسب المعركة الحربية فحسب، بل أيضا لتولي مناصب في عالم السياسة البغيض. ففي واقعنا السياسي مثلاً، يخرج بعض السياسـيين عن طورهم ويبدأون بتمثيلٍ مسرحيّ بهلوانيّ، لا بدايةً له ولا نهاية، لا يوجد به منفعة أبداً لِمن يُفترض على هؤلاء تمثيلهم، سوى كسب معركة افتراضية بامتياز، مدعومة من وسائل إعلام رسمية وتجارية (والتجارية هنا هي أيضاً رسمية) بوضوح. هدفها خلق وعي جديد لدى الناس وكأنّ هؤلاء البهلوانيون الجدد يسهرون على مصالحنا، في حين أنّهم لا يُؤسسون فِكرا ولا يُثقفون طِفلا ولا يَبنون حزبا. ( يتبع)
( تكمله اخيره ) وكأن المسألة، مسألة مَسرح ومُمثّل مسرحي وجُمهور وتصفيق. وهناك من يشتري البضاعة الافتراضية، وهناك من يبيعها.
ترامب حسب رأيي مصاب بجنون العظمة او وسواس العظمة، فهو في حالة من وهم الاعتقاد والمبالغة في وصف نفسه بما يخالف الواقع فيدعي امتلاك قابليات استثنائية وقدرات جبارة أو مواهب مميزة أو أموال طائلة أو علاقات مهمة ليس لها وجود حقيقي.
هذه الحالة المرضية الذهانية تتميز بالهذيان الواضح والمستمر حيث تسيطر على المريض مجموعة من المعتقدات الثابتة التي ترتكز على مشاعر العظمة ومشاعر الاضطهاد . فهو على اعتقاد دائم بأنه مضّطهد من قبل الآخرين وبأنّ السبب الرئيسي لاضطهاده من قبلهم هو كونه شخص عظيم ومهمّ للغاية، وهو اذا سجين عالم الافتراضي الذي صنعه لنفسه.
مقالتك قمه استاذ سهيل كتبت فجدت وابدعت دمت بخير دائما.