لم يستطع الاحتضار الطويل أن يدمّر مسحة الجمال الروحي في بيروت، فالمدينة المحتضرة تدافع عن حياتها عبر التمسك بالحياة.
التحليل العقلاني البارد يقول إن المدينة ماتت.
دور بيروت الذي بدأ يتسع مع مرفئها الصغير الذي حوله إبراهيم باشا في القرن التاسع عشر إلى مرفأ أساسي، ثم صار مع الانتداب الفرنسي مرفأ بلاد الشام والداخل العربي، انكمش بل نكاد نقول إنه اندثر، وكان انفجار المرفأ الوحشي إعلان نهاية.
أما الدور الاقتصادي: المصارف والسياحة والخدمات، فيتلاشى بعد الانهيار الشنيع والمخزي للنظام المصرفي، وتحوله إلى نموذج فريد في المنهبة الشاملة التي صنعتها عصابة من اللصوص استولت على السلطة بعد نهاية الحرب الأهلية.
انهارت المدينة التي كانت رافعة الدولة اللبنانية مع الانهيار اللبناني السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولم يبق في بيروت ما يذكّرنا بتلك البيروت التي كانت.
غير أن الانهيار امتد ليشمل قطاعين رئيسين صنعا مجد بيروت: الصحافة والنشر. الصحافة الورقية ماتت سريرياً، والصحافة المرئية صارت مرايا للانحطاط العربي وأبواقاً لفضيحة العرب بالمستبدين الذين يتحكمون بهم. أما النشر فيعاني من ضائقة كبرى باتت تشكل تهديداً لدوره ومكانته.
ماذا بقي لدى المدينة من عناصر حياة تستطيع أن تدافع بها عن حياتها؟
تمشي في شوارع بيروت المعتمة فتصاب بذهول آت من حيوية تبدو من توهجها وكأنها استفاقة ما قبل الموت. تنظر إلى البحر الذي يعانق الأفق، فتصاب بارتعاشة الموج، موج يمزج أعماق من يرى بأعماق ما يُرى، وتتساءل هل هذه الارتعاشة نذير موت أم بشارة حياة؟
لا أريد أن أمزج أمنياتي بالمشهد البيروتي فأبدو كمن يغطي النوستالجيا بأحلام اليقظة. وعلى الرغم من أن الحنين شرعي وجميل في بعض الأحيان، غير أنه يستبطن العجز، فيستبدل الحاضر بحنين إلى ماض هو مزيج من الذاكرة والخيال.
أتكلم عما أراه أمامي، فأنا كالأغلبية الساحقة من اللبنانيات واللبنانيين، أشعر أن بلادنا تطردنا وتحولنا إلى منفيين سواء غادرناها أو بقينا فيها. المرارة تحتلنا وتجعل الأشياء بلا طعم، محولة أيانا إلى ضحايا، تبحث عن سبل للنجاة ولا نجاة.
خيبة الأمل بعد تلاشي نبض انتفاضة 17 تشرين، وعودة الطوائف إلى احتلال المشهد بالتحريض والتلويح بالسلاح، يهدد بإعادة لبنان إلى المربع الصفر، حيث قرار الحياة والموت بيد لاعبين إقليميين متوحشين، لا يبالون بمصائر الناس.
وسط عتمة انحطاط العرب تجري عملية اغتيال المكان.
انهار الوهج الاقتصادي البيروتي، وانهارت الأسطورة التي بنيت من حول لبنان، والمشهد يحتله لاعبون إقليميون يشعرون بالزهو وبقدرتهم على البطش. جيوش وعروش، احتلال واستيطان، خراب شامل يصنع ثقافة العار والفرجة والانهيار.
أين بيروت؟
قبل الجواب عن هذا السؤال، علينا أن نتذكر أن ما لا يستطيع أحد الاستيلاء عليه وتوظيفه هو الثقافة التي لا حياة لها من دون الحرية.
هناك بالطبع ما يشبه الثقافة البديلة في المدى النفطي العربي، وهي قائمة على الفرجة والبهرجة والاستعراض والجوائز والمال النفطي الذي يصرف بلا حساب.
إنها ثقافة العبيد.
