من سخريات القدر أنه في الوقت الذي خرجت فيه الملايين من جماهير الشعب العربي، إلى شوارع شتى مدن العرب، لتطرح شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وشفافية ونزاهة إدارة مؤسسات الحكم، أي في مجملها شعارات الديمقراطية، في هذا الوقت نفسه تعالت أصوات وكتابات كثيرة غاضبة في مختلف بلدان الغرب، منتقدة بشدة إخفاقات وفضائح الديمقراطية في بلدانهم.
أن نرى عناوين من مثل «الديمقراطية وأزمتها» للكاتب البريطاني أ. س. جريلنج، ومن مثل «كيف تموت الديمقراطية» للكاتبين الأمريكيين ستيفن لفتسكي ودانيال زبلات، ومن مثل «التراجع الكبير» للكاتب الفرنسي جاك جنرو، فإنها دلالات على نمو هلع عميق بشأن تشقق وترهل النظام الديمقراطي في بلدان الغرب. نحن هنا نذكر أصواتا ترتفع في أهم بلدان الغرب الديمقراطية، من حيث وضع الأسس الفلسفية النظرية للديمقراطية، ومن حيث بناء نماذج لمؤسسات وممارسات الديمقراطية، كما عرفها العالم عبر عدة قرون. ما أثار تلك المخاوف في أمريكا هو نجاح دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة، لا بأغلبية أصوات المواطنين الناخبين وإنما بأغلبية أصوات هيئة انتخابية من مندوبي الولايات، وهي أصوات تتأثر بضغوط أصحاب المال والهيمنة والنفوذ في داخل أمريكا وخارجها، بل يمكن شراء بعضها.
وهكذا سمح النظام الديمقراطي لرجل نرجسي، غير متوازن عقليا، سليط اللسان، مفتقر لأي خبرة سياسية سابقة، مرتبط بمصالح أصحاب الثروة، أن يستولي على مركز سياسي بالغ الأهمية لأمريكا وللعالم كله، الأمر الذي اعتبر دليلا على تراجع في شفافية ونظافة وعدالة العملية الانتخابية برمتها. وما أثار الهلع في بريطانيا هو نظامها السياسي الديمقراطي، الذي سمح للحكومة بأن تكون أقوى من البرلمان، كما ظهر واضحا في مناقشات الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، الذي أيضا تجاهل أصوات 48% من الأصوات المعارضة للخروج. هنا استطاعت أصوات قليلة متشددة في حزب المحافظين الحاكم من التلاعب ولي الأذرع وتجاهل القضاء، الأمر الذي اعتبره الكثيرون ديمقراطيا في الظاهر، ولكنه اتوقراطي في الأعماق.
وما أثار الهلع في فرنسا هو الصعود المذهل لليمين المتطرف، المتنكر للمبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، والمعادي للأقليات، والمطالب بتغييرات غير ديمقراطية في العديد من القوانين. ما جعل ذلك الهلع مضاعفا هو فشل المؤسسات الديمقراطية المدنية والرسمية في تلك البلدان، في السيطرة على الممارسات المتوحشة للرأسمالية النيوليبرالية، من اتساع الفجوة في ما بين الفقراء والأغنياء، وإضعاف النقابات، وهيمنة المال وأصحابه على الحياة السياسية ومكونات الرأي العام.
ما عادت الأحزاب تتنافس بشرف وأريحية، وإنما هي في حروب الإماتة لبعضها بعضا واجتثاث خصومها من الوجود
والواقع أن الثغرات التي يذكرها هؤلاء الكتّاب وغيرهم، كثيرة جدا، لا يسمح المجال لذكرها، ولكنها ثغرات خطرة تستدعي مراجعة الموضوع الديمقراطي برمته، وعلى الأخص أنظمة الانتخابات، واتخاذ القرارات، وذلك لإبعادها عن الهيمنة والبيع والشراء من قبل مؤسسات المال من جهة، وعن الصراعات العبثية غير الشريفة في ما بين الأحزاب من جهة أخرى. ما يعطي أهمية لمتابعة مناقشات الموضوع الديمقراطي في بلدان الغرب الديمقراطية، هو أننا يجب، ونحن نحاول الانتقال إلى النظام الديمقراطي في بلاد العرب، أن لا نبدأ من حيث بدأوا، وندخل في دوامة الأخطاء نفسها، وإنما نحتاج إلى أن نبدأ من حيث انتهوا لنتجنب سوءات تلك الأخطاء.
