صبحي حديديللمرء أن يدع جانباً ما تقوله بثينة شعبان عن افتخار حافظ الأسد بها، كـ’أستاذة جامعية وكاتبة’؛ وكيف كان يضعها في مصافّ كوليت خوري، ‘رغم فارق السنّ بيننا’، كما تقول في مقدّمة كتابها الجديد ‘مفكرة دمشق: عرض من الداخل لدبلوماسية حافظ الأسد حول السلام، 1990 ـ 2000’، الذي صدر مؤخراً بالإنكليزية. ثمة، في المقدّمة ذاتها، ما هو أكثر طرافة، وأدعى للاقتباس هنا: الأسد، الأب دائماً، زار شعبان في المنام، بعد عام على وفاته، في حزيران (يونيو) سنة 2000؛ وسألها: ‘بثينة، لِمَ لم تكتبي، بعدُ، عن فترة عملك معي؟’، التي تمتدّ على عقد من الزمان، كما تُعْلمنا شعبان، بين 1991 وحتى ساعة الوفاة.’أجبتُ قائلة: لأنني لم أعرف من أين أبدأ، وأي نوع من الكتب ينبغي أن أكتب. هل يتوجب أن أكتب عن طفولتك، عن شبابك، عن عائلتك، عن مسارك المهني؟’؛ تقول شعبان، ثمّ تتابع ما أوصاه بها الأسد في الحلم: ‘كلا، كلا. ليس مطلوباً منك أن تكتبي عن هذا كلّه. أربعة فصول سوف تكفي. شرح لي أنّ تلك الفصول ينبغي أن تركّز على سورية والغرب، وعلاقته بالغرب، ودوره في عملية السلام، وأخيراً: حافظ الأسد وبيل كلنتون. فهمت أنه يريدني أن أكتب الحقيقة عنه، وأن أبدّد نقاط سوء الفهم الهائلة التي سادت في الغرب حول سمعته ودوره في عملية السلام، وكذلك سوء الفهم حول دور بيل كلنتون، الذي كان الأسد قد منحه ثقة تامة’…لكنّ شعبان، وبدل الفصول الأربعة، كتبت 11 فصلاً، غير المقدّمة والخاتمة، وملاحق مراسلات الأسد ـ كلنتون، فانتهى الكتاب إلى 245 صفحة ونيف. ثمة، كما للمرء أن يتوقع، تفاصيل مسهبة عن مؤتمر مدريد، و’شهر العسل’ بين النظام وكلنتون، و’وديعة رابين’، ومحادثات رونالد لودير (الذي أجرى حوارات مع الأسد، بتكليف من بنيامين نتنياهو سنة 1998، وتواصلت بعد انتخاب إيهود باراك)، ومحادثات شبردزتاون؛ فضلاً، بالطبع، عن تضخيم شخصية الأسد إلى درجة مقارنته بوزير الدفاع السوري يوسف العظمة، الذي استُشهد في معركة ميسلون، صيف 1920، ضدّ الجنرال هنري غورو وجيوش فرنسا الغازية. أمّا ذاك الذي لن يعثر عليه القارىء، العادي المحايد الباحث عن ‘حقيقة’ بشّرت شعبان بأنها ستسردها طيّ فصول مكرورة إنشائية وصفية، ما، فإنها هذه بالضبط: الحقيقة!ذلك لأنّ تلك الحقبة شهدت جديداً، غير مسبوق والحقّ يُقال، هو حكم القيمة الشخصي ـ الأخلاقي الذي أطلقه الأسد على باراك (‘رجل قوي وصادق’)، وحكم القيمة الشخصي ـ السياسي الذي ردّ به الأخير على الأوّل (‘استطاع أن يبني سورية قوية ومستقلة وواثقة بنفسها’). الجديد الثاني، المتفرّع عن الأوّل، هو أنّ الأسد وباراك قلبا المنطق الدلالي البسيط لهذا النوع من أحكام القيمة: إذا افترض المرء أنّ ‘حالة العداء’ كانت ناظم علاقات القوّة بين البلدين، فإنّ وجود رجل ‘قويّ وصادق’، خصمه دولة ‘قويّة ومستقلة وواثقة بنفسها’، ينبغي أن يقلق الدولتَين المتحاربتَين، كلّ منهما على حدة؛ أليس كذلك، وفق المنطق البسيط؟تلك، أيضاً، حقبة شهدت تصريح الأسد الشهير، في لقاء مع عضو الكونغرس الأمريكي توم لانتوس: ‘إنّ مفهومي عن السلام واضح، وحين أتحدث عن السلام الكامل فإنني أقصد السلام الطبيعي من النوع القائم اليوم بين 187 دولة في العالم’. وبالفعل، منذ عام 1973 وافق الأسد على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338، فاعترف عملياً وحقوقياً بأنّ إسرائيل جزء لا يتجزأ من تكوين المنطقة السياسي والجغرافي؛ ومنذ عام 1974، إثر توقيع ‘اتفاقية سعسع’، لم تُطلق في هضبة الجولان طلقة واحدة تشي بانهيار السلام المبرم؛ وبعد ثماني سنوات، وافق النظام على مبادرة الملك فهد التي اعترفت عملياً بحقّ إسرائيل في الوجود؛ وفي عام 1991 ذهب النظام إلى مؤتمر مدريد، ثمّ أرسل حكمت الشهابي، وبعده فاروق الشرع، إلى مباحثات مباشرة مع الإسرائيليين، برعاية أمريكية…ما لا تقوله شعبان، حول ‘فشل’ قمّة جنيف بين الأسد وكلنتون، هو أنّ تحوّلاً عميقاً طرأ على تقديرات باراك لأوضاع النظام السوري، مفاده أنّ عزم الأسد على عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل لم يعد مجرّد ‘خيار ستراتيجي’، كما يقول الأسد نفسه؛ بل صار حاجة ستراتيجية تخصّ الوضع السوري الداخلي، ومستقبل النظام، وتسريع إجراءات التوريث في ضوء اشتداد المرض على الأسد الأب. لقد أدرك باراك أنّ العدّ العكسي للعمليتين، ترتيب التوريث وترتيب السلام، لم يعد يتناسب مع العدّ العكسي الثالث: ما تبقى للأسد من زمن على قيد الحياة. وما دام التوريث له الأسبقية، وتنظيف بيت النظام الداخلي، تمهيداً لوراثة سلسة ما أمكن، لا تعلو عليه أولوية؛ فما حكمة تقديم تنازلات، أو أيّ تنازل في الواقع، مهما كان ضئيلاً؟وهكذا، لم يكن تراث يوسف العظمة هو الذي حال دون توقيع الأسد على اتفاقية سلام، كما تزعم شعبان، بل هو الحرص على منجاة الوريث، وحفظ نظام الاستبداد والفساد، وإدامة شبكات الولاء. لا عجب، إذاً، أنّ طراز الخبر اليقين هذا، لم يجد طريقه إلى منام بثينة!qlaqpt