متابعة للحراك السّياسي في تونس وما يرافقه من مواقف وتصريحات وتوجّهات يُلاحظ أنّ مجمل السلوك السّياسي العامّ وعلى مختلف أصعدته يصبّ في إتّجاه موحّد يدفع استخلاصا للقول بأنّه قد يكون تحضيرا حثيثا وسعيا ثابت الخطى والوقْع لتحديد جيوبوليتكيا تونسيّة خاصّة جدّا ذات مواصفات وملامح محدّدة سلفا، وذات خطوط عريضة على مقاس معيّن لتخدم إحتياجات مرحليّة أكيدة لكنّها مقنّننة . هذا القول قد يجد ما يؤيّده في ما يجري اليوم على أرض الواقع من أحداث تزكّي بعضها البعض وتكمل بعضها أيضا بل يجمعها رابط دقيق لا يجد مبرّرا له إلاّ ما أوردنا سابقا، هذه الأحداث تتجسّم بداية في التراخي الملحوظ إزاء تقديم قانون تحصين الثورة على أنظار المجلس التأسيسي وما رافقه من إحجام لكثير من التيارات والنوّاب على المضيّ قُدُما في العمل على تفعيله، ثمانون ونيف من النّواب فقط هم من ظلّوا متمسّكين بالمبدأ لكنّهم في المقابل لم يجدوا الصّدى المطلوب بل واجهوا تجاهلا نسبوه إلى سكرتارية المجلس ورئيسه الذي تقول الأخبار أنّه يعارض قانون التحصين والغموض يكتنف سبب ذلك ودوافعه، وما يزيد الأمر إشكالا التوجّه الأخير من مكتب المجلس التأسيسي إلى التّفكير في تكوين مرصد للتبّع الجزائي لكلّ ما يراه مسّا من هيبته ومنظوريه وهو ما يضفي عليه ربّما وعلى أعماله مستقبلا هالة من القداسة ليتمتّع بنوع من الحصانة عن الخوض الإعلامي. في ذات السّياق يروج أنّ هناك نيّة لطرح مشروعِ ما يلغي عقوبة الإعدام وآخر للبحث في إمكانيّة مساواة الرجل بالمرأة في الميراث بعد أن أستُبعد تبنّي الإعتراف بالمِثليّة الجنسيّة والذي يرجّح العارفون بالعلاقات الدوليّة أنّ من نتائج إسقاطه أن كان إعفاء أوروبا لعائلة وأقرباء المخلوع من التتبّعات الصّادرة في شأنهم ورفع يد دولها على الأموال التي يطالب التونسيون بها في نطاق استرداد الأموال المنهوبة. مع هذا يضاف الحديث عن موضوع قانون الإرهاب الذي تدعوابعض الأطراف إلى إعادة سريان مفعوله بما يحمله من تعدّيات وحظر على الحقوق والحريّات، أمّا ما يزيد تثبيتا لهذا هو ما تتداوله كثير من المواقع بأّن الأمنيين بصدد وضع اللّمسات الأخيرة على مشروع قانون لحمايتهم وعائلاتهم وهو حسب ما تسرّب منه يتضمّن فصولا قاسية من شأنها أن تؤسّس لدولة بوليسيّة من جديد وتدفع نحو تكريسها بعد أن ثار الشعب على مثلها زمن المخلوع، كما أنّ المواجهات الأخيرة مع السّلفيين التي اتّسمت بمعالجة أمنيّة قويّة وتبنّي الحكومة مواقفا علنيّة ضدّهم زادت من حدّة ردّة الفعل والتصعيد مقابل تساهلها مع تحرّكات العلمانيين وإثاراتهم والنقابيين وإضراباتهم المتواترة والعشوائيّة التي أضرّت بالإقتصاد الوطني . كذلك ما حام حول مفاوضات صندوق النّقد الدّولي وضبابيّة الشروط التي يضعها مقابل إسناد القروض إلى تونس وما رافقتها من تعليقات لعلّ أهمّها ما صدع به قيادي بارز في حركة النّهضة وما ربطه بين تلك الشروط وموقف الحكومة ضدّ أنصار الشريعة. كلّ ما سلف ذكره وما أصبحت تتضمّنه سواء التصريحات الحكوميّة أو التي تصدر عن بعض قيادات النّهضة يتجمّع في مسار واحد يدعو إلى الشكّ والريبة ويضع الكثير من التساؤلات، هل هناك دفع قويّ داخليّ أو زيادة من الضغوطات الخارجيّة لحشر السّياسة التونسيّة في مربّع معيّن حتّى تكون أنموذجا يحظى بالرّضاء ويضمن إستمراريّة نوعيّة الحكم وهويّة منفّذيه ؟ هل يُراد لتونس بعد ثورات الرّبيع العربي وما أدّت إليه من خلط جديد للأوراق في السياسات الدوليّة وتغيّر معطيات العلاقات بين الدّول وخصوصا بعد أن صعد نجم الإسلاميين وتولّيهم كراسي الحكم، هل يُراد لتونس أن تكون نموذجا يحوز على رضا القوى الفاعلة والمتحكّمة في المنطقة فتجعل منها عنوانا جامعا بين الرضا الشعبي واستمراريّة مصالح هذه القوى وبالتّالي يسهل إعادة نسخه في باقي دول الربيع العربي؟ منجي باكير – تونس