كلما طال الزمن بالثورة العالقة بين أنياب ومخالب كفاحها المسلح، تباعدت عنها آفاق أهدافها الأصلية، سوف يسأل الثائر المكافح نفسه: أين هو من نهاية هذا الدرب المظلم، وهل هو درب منفتح نحو نهاية ما، أم أنه أضحى حلقة مغلقة؛ كلُّ مسافة في محيطها تؤدي إلى مثيلتها، تكرر بلواها بآلية صماء. إذن من حق الثائر أن يعيد على نفسه، إن لم يكن على قائده، سؤالَ الجدوى من كل هذا.. ولماذا عليه أن يظل شهيداً حياً ريثما يصير شهيداً مقتولاً.
غير أن كل ثورة لا بد لها من نهاية مهما تعقدت ظروف تحققها، وتتمثل الخاتمة عندما يسقط النظام الحاكم الذي سوَّغت انفجارها بذريعة الانتقام من مظالمه بإسقاطه، بإراحة الشعب من طغيانه، لكن أحداً من قادة الانتفاضة الأوائل لم يسمح لخياله بتصور المهالك التي تنتظر الشباب المندفع ومعه الشعب كذلك.
فمهما يقال عادة في الأدبيات السياسية عن الأثمان الباهظة للانتصارات الشعبية، فليس بوسع أي مخيال متفائل أن يتابع تسويغ الأثمان الباهظة بنتائجها، لاسيما عندما لا تؤدي هذه النتائج إلى الانتصارات المرجوة، بل إلى ما هو عكسها، أو على الأقل إلى تكرار المظالم القديمة تحت تسميات جديدة.
سورية الثائرة هي اليوم لا تكاد تعرف أين هي اليوم، ليس هناك ثمة معسكر من معسكراتها المتقاتلة يمكنه أن يحدّد ما سيكون عليه طريقُه إلى يومه التالي، وليس إلى مستقبل البلد ككل. ففقدان بوصلة الصراع تشترك في معاناته كل الجبهات. الفاقدون لحس الاتجاه ليسوا هم معظم المقاتلين في ساحات الفوضى الدموية وحدهم، بل يشاركهم في ذلك حلفاؤهم في الخطوط الخلفية، حتى إن وباء التيه هذا انطلق أولاً من البؤر العلنية والمتوارية من هؤلاء الحلفاء أو الأنصار، من الممولين وموردي الأسلحة، ومن أنواع وأشكال المعارضات المدنية محلياً ودولياً. فليس ثمة ثورة في هذا الربيع العربي تلاعبت بها الأهواء الدولية كما حدث لانتفاضة شباب الشام. هؤلاء الفتيان الذين ملأوا ميادين الأرياف معلنين إرادة إسقاط الاستبداد، معتقدين أنهم سينجزون المهمة خلال أيام أو أسابيع معدودة، لم يكونوا منتظرين عوناً سحرياً من ماوراء الحدود. بعض معارضات الخارج اقترفت الخطيئة الأولى والمشؤومة، أبدلت بسرعة عجيبة المساعدات الفردية المنتظرة من أفراد الاغتراب السوري ـ وكان يمكنها أن تقدم الكثير ـ استبدلوها بأنواع النجدات المشبوهة الهابطة من أجهزة الدول الغربية والعربية، لقد تمّ بذلك تهجيُن الانتفاضة الشبابية، وقبل أن تتحول إلى فيضان جماهيري هائل، وذلك بمضاعفة الثورة العفوية تلك بنسختين طارئتين عليها، واحدة داخلية مجاورة لها اتخذت اضطراراً شكل الانتظام العسكري، والأخرى خارجية اغترابية، خصّت نفسها بالعلاقات الدولية والنشاط الإعلامي، ثم ما لبثت هذه النسخة المعولمة ان احتكرت صفة التمثيل للأصل الثوري، ومن تمثله في الوقت عينه، كما حدث للنسخة الداخلية المعسكرة التي استوعبت سريعاً واختزلت الدفق الجماهيري السلمي، ولم تُبق من الثورة المدنية سوى بعض الجيوب المتناثرة على هوامش العسكر أو فيما هو أبعد منهم قليلاً أو كثيراً.
كادت هاتان النسختان الطارئتان على الأصل أن تلغيا الأصل، بإبطال فعاليته الاجتماعية، وإن احتفطت الثورة المدنية ببعض أنشطتها الفردية والثقافية، لكن وجودها الجماهيري صار هو المعطل بعد أن تناثرت جبهات القتال في أنحاء الوطن، وفقدت البلاد أبسط شروط الحياة الطبيعة في مختلف بيئاتها السكانية، فإذا ما استُفتيَ الرأيُ العام السوري اليوم حول أقصى ما يأمله في ظروفه الحالية لاجتمعت إرادته حول تمني العودة إلى السلم الأهلي، فليس ثمة من تقدير حقيقي لما يعنيه مصطلح السلم الأهلي هذا، إلا عند من يفتقد شروطه الأولية، هذا لا يعني أن الثورة خسرت حاضنتها الأهلية، أي أن المجتمع بدأ يرفض الثورة بذات الدرجة التي رفض فيها نظام الاستبداد الحاكم، لكن في الوقت عينه يمكن للمراقب الحيادي أن يجزم أن سورية الثورة لن ترضى أن تكون مطية لكتائب التحريفات الظلامية، تهبّ عليها من رياح الأرض الأربع.