مجموعات من المهرجين والنصّابين يمتطون الإعلام ويقودون المهرجانات ويبنون المتاحف الخاوية وينظمون الاحتفاليات الفارغة من المعنى.
عبيد ينحنون أمام إسرائيل، التي مسحت الأرض بكراماتهم المنسية، ومستوطنون فالتون من عقالهم، يحرقون ويدمرون ويقتلون.
وسط هذه الدعارة الثقافية الشاملة، يجد موطِنَا النهضة العربية، بيروت والقاهرة، نفسيهما أمام التحدي الأكثر صعوبة.
القاهرة مغيبة خلف ستار القمع الذي يهدد ثقافتها بالموت، وبيروت محاصرة بحصارات متعددة، يأتي في طليعتها هيمنة مستبدي الطوائف على المشهد، وهم يحملون سلاحهم الأخير، بعد انهيار كل أثر لشرعيتهم، وهو التلويح بالحرب الأهلية.
لكن بيروت لا تملك سوى خيار واحد كي لا تندثر وتغرق في الانحطاط.
وخيارها الذي صنعها كان وسيكون ثقافة الحرية.
وثقافة الحرية تحمل أبعاداً متعددة: وعي ديموقراطي علماني، وبناء أطر في الهامش الطلابي والثقافي والنقابي للدفاع عن العدالة بوجهيها الاجتماعي والاقتصادي، ودفاع عن القانون في وجه من يريد تدمير القضاء، وإبداع ثقافي لا تحده سوى السماء.
هنا يجدر بنا التوقف طويلاً أمام محاولة مجلس نقابة المحررين الذي يسيطر عليه أصحاب الصحف ويشكل موقعاً للنظام الاستبدادي الطائفي اللبناني، من أجل إخراس صوت «الصحافة البديلة» التي تجسد نبض الحرية الصحافية، وتعبر عن تطلعات جيل جديد من الصحافيات والصحافيين لترسيخ قيم الحرية، ونفض التخشب عن الجسم النقابي الصحافي اللبناني.
يا عيب الشوم.
نقابة المحررين التي يجب أن تكون مهمتها الدفاع عن حرية التعبير، ترفع دعوى قضائية من أجل منع نقابة الصحافة البديلة من التعبير!
إنه الانحطاط الذي نقاومه بضوء الحرية.
هذا الضوء الذي يتسلل من رذاذ موج الحياة، ويقاوم وظهره إلى الحائط، يمسك بفتات الضوء ويجمع خيوطها، ويضم المقيمين والمنفيين في سؤال الحرية.
ما يبقى في بيروت هو بيروت التي لم تمت ولا يحق لها أن تموت.
وحدها الثقافة بما تحمله من قيم الحرية، هي ما تبقى وما سوف يبقى، ولن تقوى عليها جيوش الظلام.
وسط هذه العتمة تستطيع بيروت، رغم ظلام هذا الزمن الذي يحاصرها، أن ترفع صوتها وتستعيد قدرتها، وأن تشكّل حاضنة الحرية والإبداع في المشرق العربي.
نقاوم بؤس المرحلة بالتمسك بثقافة تتحدى الواقع وتسعى لتغييره.
لا تسألوا أين بيروت، فبيروت تعيش في أقلامنا وفي حبر أرواحنا.
إنه التحدي الأكبر، بيروت الفقيرة هي الأغنى، فما تمتلكه وتختزنه لا يشترى بكل أموال الذهب الأسود.
إنها الوجه الآخر لصرخة الحرية التي سحقها الطغاة في العالم العربي، ولآلام اللاجئين والمنفيين، وللأسى الفلسطيني الذي يقاوم الاحتلال والخيانة والخيبة.
هذه هي بيروت التي نحبها، ولن نتركها تموت على قارعة الانحطاط العربي.
دام مداد قلمك الحر الاصيل
جميل ومؤثر
تحليل موضوعي متميز يبرز حقيقة الوضع في بيروت ولبنان عموما ، الحقيقة المرة مرارة العلقم . شكرا للسيد الياس خوري.
حرق متعمد لطائر الفينيق
ولك جزيل الشكر أخي الياس خوري. الثقافة لاحياة لها من دون الحرية.