بعد خمس سنوات مضت لم تطأ فيها قدم ولي العهد السعودي والحاكم الفعلي للمملكة محمد بن سلمان واشنطن، يبدو أنه اليوم على قمة القائمة في “المنافسة” لدى البيت الأبيض. الزعيم السعودي المسؤول عن قتل الصحافي جمال خاشقجي جعل الرئيس الأمريكي جو بايدن يتعهد في حملته عام 2020 بأنه سيحول المملكة إلى دولة “منبوذة”، لكن حضوره في هذا الأسبوع شعر به البيت الأبيض عندما قدم حضوراً مؤثراً في مقابلته الأولى بالإنكليزية لوسائل الإعلام الأمريكية منذ العام 2019.
محادثته مع مراسل “فوكس نيوز” في باي سندالا، التي هي جزء من المشروع الاستعراضي لمدينة المستقبل التي يقوم ببنائها، ساعدته أمس كي يغطي على معظم النقاشات في الجمعية العمومية. بذلك، ضمن مكانه في الصف الأول لمتخذي القرارات في الشرق الأوسط. وتوقيت المقابلة لم يكن صدفياً بالطبع؛ ففي الوقت الذي كان فيه رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو يلتقي مع بايدن بتأخير مهين، أوضح بن سلمان لمشاهدي التلفاز الأمريكيين “أنا هنا أيضاً”. ليس كزعيم مهان ينتظر الدعوة، بل كمن سيحسم إذا كانت “الصفقة الضخمة” التي رسمها الرئيس ستخرج إلى حيز التنفيذ.
الأسس الثلاثة في “الصفقة الضخمة” أصبحت معروفة منذ بضعة أشهر، وتشمل اتفاق دفاع بين السعودية والولايات المتحدة، والتطبيع مع إسرائيل، وتطوير مشروع نووي مدني في الرياض. للمرة الأولى، حدد بن سلمان بصوته وبشكل علني شروط التطبيع التي “نقترب منها يومياً”، حسب قوله. والتي يعتبرها “الصفقة التاريخية الأكبر منذ انتهاء الحرب الباردة”. ولكن أقواله لا تدل حتى الآن على إمكانية حدوث الاتفاق الذي ليست بالضرورة أن تكون مركباته مرتبطة معاً.
هل يرتبط حلف الدفاع الأمريكي – السعودي بالضرورة بالتطبيع مع إسرائيل؟ هل المشروع النووي السعودي مشروط بشكل عام بموافقة إسرائيل؟ هل يمكن أن تضع إسرائيل معايير للمقابل الذي سيحصل عليه الفلسطينيون إذا وافقوا على التطبيع؟ لكل طرف أجندة ومصالح خاصة به. وهذه مليئة بشكوك عميقة، ولا نريد القول عدم الثقة. نتنياهو يذر الرمال في العيون عندما يتحدث بأن الفلسطينيين “جزء من عملية التطبيع، لكن لن يكون لهم حق الفيتو على علاقات إسرائيل مع الدول العربية”. الفلسطينيون ليسوا بحاجة على الإطلاق إلى حق الفيتو، الموجود في يد السعودية، والتي ستقرر وحدها إذا كانت القضية الفلسطينية هامة بما فيه الكفاية لمنع التطبيع مع إسرائيل.
عندما يصل النقاش الفعلي، هذا إذا وصل، ستكون الرياض هي التي ستدير المفاوضات باسم الفلسطينيين مع إسرائيل، حسب وصفة ستمكنها من رفع العتب تجاه النزاع التاريخي، وعندها سيطرح سؤال: هل السعودية معنية بالاهتمام بـ “صعوبات نتنياهو سياسية” التي ستمنعه من تطبيق حتى الحد الأدنى من الشروط للتوصل إلى الاتفاق؟ من الجدير بالذكر أن الرياض أيدت ودفعت بـ “صفقة القرن”، التي رغم صياغتها كانت بعيدة عن “المبادرة العربية”، التي هي حفيدة المبادرة السعودية قبل عقدين.
حتى إن المملكة عاقبت الفلسطينيين بشدة لأنهم رفضوا المبادرة. والآن يبدو أن هؤلاء على استعداد لقبول صيغة أكثر مرونة ومحدودية. هكذا على الأقل عرضوا موقفهم في اللقاء مع القيادة السعودية الذي جرى في هذا الشهر. ولكن هناك سنوات ضوئية تفصل بين الحد الأدنى الفلسطيني وحكومة إسرائيل. ويرى ولي العهد السعودي أنه لا يوجد شيء ملح، لأنه لا يوجد حتى الآن اشتراط أمريكي يقول إنه بدون التطبيع لن يتشكل حلف دفاع أو مصادقة على المشروع النووي.