لنأخذ مثالا واقعيا واحدا يوضح الإشكالية في ممارسة الديمقراطية في أغلب بلدان الغرب الديمقراطي، إنها إشكالية نجاح من يحصل على أعلى نسبة من أصوات الناخبين الموزعة في ما بين المتنافسين. فلو أن ستة مرشحين تنافسوا على مقعد واحد في دائرة انتخابية، وحصل كل واحد من خمسة من هؤلاء على 15% من أصوات الناخبين الإجمالية، بينما حصل السادس على نسبة 25% من الأصوات، فإن المقعد يعطى لهذا السادس، على الرغم من أن 75% من الناخبين لم يصوتوا له، ولم يرغبوا في انتخابه، فهل يعقل تجاهل أغلبية الأصوات التي لم يحصل عليها المرشح المنتخب؟ وفي هذه الحالة هل حقا أن الذي سيجلس في البرلمان كممثل عن تلك الدائرة يمثل حقا أغلبية سكان تلك الدائرة؟ وبالطبع لا يمكن اعتبار تلك العملية ديمقراطية، لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار بأن الغالبية لم يصُوتوا للمرشح الناجح.
من هنا طرح الكثيرون مسألة الحاجة لإجراء تعديلات في نظامهم الديمقراطي، والانتقال إلى نظام التمثيل النسبي في كل الانتخابات، ليأخذ بعين الاعتبار نقاط ضعف من مثل التي أوردنا.
لكن الأخطر من الإشارة إلى تلك النقاط الإجرائية من قبل مثل هؤلاء الكتاب هو نعيهم لموت روح ممارسة الديمقراطية في الغرب. ما عادت الأحزاب تتنافس بشرف وأريحية، وإنما هي في حروب الإماتة لبعضها بعضا واجتثاث خصومها من الوجود، وما عادت الشفافية متوفرة في عملية الانتخابات، وما عادت القوانين والانظمة تضبط حدود كميات الأموال التي يحصل عليها المرشحون من الأغنياء، وما يعنيه هذا من بيع وشراء للذمم والمواقف، وما عادت المناقشات السياسية تحكمها منطلقات الديمقراطية، من تسامح وعفة لسان وتقبل للرأي الآخر. إنهم بمعنى آخر ينعون موت روح ومبادئ الديمقراطية في مؤسسات المجتمع، وعقل الأفراد وانتقالها التدريجي لتكون نوعا من الأوتوقراطية المقنعة المضللة. هناك إذن موت للمكونات القيمية والأخلافية ونقاط ضعف شديدة في المكونات التنظيمية. إذ نحن نتطلع للانتقال من وضع الاستبداد الذي عشناه قرونا في بلاد العرب إلى وضع نور الديمقراطية، نحتاج أن نتأكد من غياب الظلال ومصادر الظلام الخفية في ساحات النور تلك. هذا موضوع يحتاج الشباب أن يعوه جيدا ويتعمقوا في كل جوانبه.
كاتب بحريني
دون التقليل بتاتا من أهمية الديمقراطية والشورى في العالم العربي في مكافحة الظلم والفساد والطغيان والإستبداد من خلال ترويض القوة وترشيدها، لكن الديمقراطية الغربية لا تضمن تحقيق الخير المشترك الموضوعي للمجتمعات، ولا تقود بالضرورة الى “البلد الطيب” واليوتوبيا والسعادة المستهدفة، لأنها ليست آلية لاختيار الغايات المجتمعية “النهائية” أو “المثلى” (Mayo, 1970). وكما نبّه الريسوني في كتابه “الشورى في معركة البناء” (2007)، ليس بالشورى وحدها تتحقق الحياة الفضلى، فهنالك العلم والعمل والأخلاق والمؤسسات والموارد الاقتصادية التشاركية على سبيل المثال. كما نبه المفكر فوكوياما الى حاجة الديمقراطية الليبرالية الى “الثقافة القائدة” (2018) والى رأس المال الاجتماعي (1995)، وأكّد المنظّر السياسي روبرت دال (منظّر وداعم التعددية الأبرز) على وجود “معضلات اساسية في الديمقراطية التعددية” (1982).
الانظمة السياسية تتطور مع تطور المجتمعات. فالديمقراطية كما يقول اليكس دو توكفيل هي حالة اجتماعية وليست نظاما سياسيا. والحالات الاجتماعية في العالم العربي تتأرجح بين الثورة على انظمة القمع الديكتاتورية والخنوع لتقاليد قبلية طائفية.. وهذا بالتأكيد مصيره للزوال مع التطور
ما زالت الديموقراطية فيها عيوب كثيرة و لكنها افضل من غيرها. و ما زال فيها اختلافات حسب الدول و الثقافات.. و لا يمكن استزراعها كشجرة جاهزة بل انها تبدأ شتلة صغيرة تترسخ في وطنها الى ان تصبح شجرة ذات جذور عميقة و ظلال وافرة و تصير جزءا لا يتجزأ من الثقافة العامة للشعب.
و لكن الحرية هي المتطلب الاساسي للديموقراطية.. حرية الفكر و حرية التعبير و التنظيم و العمل… الديموقراطية ليست انتخابات و لكن حريات