ربما كان يرى في المودّة التي جمعت بيننا صداقة.. نحن كنّا نخشى الإقرار بذلك خوفا من أن نُرى مدّعين متكابرين. ربما كنا أكثر قليلا عن كوننا طلابه في الجامعة، لكن الصداقة تقوم عادة بين متجايلين. كنا في مطلع عشرينيّاتنا، أما هو فكان مقبلا على خمسينه، أو مقبلا على كهولته حسبما كتب هو في ذلك الزمن، واصفا نفسه. ثم إننا شبّان ننتظر ما ينبغي أن نكونه، وهو المطران، بل المطران جورج خضر الذي أضاف إلى شخصه وموقعه ميزاتٍ كثيرة. ثم هناك حضوره الشخصي، كاريزماه كما رحنا نسمّي ذلك في ما بعد، ذاك الحضور الشخصي الذي كنا آنذاك نستدلّ به على كامل وجود الشخص وليس فقط على هيئته وشكله الخارجي.
لذلك يصعب علينا أن نقول كنا أصدقاءه.. كنا نزوره في مقرّ المطرانية، وهو كان يحتفي بمجموعتنا الصغيرة فينهض عن كرسيه بمجرد أن يرانا من وراء الزجاج صاعدين، أو منتظرين بعضنا بعضا كي نكون، واقفين معا، لحظة يُفتح الباب لنا. «مرحبا سيّدنا» كنا نقول ونحن نصافحه. كلمة «سيدنا» احتاجت منا إلى وقت لنهتدي إليها، إذ لم نكن نعرف بعد بماذا يُنادى رجل في هذا المقام الديني، وكذلك كلمة «مرحبا» التي، ونحن نقولها، كنا نسائل أنفسنا إن كانت، في حضرته، أقلَّ مما ينبغي.
لكن سيّدنا كان يعرف أن الزيارة ستتحوّل إلى سهرة ستطول، ذلك ما كان يأخذنا إليه الاستغراق في الكلام، كلام المطران الذي كنا نشتاق سماعه، وكلامنا أيضا، ذاك الذي كنا نشعر بأنه يحبّ سماعه. ربما كان يحبّ أن يعرف كيف نفكّر وما هي آراؤنا ونحن في العمر الذي كان عاشه قبل عشرين سنة أو أكثر قليلا. في أحيان كنا نقول إنه، بمجالستنا، يستأنس بالكلام على الأدب، ذاك الذي كان، في مطلع شبابه، قد اختاره طريقا للعيش والمعرفة معا. وذاك الاهتمام بالأدب بقي حاضرا فيه، نعرف ذلك من عدم اكتفائه بأن تصل فكرته، إذ هناك فنّ في الكلام يعمّق وقعَها ومضمونَها معا. هذا ما كنا نقرأه أيضا في زاويته الأسبوعية، كل أحد أو كل سبت، في جريدة «النهار» بل إنني، في ما أعيد قراءة كتابه «لو حكيت مسرى الطفولة» أجدني أقف عند جملة هي: «أهكذا حوْله كان يرانا نتحلّق كالنجوم حول الشمس في حلم يوسف». هذه الـ»حوله» التي وضعها في السياق غير المعتاد من الجملة، عن تعمّد وقصد، جعلت قارئه يحاول تصويب ما قرأ، أي إرجاع الجملة إلى الإنشاء العادي. وكانت تبوء محاولة الإرجاع بالفشل، وبالفشل المتكّرّر، كلما تكرّرت المحاولة. أما مكمن هذا الفشل ففي أن فتنة التعبير لم تكن لتبلغ دون ذاك الذي كان آخرون يضعونه في مصاف اللعب بالكلام.
رفقة المطران، سماعُه ومحاورتُه، كانت توسع الكلام، أعني أننا كنا نراه صانعا لفضاء ثقافي متّسع، وليس سائرا على خطّ ضيّق متّصل. الخط المتصل الذي يظن سالكوه أنه أسرع السبل للوصول. ليس المقصود هنا الكلمات وحدها، بل طرق التفكير أيضا. آنذاك كان لكل فكر مفهومُه ولغته لا يسمحان بإقحام ما هو مختلف عنهما. أقصد أنك إن كنت ماركسيا آنذاك فأنت تتكلم ماركسيا. وإن كنت قوميّا فأنت تتكلّم قوميا، دون مجال للتنويع. آنذاك، في السبعينيات كانت تلك الخطوط المستقيمة غير مفتوحة حتى على التقاطع في ما بينها. أما كلام المطران جورج فمتنوع الطبقات والمصادر. الكلام عنده متداخلةٌ فيه ثقافات وأفكار قديمة وحديثة، ولذلك هو مازج للتاريخ بالأدب، والفلسفة بالدين.
