بمحض الصدفة أتيح للفتاة الدمشقية قمور أن تشارك المستشرق والقنصل ريتشارد بورتون وزوجته إيزابيل شطرا من حياتهما. كان ينبغي لها أن تكون خادمة إيزابيل، إلا أن «سيدي ريتشارد» أدخلها مدوِّنةً لأعماله الكتابية، وجامعةً لوقائع «طوشة النصارى» المهولة من ألسن الناجين منها.
وغالبا ما كان يعلن عن سخطه مما يأتيه من قمور، مطلقا نحوها العبارات الأشد قسوة، سواء بالإنكليزية أو بالعربية. «أنت مدوّنة ولست كاتبة» كان يقول لها حين يلاحظ أنها تعدّت قليلا، أو تخلّفت قليلا عما أوصاها بفعله. وهو غالبا ما كان يزّودها بتعليمات متناقضة. حيناً يطلب منها أن تسجل ما تراه عيناها، من دون إطناب في الوصف وفي اللغة وفي التدخل الشعوري. وفي أحيان أخرى يعلّق على ما يقرأه من أوراقها بقوله، إن كتابتها «خالية من المعنى، غير مترابطة، كأن تلك المجزرة جريمةٌ نافرة حدثت مصادفة».
أما حكايتها هي فأبقتها قمور من دون كتابة. كانت طفلة تلهو بجانب بركة الدار حين هوى النصل الحادّ على رأس أمها شاجّا إياه. السيد ريتشارد كان يحذّرها من كتمانها لحكايتها، وأيضا بتلك النبرة الآمرة والمترفّعة. تلك الحكاية، كما هي في الرواية -الكتاب، أشبه بخيط موصول مستمرّ في نموه يستعاد مرة بعد مرة، راكنا في مكان ما من ذاكرة قمور، الفتاة ثم المرأة. أما وقائع المجزرة فتابعتها مسجلّة بعض تفاصيلها من كل من الأمكنة التي جرت فيها. ودائما يبدأ التذكّر بتعيين الوقت: التاسع من تموز/يوليو، الثانية بعد الظهر من عام 1860 هكذا كأن وقائع القتل جرت في الكنيسة، وفي حي المسك، وفي باب توما، وفي سائر البيوت، في تلك الساعة ذاتها.
وعلى رغم أهمية موضوعها (مجزرة 1860) لم تحتجز الكاتبة نفسها في قوته التاريخية والدرامية، لقد أوسعت من الحيّز الخاص لكل ما عرضت له في روايتها حتى ليظن قارئها أن حضور الأشياء والأشخاص بتلك القوة يجعل كلا منهم أن يكون شخصية رئيسية. يتعلّق ذلك بـ«سيدي ريتشارد» كما بـ«ستي إيزابيل» حيث رُسمت حياتهما، وكذلك مصيرهما، بعناية روائية كبيرة. كما يتعلّق ذلك الحضور الرئيسي بالمدن التي تنقّلت بينها قمرة، سابقة بذلك أجيال مهاجرات أتيح لهن من بعدها، بسنوات كثيرة، أن يزرن لندن وتريسته، ودمشق طبعا. كل من هذه الأمكنة حضر بقوة، ومن دون أن توصف بتلك البلاغة العادية الممجدّة للمدن حينا، والحاطّة من شأنها حينا آخر.
وعلى رغم أهمية موضوعها (مجزرة 1860) لم تحتجز الكاتبة نفسها في قوته التاريخية والدرامية، لقد أوسعت من الحيّز الخاص لكل ما عرضت له في روايتها حتى ليظن قارئها أن حضور الأشياء والأشخاص بتلك القوة يجعل كلا منهم أن يكون شخصية رئيسية.
وكما يتساوي الأشخاص والأمكنة في الحضور الكتابي، والروائي من ثم، تتقدّم كتابة السيرة في موازاة تلك السيرة نفسها. لا يتعلّق الأمر باللغة فقط، تلك التي انبثّت في الرواية مقاطع وحوارات حولها، لكن أيضا بالتجربة المتبدّلة لقمور الكاتبة. فمع تقدّم السرد، ذاك الذي تنمو قمور معه، عمرا وتجربة وتساؤلات، نشهد كم هو عدد الولادات التي سبقت ظهور كتاب المجزرة بشكله الأخير. لقد كُتب مرّات عديدة، ودائما بالتلازم مع التقدم الذي كانت تحرزه قمور مع تقدّم وعيها وتجربتها، وخلاصها التدريجي من سطوة ريتشارد بورتون وتأثيره، أقصد أن الرواية هي، في جانب من جوانبها، سيرة كتابية لبطلتها الدمشقية.
كل شيء التقطته عين كاتبة القرن التاسع عشر لم يمرّ عرضا، لقد حرصت كاتبة سيرتها المتخيّلة على أن تجعل لكل من هذه الأشياء سيرته، من ذلك مثلا ياسمين دمشق، وبلاطات القيشاني فيها (كما في الفضل المُضاف إلى الرواية، ذلك الجاري على لسان دمشقية معاصرة هي «زينة» المقيمة في لندن هاربة من طوشة الشام الأخيرة) وكذلك أيضا الأثواب الشامية التي، في واحد من تجلّيات ظهورها في الكتاب، إصرار ريتشارد بورتون وزوجته على ارتدائها، مصحوبيْن بخادمتهما قمور المرتدية الزي الدمشقي هي أيضا، ودخولهم الباهر، هم الثلاثة، إلى القصر اللندني الذي يجري فيه احتفال مهيب. أما في الجانب الجمالي فوضعت الروائية ديمة الشكر على لسان بطلتها وصفا عن كيف تجاور الأقمشة بعضها بعضا في محلات بيعها أو عرضها: «تطلع أصوات من مزيج القطن بالحرير، ومن الحرير منفردا، ثم القطن وحده فالشاش فالصايا فالصوف والكتّان…».
بما يشبه نقلة سينمائية تُخرج ديمة شكر من روايتها رواية أخرى بعنوان زينة. هنا نعود مرة أخرى إلى تلاقي الشام ولندن، وانفصالهما في وقت واحد. المئة وخمسون عاما التي عبرت بين زمني المرأتين لم تغيّر في تساؤلاتهما عن ذلك الاختلاف بين هنا وهناك. لكن المدينتين احتفظتا بماهية كل منهما. لندن ما زالت محافظة، في بعض نواحيها، على خيلائها الإمبراطورية، وإن ارتفعت بنايات إسمنتية شاهقة هنا وهناك. دمشق بدت كما لو أنها مدّدت زمن طوشتها وضخّمته، لكن في ما بعد هذه المقارنة تركت الكاتبة لقارئها أن يعمّق ما هو مختلف، أو ما هو مشترك بين المرأتين، المهم أن الكتاب الأول، كتاب قمور أحيِي من جديد على يدّ أستاذ زينة الذي عثر عليه مصادفة في المكتبة الممنوع دخولها لغير أساتذة الجامعة، وإذ تقرأ زينة الكتاب القديم ذاك تجد نفسها مهتمة، بين أشياء أخرى، بإرجاع الكتاب إلى كاتبته قمور، حيث أن الزوج المحبّ لهذه الأخيرة، حنا المسك، حرص على أن يحمل الكتاب اسمه هو معترفا في الوقت نفسه بأن الكاتبة هي قرينته.
رواية «أين اسمي» لديمة الشكر صدرت طبعتها الأولى عن «دار الآداب» في 238 صفحة- 2021.
كاتب لبناني