رحل شهر أيلول/ سبتمبر مخلفا وراءه الكثير من المآسي والدموع والذكريات الأليمة. ما مرّ على وطننا العربي في السنوات الأخيرة شهر أثقل وطأة من هذا الشهر.. شهر توالت فيه النكبات والصدمات، وكثرت فيه الكوارث. إذ لم يكد العالم يستفيق من هول ما رأى من دمار واسع في البلدات والقرى التي ضربها زلزال المغرب، حتى فوجئ بعد يومين فقط بسيل عرم يجتاح المناطق الشرقية في ليبيا، ويلحق بها أضرارا جسيمة في الأرواح والممتلكات، خاصة في مدينة درنة المنكوبة. وما كاد الشهر ينقضي حتى حلت فاجعة أخرى، وهذه المرة في الجناح الشرقي لعالمنا العربي، في العراق، وتحديدا في بلدة الحمدانية في محافظة نينوى، حيث شبّ حريق في قاعة للأعراس، فحوّل أفراح الناس إلى أتراح. وفي السودان توسعت رقعة الحرب المستعرة منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي بين الجيش وقوات الدعم السريع، فتوسع معها نطاق الخراب، وزاد عدد النازحين واللاجئين وتفشت حمى الضنك والكوليرا شرقي البلاد. يستحق هذا الشهر بجدارة لقب: أيلول الأسود، فهو شهر الفواجع. شهر بكاء وعويل، شهر مآتم وحداد.
صحيح أن المحن والنكبات ليست بالأمر الجديد في سنن الكون، فذاكرة الشعوب والأمم تحتفظ بأحداث كبرى ألقت ظلالها القاتمة على عامة الناس وخاصتهم، وغيّرت الكثير من شؤون حياتهم حتى صارت تاريخا يؤرخ به لفترة من الكرب العظيم. والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر: عام الرمادة، وهو عام قحط وجدب ومجاعة في زمن الخلافة العمرية، وأعوام الطاعون أو «الموت الأسود» التي استمرت أربع سنين في الكثير من دول القارة الأوروبية، وعام الزلزال الكبير الذي ضرب لشبونة، وغيرها من الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، كالصراعات والحروب. والقاسم المشترك بينها جميعا هو الموت والدمار والخراب، وانتشار الخوف والهلع بين الناس، وأحيانا فقدان الأمل في غد أفضل. غير أن وتيرة هذه النكبات باتت متسارعة، ومتقاربة زمنيا، فالمشاهد المروعة التي رأيناها في السنوات القليلة الأخيرة، بدءاً بجائحة كورونا، مرورا بحرائق الصيف الكثيرة، والعواصف والأعاصير المدمرة، وأخيرا زلزال المغرب وسيول ليبيا، تذكرنا كلها بأن كوكبنا بات معرضا أكثر من أي وقت مضى للكوارث، بعضها طبيعي وكثير منها من صنع الإنسان، سواء بسبب الإهمال والفساد المستشري والمسكوت عنه، أو بفعل التغيرات المناخية، أو حتى بسبب التوترات الجيوسياسية المتصاعدة بين القوى الكبرى. ولم يبق إلا أن نستفيق ذات يوم على خبر اندلاع حرب نووية قد لا تبقي ولا تذر.
هذا السيناريو الكارثي لم يعد مستبعدا، وإرهاصاته تبدو ماثلة أمام أعيننا، في ظل الاحتكاك المتزايد بين أمريكا وروسيا على الساحة الأوكرانية، وبين أمريكا والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وأيضا بين الكوريتين. وقد سمعنا مندوب كوريا الشمالية في الأمم المتحدة وهو يتهم واشنطن وحلفاءها بدفع شبه الجزيرة الكورية إلى شفا حرب نووية.
في هذه الأجواء المنذرة بما هو أسوأ، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن العالم تفصله «خطوة واحدة غير محسوبة» عن حرب نووية مدمّرة، قائلا، «إن طبول الحرب النووية تدق مرة أخرى» ما من شأنه «أن يطلق العنان لكارثة إنسانية ذات أبعاد هائلة». هذا التحذير يرسم صورة قاتمة تنذر بمصير حالك قد يحوّل كوكبنا إلى أرض خراب، أو أرض يباب. و»الأرض اليباب» عنوان قصيدة شهيرة نشرها الشاعر الأمريكي – البريطاني تي إس إليوت عام 1922، وصنفها النقاد على أنها واحدة من أعظم القصائد المكتوبة باللغة الإنكليزية على الإطلاق في العصر الحديث. القصيدة تعكس المزاج السوداوي الذي ساد في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما تحولت أوروبا إلى ما يشبه الأرض الخراب بعد الدمار الكبير الذي خلفته الحرب، والأعداد الهائلة من الموتى بسبب تفشي جائحة الإنفلونزا الإسبانية أواخر عام 1918. في الجزء الأول من هذه القصيدة الطويلة تحت عنوان فرعي هو: «دفن الموتى» يبدأ إليوت الأبيات الافتتاحية لقصيدته المليئة بالرموز بقوله: «أبريل هو الشهر الأكثر قسوة» رغم أن أبريل/نيسان هو بداية الربيع، ويفترض أن يكون شهرا نابضا بالحياة، ومفعما بالأمل، إلا أن إليوت لم يكن يرى فيه سوى بداية لما سماه «دورة المعاناة التي لا نهاية لها» في عالم فوضوي ومضطرب. وعالمنا الحالي يمر بمرحلة مخاض عسيرة شديدة الاضطراب، لا ندري كيف ستكون تجلياتها مستقبلا.
وعالمنا العربي ليس بمنأى عن هذه الاضطرابات، وهو منكوب أصلا بالانقسامات السياسية والصراعات اللامتناهية، قبل أن تعمق الكوارث الطبيعية جروحه، خاصة منذ مطلع الشهر الماضي الذي كان شديد الوطأة والقسوة، بل ربما كان الشهر الأكثر قسوة هذا العام، بفعل الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات والجروح الغائرة التي تركتها هذه المحن الشديدة في نفوس الناس، خاصة في المغرب وليبيا والعراق، ولا نملك إلا أن ندعو لهم بالصبر والثبات والشفاء العاجل، مرددين ما قاله شاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب في قصيدته الخالدة: «سفر أيوب»:
لك الحمد مهما استطال البلاء
ومهما استبدّ الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وإن المصيبات بعض الكرم
لك الحمد يا رامياً بالقدر
ويا كاتباً، بعد ذاك، الشّفاء
نسأل الله أن يرحم الضحايا، ويشفي الجرحى، ويكشف الضر عن المكروبين والمكلومين، ويخفف عنهم مصابهم. ونرجو ألا يتحول كوكبنا إلى أرض يباب بسبب الجوائح والكوارث المتعاقبة، وألا يدخل عالمنا في دورة معاناة لا نهاية لها.
إعلامي مغربي