إذا كانت العلاقة بين التطبيع مع السعودية واتفاق معين مع الفلسطينيين ترتبط بالمصالحة بين الرياض و”القدس”، التي سترتكز في أفضل الحالات إلى الحاجة إلى التوفيق بين المصالح الاستراتيجية للسعودية أمام الولايات المتحدة مقابل تعهدها التاريخي للفلسطينيين، فإن هذا لا يعتبر شرطاً ضرورياً لحلف دفاع تسعى إليه، أو لتطوير مشروع نووي. الاعتبار الحصري هنا هو الربح والخسارة بالنسبة لواشنطن. مثل هذا الحلف الدفاعي قد يضع الولايات المتحدة في الساحة النازفة في الشرق الأوسط، فقط بسبب الالتزام الذي سيلقى عليها للدفاع عن السعودية إذا تمت مهاجمتها. خصوصاً مع انفصال قواتها عن المنطقة.
في الوقت الذي تشخص فيه الأنظار نحو طهران
يتذكر بن سلمان جيداً أقوال ترامب الفظة التي قالها بعد الهجوم الصاروخي على السعودية في 2019، بأنه مستعد لمساعدة الرياض مقابل الثمن. ما زال الرئيس السابق يعتبر الحليف الأقرب للعائلة المالكة في السعودية. وانسحابه في 2018 من الاتفاق النووي مع إيران بضغط من إسرائيل، أعطى ضوء أخضر لإيران لتطوير مشروعها النووي إلى مستوى غير مسبوق. لم يجلب بايدن معه للسعودية أي بشائر أكثر تهدئة في الموضوع الإيراني. جهود الرئيس الحالي للعودة إلى الاتفاق النووي الأصلي أصابت المملكة بصدمة، اعتبرت هذه العملية نهاية التحالف المناوئ لإيران، الذي قادته واشنطن على ظهرها.
هذه الخطوة، مع البرود البارز الذي أظهره بايدن تجاهه، جعلت بن سلمان يغير الاتجاه. كانت الذروة في استئناف العلاقات مع إيران في آذار الماضي. ولكن ولي العهد استعرض علاقاته مع الصين وعانق روسيا وبنى لنفسه حزام أمان بديلاً، ولو تصريحاً، أمام عدم اليقين الذي أظهرته واشنطن. العلاقات مع إيران لم تتحول بعد إلى تحالف اقتصادي، بالأحرى عسكري، ولكنها أحدثت عمليات تغيير إقليمية، أدت إلى استئناف العلاقات بين مصر والأردن وبين إيران. وحتى إنها أعادت بشار الأسد إلى حضن العالم العربي بدون فصله عن طهران. يبدو أن الحديث يدور عن مكسب صاف لإيران، لكن كان للسعودية دافع استراتيجي حيوي جعلها تسير في هذا المسار الوسيط، الذي لا يستند فقط إلى العلاقات الوثيقة مع الصين.
استئناف العلاقات بين إيران والسعودية قد يساعد في المضي بحلف دفاع مع الولايات المتحدة. ومن أجل تهدئة مخاوف أمريكا من تورط جديد في المنطقة، وتقليص النطاق الكامن لهذا التورط، فإن المصالحة مع إيران هي عملية حيوية قد تنهي الحرب في اليمن التي أصبحت رأس الحربة في صراع الكونغرس ضد الرياض. بدأت السعودية في السابق بتسريع العملية الدبلوماسية أمام الحوثيين في اليمن، وفي الأسبوع الماضي وصل إلى المملكة وفد من زعماء المتمردين للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في 2015، لمناقشة الشروط الرئيسية لوقف طويل المدى لإطلاق النار، الذي سيمكن من إجراء المفاوضات على مستقبل اليمن.
أبلغ الوفد عند عودته عن تقدم في كل ما يتعلق باستخدام الموانئ التي هي تحت سيطرة الحوثيين، وعن دفع الرواتب المدينة. ولكن المسافة للوصول إلى حل سياسي ما زالت طويلة. السعودية بحاجة إلى تقويم الخط مع الإمارات، التي تطمح إلى إقامة دولة تحت رعايتها في جنوب اليمن وتعتبر أي اتفاق مع الحوثيين تهديداً. الرياض معنية بإقامة دولة واحدة في اليمن، حتى بثمن تنازل سياسي كبير للحوثيين. ولكن المفاوضات بينها وبين المتمردين كان من الصعب إجراؤها بدون موافقة إيران.