لعل أدهى ما أعاق الثورة عن تحقيق هدفها في إسقاط النظام بين أسبوع وآخر كما كانت تحلم طلائعُها في فترة انطلاقتها الأولى، ليس هو تخلي الغرب عن وعود المساعدات الفورية ـ كما هو شائع في السياسات الرسمية ـ بل هو التدخل الكثيف في أخصّ شؤون هذه الثورة، فالعقل الغربي المنذهل بفجائية الربيع العربي منذ نجاحاته الأولى المتتابعة، في البعض الأهم من دول الغرب في الشمال الأفريقي، لم يستسلم لموجة جديدة من الذهول والارتباك التي اعترت تحركات ساسته الظاهرية، إزاء تطورات الحدث الناري المتّقد في ربوع الشام. فقد أدرك بسرعة أن أخطر ما يميز الانتفاضة السورية الجديدة هو بركانها العفوي الذي يغذي قواها الانفجارية من بعضها، وفي الوقت عينه يشكل أمنع درع حافظ لاستقلاليتها.
فقدانُ هذه الاستقلالية، لم يتحصّل بسبب أعطالٍ في الممارسة الثورية فحسب، بقدر ما أفرزته استراتيجيةُ خبيثة مضادة صمّمت على استخدام الثورة لغير أهدافها، مع المحافظة على حد أدنى من إيقاع حراكها اليومي؛ وحدث ذلك كما يلي: حين انتفض شعب سورية بعد هجوعٍ لثلاثين عاماً، كان له هدف واحد هو الخلاص من عصابة الطواغيت المتحكمة بحياة الناس وأموالهم ومستقبلهم. وعندما تدخل المجتمع (الدولي) تعامل مع ثورة الشباب كفرصة تاريخية لتحقيق هدفه التقليدي، وهو التخلص من سورية كدولة وشعب وحضارة، وخاصة كدور رائد وقائد، له جولاتُه المتميزة في قصة انبثاق النهضة العربية الجديدة بمعزل عن لصوص العالم الكبار.
كانت الخطوة الأولى في هذه الاستراتيجية المتجددة تتمثل في إغراق الجسم الوطني الأهلي لكيان الثورة بزحوف من الطفيليات الأجنبية الغريبة والهجينة بأفكارها ومسالكها، وبالتالي المنحرفة بغاياتها الملتبسة عن رؤيا النقلة النهضوية المحركة للانتفاضة الشبابية، كان ذلك أسوأ ما تُبتلى به ظاهرةُ كل ثورة عندما تُستلب منها مادتُها البشرية الأصلية، عندئذ يمكن لهذه الثورة المزوّرة أن تُوظّف في خدمة المزايدات الأيديولوجية والدموية واللاإنسانية من كل نوع، كما شهدته مهالك السنتين السابقتين. إنها ظاهرة تغريب الثورة عن أهلها وثقافتها التلقائية.. يحدث هذا تحت سمع وبصر الطلائع التي كانت هي السبّاقة إلى اجتراح عصر الثورة، لكنها في نهاية المطاف تفقد حتى حسّ الشهادة على خلاصة (المؤامرة).
خلال هذه المهلة الكارثية ما بين اندلاع الانتفاضة والوعد بإسقاط النظام، لم يجر تمديدُ المهلة مرة بعد مرة، مع تأجيل الوعد بالخلاص إلى ما لانهاية، فقط من تلك الأوقات الضائعة والعهود الخائبة. خلال هذا الزمن الأسود المشؤوم لم تكن الثورة لتنمو وتقوى، ولم يكن النظام ليضعف ويتهاوى، بل كانت سورية في ذاتها هي الضحية الكبرى الصامتة والمسكوت عنها، فما أن رُفعت سلطة الدولة عن حدودها الجغرافية ـ بحجة كونها تابعة للنظام ـ حتى اطلقت دول أوربا غربانها السود عبر جحافلَ مهاجرة إلى أرض الجهاد، فانهارت أمام هذه الزحوف الحدودُ الوطنية والعقائدية للثورة الأصل، لم تكتف هذه الزحوف باستنساخ النماذج الشوهاء واغتصاب بعض المعالم البراقة من الثورة الأصل، بل مضت في سباق الاستنساخ الجهادي عن بعضها؛ وأخيراً.. فلقد طفح الكيل حقاً، آن للزبد أن ينقشع رذاذُه عن وجه الخضّم الثوري الحقيقي.
بين إسقاط النظام وتدمير سورية، لا يزال أعداء سورية يراهنون في ابتكار الأدوار الملتبسة، لم يعودوا مجرد فاعلين خارجيين، إنهم محاربون ومقاتلون ومتآمرون من الداخل في كل جبهة وميدان، لكن.. الاختلاف بدت معالمه في أفق اليوم قبل الغد، ما نريد قوله هو أن الشعب السوري آخذ في استرداد وطنية ثورته، باسترداده لمواردها البشرية والمادية معاً، إنها صحوة ثقافية حقيقية سوف توقف مخطط تدمير سورية بحجة إسقاط النظام، سوف يمكنها تصحيح هذه المعادلة الزائفة، سوف يغدو المحرك التاريخي تحت شعار إسقاط النظام من أجل إنقاذ سورية الوطن الدولة والمجتمع معاً.
يبقى السؤال حول طبيعة هذا الإسقاط، هل هي سياسية أم عسكرية أم هي المزيج بين الطبيعتين، وحتى لا نقع مجدداً في الحلقة المفرغة إياها، فلندع القول الفصل إلى شباب الميادين وهم منخرطون اليوم في هذه الصحوة النبيلة من محاولتهم استرداد وطنية ثورتهم من التغريب في صنفيه: الذاتي التراثي والعولمي الأجنبي…
‘ مفكر عربي مقيم في باريس