عبارة واحدة ترفض أن تغيب عن صرخات النساء والرجال الفلسطينيات والفلسطينيين كلما ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مذبحة بحق الأبرياء في غزة: وين العرب؟
عمر هذه العبارة من عمر الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين. وتنبع من شعور قديم بالهوية والانتماء المشتركَين بحكم اللغة والتقارب العرقي ثم الدين. خرجت العبارة للنور في الأربعينيات وترفض أن تموت. في أيام النكبة كان يقابلها «الجيوش العربية جاية»! لكنها جاءت ولم تفعل شيئا بل شُكَّ في أن بعضها كانت متواطئة مع المشروع الاستعماري الهادف لإقامة إسرائيل.
بمرور الزمن، ومع التأخر الجيوش العربية في المجيء الفعّال، فقدَ الجواب (الجيوش العربية جاية) معناه شيئا فشيئا. بعد حرب 1973 تلاشى الجواب ليبقى السؤال وحده فارضا نفسه في تعبير فجّ عن عجز المستغيث والمستغاث به.
من الواضح أن الاستغاثة موجهّة للشعوب العربية وللحكام العرب على السواء. ومن الواضح كذلك أن الفلسطينيين يدركون أن العرب والمسلمين والعالم كله لن يفيدوهم. لكن الألم أقوى من أن يمنعهم عن تكرار الاستغاثة كلما أباد ذلك العدو النازي عددا منهم.
ويعرف العرب والمسلمون أنهم عاجزون عن فعل شيء ينفع الفلسطينيين وهم يُذبحون كالخرفان يوميا أمام أعينهم. لكنهم لا يمنعون أنفسهم من ادعاء أن مآسي الفلسطينيين مآسيهم وأنهم أولى بالدفاع عنهم.
تأخُر العرب والمسلمين، حكاما وشعوبا، عن نصرة الفلسطينيين ليس مجرد كسل أو تخاذل عابر. هو حالة تطورت مع الزمن حتى بلغت كل هذا التآمر على سكان غزة الذي نشاهده منذ السابع من أكتوبر.
الحكام العرب الذين خذلوا غزة فعلوا متعمِّدين مخلصين. بالنسبة لهم أمن إسرائيل أهم من حماس ومن غزة ومن فيها، بدليل أن بعضهم شارك في صدّ الهجمات الجوية الإيرانية على إسرائيل في منتصف نيسان (إبريل) الماضي. وبعضهم الآخر يزوّد الاقتصاد الإسرائيلي بمسببات الصمود الآن وأنت تقرأ هذه السطور. وبعضهم لا بد أنه شريك بطريقة ما في القصف الإسرائيلي على ميناء الحُديدة اليمني السبت الماضي.
المبعوث الأمريكي الأسبق للشرق الأوسط، دينس روس، شرح بوضوح في صحيفة «نيويورك تايمز» في الأيام الأولى من الحرب أن كل قادة الجوار الإسرائيلي الذين «تحدثتُ إليهم يريدون من إسرائيل أن تقضي على حماس، لكنهم يخشون الجهر بذلك وطلبوا مني ألا أكشف أمرهم».
لهذا مخطئ من يعتقد أن ترك الحكام العرب سكان غزة فريسة لآلة الإبادة الإسرائيلية مجرد عجز ظرفي أو عابر. لا أحد ينتظر من القادة العرب تحريك جيوشهم أو شحنات السلاح في اتجاه غزة، فذلك يتطلب سياقا آخر ووضعا مختلفا لم يعد موجودا حتى في الأحلام. ولا أحد سيلومهم لأنهم لم يفعلوا. المشكلة أنهم حتى الحد الأدنى من الجهد السياسي والدبلوماسي امتنعوا عن بذله، وكان بلا شك سيفيد ولو قليلا. لا يوجد ما سيوقظ ضمائر هؤلاء القادة إذا لم تفعل المشاهد المروعة القادمة من غزة على مدار الساعة منذ قرابة عشرة أشهر.