ميزان رعب نووي
يجب أن يثير اهتمام إسرائيل حلف دفاع بين السعودية وأمريكا حتى أكثر من المشروع النووي الذي تتطلع المملكة إلى تطويره. وجود هذا الحلف يعني أن أي عملية إسرائيلية ضد إيران ستكون بحاجة إلى الأخذ في الحسبان ليس فقط موقف الولايات المتحدة، بل أيضاً موقف السعودية. أي مواجهة بين إسرائيل وإيران ربما تعرض الرياض للخطر وتضع تحالفها مع واشنطن على المحك. الاعتماد على موقف السعودية سيزداد أكثر إذا نضجت المفاوضات من أجل التطبيع. مقابل الولايات المتحدة، التي تعهدت بعدم السماح لإيران بالتوصل إلى السلاح النووي، لا يوجد للسعودية مثل هذا التعهد. الأخطر من ذلك، أن بن سلمان أوضح في المقابلة مع “فوكس نيوز” بأنه إذا حصلت إيران على السلاح النووي فستضطر “السعودية أيضا إلى الحصول على مثل هذا السلاح” من أجل الردع والموازنة بالطبع.
ما الذي ستفعله واشنطن في حينه؟ هل ستلوح باتفاق الدفاع؟ هل ستفرض عقوبات على الرياض، حليفتها الاستراتيجية؟ ولكن قبل فترة طويلة على نضوج مثل هذا التهديد، فإن حلف الدفاع الأمريكي – السعودي يعني تنسيقاً عملياً استراتيجياً كاملاً بين الدولتين. هو تحالف يحتاج أيضاً إلى تعاون وثيق على الصعيد التكتيكي والاستخباري واللوجستي، وكل ذلك في ظل شفافية كاملة ومتبادلة. السعودية ليست دولة شفافة، لا لمواطنيها ولا للأجانب أو للحلفاء. فهل يمكنه لبايدن إقناع مجلس الشيوخ بالمصادقة على حلف دفاع مع دولة لا تلبي معظم شروط الشفافية التي يقتضيها هذا الحلف؟ هل ستوافق السعودية على “فتح الأوراق” أمام واشنطن؟ هل يستطيع بايدن أن يعرض التطبيع مع إسرائيل، إذا حدث ذلك، كمبرر يقنع الكونغرس بإعفاء السعودية من التزاماتها؟
السؤال الأخير مرتبط مباشرة بالمشروع النووي الذي تريد السعودية تطويره. هي تطلب إذناً للتنقيب عن اليورانيوم الموجود بوفرة في صحرائها وتخصيبه على أراضيها. أي اتفاق للتعاون النووي توقع عليه الولايات المتحدة مع دول في أرجاء العالم يستند إلى قانون الطاقة النووية من العام 1954. المادة 123 في هذا القانون تنص على أنه لن يتم تخصيب اليورانيوم على أراضي أي دولة وقعت على هذا الاتفاق. مكتب الرقابة الحكومي في واشنطن نشر في 2020 بأن الاتصالات من أجل الدفع قدماً بالتعاون النووي مع السعودية، لا تتقدم بسبب عدم موافقتها على الشروط التي تم النص عليها في القانون حول الرقابة والإشراف على صناعتها النووية. إضافة إلى ذلك، عدم استعداد المملكة للتوقيع على البروتوكول الإضافي للرقابة على البرامج النووية أمام الوكالة الدولية للطاقة النووية.
ادعت الرياض في المقابل بأن من حقها تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، بالضبط كما يسمح الاتفاق النووي لإيران بذلك. الإدارة الأمريكية التي تؤيد المشروع النووي المدني شريطة أن يخضع للشروط التي ينص عليها قانون الطاقة النووية، حذرت من أنه إذا لم تمنح الولايات المتحدة للسعودية الإذن فستدخل مكانها روسيا والصين. والصين وقعت في السابق على مذكرة تفاهمات بدون قيود أو شروط في موضوع الصناعة النووية السعودية. هذا وبحق ادعاء له وزن، ويجب أن يقلق إسرائيل أيضاً، التي سبق أن أعلنت بأنها لا تعارض برنامجاً نووياً مدنياً في السعودية. هكذا تولد الانطباع وكأن موقف إسرائيل فقط هو الذي سيحدد مصير المشروع.
تطرح الإدارة الأمريكية خطة استراتيجية فاخرة، وإذا تحققت فإنها “ستغير وجه الشرق الأوسط”، كما يقول الشعار. ولكن إسرائيل لن تكون اللاعبة الرئيسة، وبالتأكيد لن تكتب سيناريو هذه المسرحية. مع أو بدون التطبيع، مع أو بدون حلف الدفاع، فلن يتغير شيء في موقف إسرائيل الإقليمي ما دام مخيم جنين للاجئين والجدار حول قطاع غزة والخيام التي يضعها “حزب الله” على حدود لبنان تشكل تهديداً استراتيجياً لها.
تسفي برئيل
هآرتس 22/9/2023