ودائما كان كلامه معارضا للسائد المسيطر في ذلك الحين. من يسعى مثلا إلى تكافلٍ بين صاحب العمل والعامل في زمن ما هيمنت على الثقافة أفكار تقوم على الصراع الطبقي. من يمكن له أن يقول، وفي زمن الدعوات لمشاركة النساء ممارسة كاملة في الحياة العامة مَن يمكن له أن يقول: «ولا ريب عندي أن المرأة ابتدأ استعبادها لما دخلت دنيا العمل عند تفجّر الثورة الصناعية». وذلك في معرض بحثه الروحي والحياتي معا عن أدوار المرأة ومعاني وجودها.
***
في بداية الفصل الدراسي مطلع 1970 فاجأنا وجود المطران بين أساتذة الجامعة. ولما سألت عن ذلك أجابني زميل أنه المطران جورج خضر وهو سيعلّمنا مادة الحضارة الإسلامية. بدا ذلك غريبا لنا، نحن الذين عُوّدنا أن تأخذ الطوائف على عاتقها تعليم حضاراتها وعلومها، لكن ذلك أعجبنا، إذ رأينا فيه مقاربة غير معهودة للثقافة الدينية. ولأن ذلك يحصل هنا في الجامعة فهذا يعني أن هذه المبادرة مقّر بها رسميا. في الصفّ قال لنا ما عاد لاحقا إلى كتابته في كتابه «لو حكيت مسرى الطفولة»: «لو كانت لي كلمة تُسمع لعلّمتُ كلَّ كهنتنا ومرتّلينا تجويد القرآن». كان يحبّ سماع التجويد القرآني. أصغى إليه في مدن عربية عديدة لكن: «إن أنت ذهبت إلى مسجد من مساجد صنعاء واستمعت إلى القرآن فيه لظننت نفسك في دير من ديورة هذه الدنيا البيزنطية الرائعة». كان يسعى في البحث عن أصل مشترك بين حضارات الشرق وأديانه، وكان يعرف أين يجده.
أذكر في إحدى زياراتنا له أننا سمعنا ونحن ندخل تجويدا قرآنيا، لم يكن ذلك يُنقل من الراديو، بل من أسطوانة سوداء كبيرة مثلما هي أسطوانات ذلك الزمن، ولم يلبث، بعد أن صرنا في الداخل، أن أرجع الأسطوانة إلى أوّلها. أراد بذلك أن نستمع ليس للتجويد فقط، بل أن نتابع مسار قصّة يوسف. أنت يا حسن، قال لي، فكّر في أن تختار موضوعا للدكتوراه، حين تصل إليها، بسورة يوسف. بين ما أحَبَّه فيها لغتَها أيضا، تلك التي رحنا من بعده نردّد جملا كان يردّدها هو منها.
في كلامي على المطران لن أفوّت ذلك اللقاء الذي بقيت ممتنّا ومعتزا به في تلك السنوات التي تلت، كان واقفا على باب كافتيريا الكلية يجيل نظره في أنحائها. لم تكن الكافتيريا المزدحمة بالطلاب والطالبات مكانا تستحسن زيارته، الصخب كان مهولا والجدران رطبة والأرضية يغطّيها الماء والطاولات متفرّقة دون ترتيب. أسرعت بالتوجّه نحوه: «سيّدنا، عمتفتش عن شي». «وين كنت قاعد، عمفتّش عليك» قال لي. حين جلسنا إلى الطاولة بدأ بفتح دفتر كان معه فيما هو يقول لي: «أمس بالليل كتبت شي، بدّي إقرالك ياه». حتى الآن، وقد جاوزت العمر الذي كان فيه سيدنا المطران آنذاك، ما زلت أشعر بسعادة كوننا جالسين معا، في ذلك المكان، إلى تلك الطاولة، والمطران يقرأ لي، لي وحدي، من أجل أن نسعد َمعا، أنا وهو، بما كتب.
كان هذا النص قد نُشر في كتابه «لو حكيت مسرى الطفولة». ما زلت أقرأه، مستعيدا جماله وحكمته ومفتخرا، وإن اقتصرت مشاركتي فيه على السماع، بأنّ لي فيه نصيب.
المطران جورج خضر، وهو في عمر المئة الآن، يحتفل به عارفوه الكثر، سواء كانوا من اللاهوتيين أو من قرّاء كتّبه ومقالاته على الصفحة الأولى من جريدة «النهار» طيلة سنوات، أو كانوا طلابا له في الجامعة.
كاتب لبناني