لا أحد ينتظر من الشعوب اختراق الحدود والدخول للقتال في غزة أو الضفة. لكن ماذا عن أساليب النصرة والدعم الأخرى؟
هناك شيء واحد أدى بالقادة العرب إلى هذه الحال: الهوس. الهوس بحماس، بالإخوان المسلمين، بإيران.. الهوس بالشعوب إذا ما انتفضت لكرامتها، باحتمال أن تنتصر انتفاضة الشعوب. كل هذا موجود في غزة. وكل هذا يؤرق الحكام العرب بدرجات مختلفة ويجعلهم يتحالفون مع كل من يهمه أن تنكسر غزة.
يجد هذا الهوس مساحة في الأوساط الثقافية والسياسية وحتى في الشارع العربي، فينبري كثيرون لتبنّيه والدفاع عنه، خصوصا في دول معينة بذريعة الإخوان وإيران. لكن هذا مجرد نفاق سياسي ستُعرِّيه الضفة الغربية بسهولة: هل سيتصرف القادة العرب بشكل أفضل لو تعرّضت الضفة لما تتعرض له غزة؟ هذا الاحتمال وارد، وفي الضفة لا يوجد مشروع إيراني أو «إخواني» بل سلطة فلسطينية بأجهزة أمنية وإدارية متعددة تختزن قناعة مطلقة بأن مشروعها فلسطيني المنبع عربي الهوى والتوجه. الجواب: لا. لا شك في أن القادة العرب سيخذلون سكان الضفة الغربية مثلما خذلوا أهل غزة وربما أسوأ، لأن جوهر الموضوع عندهم ليس غزة أو الضفة بل أمن إسرائيل.
الشعوب العربية بدورها ليست أفضل حالا من حكامها. لقد خذلت سكان غزة على طريقتها، ومن كونها هي ذاتها فاقدة للكرامة والحرية وللقدرة على المطالبة بحقوقها. العبيد لا ينتصرون لأحد والتاريخ يصنعه الأحرار والمغامرون مهما بدا هذا الكلام كبيرا ومنفصلا عن الواقع.
مثلما لا يطلب أحد من الحكام تجهيز الجيوش وقوافل السلاح، لا أحد ينتظر من الشعوب اختراق الحدود والدخول للقتال في غزة أو الضفة. لكن ماذا عن أساليب النصرة والدعم أخرى؟ تملك الشعوب عامة سلاحا فعالا اسمه المقاطعة (في سياق آخر يمكن أن نسميه الإضراب). في أيدي الشعوب العربية يصبح سلاح المقاطعة فتاكا بالنظر للقوة العددية ولشراهة الاستهلاك وحجمه الهائل في بعض الدول.
قبل أن تبدأ معركة المقاطعة، وهي سهلة وتشكل أضعف الإيمان، تحتاج الشعوب العربية، وأي شعب، إلى الاقتناع بجدوى المقاطعة وقوتها، وبأن أي حركة مهما صغرت مفيدة، وأن الأنهار تتشكل من جداول صغيرة لا يعرف بعضها بعضا.
لكن هل هذا النضج موجود؟ روى لي أحدهم أنه حضر قبل أسبوعين مناسبة اجتماعية في بلد عربي فوجد على طاولات الضيوف قناني الكوكاكولا. عندما استغرب الأمر وسألهم كيف ولماذا؟ قال أحدهم باستهتار: إيييه تصدّق أنت أن قنينة كوكا ستحرر غزة!
مثل هذا التفكير موجود في المجتمعات العربية، وهو مزيج من جهل فادح وقلة نضج وانعدام الإحساس بالآخر وبما يجري بعيدا عن أنف صاحبه.
لا أنكر أن المقاطعة وجدت مساحة معينة في عدد من الدول العربية. ولا أملك إلا أن أشيد بالجهود الفردية والجماعية التي نقرأ عنها هنا وهناك مهما صغرت. لكننا أمام جهد محدود ومشتت يفتقد للمثابرة والتصميم، لا يقارَن بقوة اللوبيات الداعمة لإسرائيل وقوة عملها وتأثيرها. ولا يساوي شيئا أمام طلاب وطالبات ضحّوا بدراساتهم في أرقى الجامعات الأمريكية والغربية ورهنوا مستقبلا وظيفيا لامعا.
كاتب صحافي جزائري