أي عراق يريده المتظاهرون؟

في ظل جريمة الاحتلال الصهيوني الاستيطاني ضد الشعب الفلسطيني، يواصل عدد من الأنظمة العربية، من بينها سوريا والعراق، ارتكاب الجرائم ضد شعوبها بشكل مستديم، لكنه أقل ضجيجا، وأكثر استفادة من ورشات تغليف الممارسات الإجرامية بالديمقراطية. وبينما تنشغل الشعوب العربية بالنزول الى الشوارع تضامنا مع الشعب الفلسطيني، والهتاف بصوت عال أن حكومات التطبيع مع الكيان الصهيوني لا تمثلها، تلتقط الأنظمة القمعية كل من ترى فيه نبلا إنسانيا لتغتاله. ولعل واحدة من أقسى الصور الدالة على لا إنسانية نظام ما، هي تلك التي صاحبت آخر المظاهرات والاحتجاجات العراقية، يوم 25 مايو، ومطلبها الرئيسي هو الكشف عن قتلة المتظاهرين. يومها رفع المتظاهرون السلميون صورة متظاهر شاب يحمل صورة متظاهر قُتل في تظاهرة سابقة. يومها، قُتل ثلاثة متظاهرين وجرح المئات، حين أطلقت القوات الحكومية الرصاص على المتظاهرين العُزل، لتضاف الى قائمة الضحايا أسماء جديدة، في بلد بات فيه القتل سلاحا حكوميا – ميليشياويا مشروعا.
في العراق، بوجود النظام الحالي، لم يعد لهوة الحضيض الأخلاقي والإنساني قاع. حيث تتفكك أكذوبة الديمقراطية وانتخاباتها، يوميا، مع تزايد ضحايا المظاهرات والاعتصامات في أرجاء البلد، ومع استشراء الفساد المُهدد لبنية المجتمع وسيولة الولاء. وصل الانحدار حدا تلاشت فيه « العصمة» الانتقائية التي يقدمها ساسة النظام لمتظاهري هذه المدينة لأنها «مقدسة» أو شرعنة للقتل في تلك المدينة لأنها «إرهابية». إذ نجح النظام الفاسد في تحقيق المساواة للمواطنين، جميعا، بلا استثناء، في حق السقوط ضحية للاغتيال. ليس هناك ما يحمي المتظاهر المطالب بالكشف عن قتلة المتظاهرين في بلد بلا حكومة وبلا قانون. واستديوهات أجهزة الإعلام مفتوحة على سعتها لاستقبال ساسة يعرف الكل مدى انخراطهم بالفساد وجرائم الاغتيال، ان لم يكن بشكل مباشر فصمتا وتسترا. والمفارقة التي يدفع ضحايا الاحتجاجات ثمنها، غاليا، أن ينجو القتلة بجرائمهم، أمام الملأ، لأنهم يتمتعون بحماية أقوى بكثيرممن يقدمون أنفسهم كرؤساء للحكومة وحماة للقانون.
كما حدث في اليوم التالي لمظاهرات 25 مايو الحالي، حين أصدر رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي أمرا بالقاء القبض على المدعو قاسم مصلح، بتهمة اغتيال الناشط إيهاب الوزني، رئيس تنسيقية الحراك الشعبي، قرب منزله في محافظة كربلاء جنوبي العراق. كان القتيل معروفا بموقفه من الميليشيات المدعومة إيرانيا. أعتقل قاسم مصلح، القيادي في ميليشيا الحشد الشعبي، وهو قائد سابق للواء «علي الأكبر» التابع لحشد العتبات الذي تديره المرجعية الشيعية مباشرة، بعد أن أقامت عائلة الوزني، الدعوى ضده ويبدو أن القتيل كان قد أودع لدى عائلته قائمة بأسماء الأشخاص الذين هددوه سابقاً. تأكيدا للأمر، أصدر الكاظمي بيانا جاء فيه أن إلقاء القبض تم بأمر القائد العام للقوات المسلحة مذكرة قبض قضائية وفق المادة 4 إرهاب وبناء على شكاوى بحقه. إلا أن بقاء المتهم رهن التحقيق لم يدم غير ساعات إذ « قامت سلطات عراقية بإطلاق سراحه» ونقله سالما آمنا الى منزل رئيس هيئة الحشد الشعبي. مما أوضح من هو مالك السلطة الحقيقية في البلد.

الهوية الوطنية وتآخي قوميات وأديان العراق وعمق ثقافته وتاريخه، أقوى من أن تمحى. إنه جيل إستعادة العيش سوية، كمواطنين متساوين، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين

هذه «السلطات العراقية» عاملت المطالبين بمساءلة قتلة المتظاهرين بطريقة مختلفة تماما. حيث لم تتوان عن إطلاق الرصاص الحي عليهم، والاعتداء عليهم، وترى انتهاكاتها ضرورية في سيرورة بدأت منذ انتفاضة تشرين / اكتوبر 2019 وحتى اليوم، ليزداد عدد الضحايا، بشكل طردي، مع تهرؤ قناع الاصلاحات الموعودة، ومع استبدال وجه رئيس وزراء بآخر، في حكومات احتلال متعاقبة موسومة بأنها» منتخبة». وكان أحد اعضاء المفوضية العليا لحقوق الإنسان قد تحدث عن وجود 89 محاولة اغتيال لنشطاء وإعلاميين بالإضافة الى التهديدات. ويأتي توقيت ارتكاب هذه الجرائم مع تكسر الاسطوانة المشروخة عن «محاربة الإرهاب» و «خطر داعش» و«القاعدة» و«أزلام النظام السابق». لتحل محلها، بشكل تدريجي، بين عامة الناس، توصيفات « الفساد» و«الطائفية» و« الميليشيات» و«العمليات الخاصة» و« الفصائل الولائية».
ليس هذا ما يريده المواطنون. لم يكن مطلبهم، لا في الماضي ولا الحاضر، تبديل الإرهاب بإرهاب آخر أو المسميات والتصنيفات بأخرى. ما يريده المواطن هو أساسيات بناء الحياة الكريمة من صحة وتعليم، وحقوق توفر له ولأبنائه مستقبلا آمنا في ظل قوانين تطبق على الجميع بلا استثناء. فكيف يحقق ذلك وهو يكاد يختنق في وضع تتحكم به عصابات تتنازع فيما بينها على المكاسب وتتوحد في احتقارها واستهانتها للشعب. هناك مشاريع وبرامج ومبادرات تحت شعارات مشجعة يتم تقديمها، بين الحين والآخر، من مجموعات وحركات ومنظمات، كحل للوضع الكارثي في البلد. هناك قوائم من احزاب جديدة أو قديمة بمسميات جديدة. المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات مستمرة في ساحات المدن المختلفة. يحاول كل منها طرح مشروعه ومطالبه وفق منظوره. في ذات الوقت الذي لم يبرز فيه مشروع وطني موحد يهدف الى تحرير أرض الوطن من الاحتلال، بأنواعه، والكفاح ضد أشكال الاستغلال وسلبه كرامته وحقه في الحرية. علينا أن نواجه حقيقة أن عملية استبدال رؤساء الوزراء كما في استبدال عادل عبد المهدي برئيس المخابرات الكاظمي لم يكن نصرا للمعتصمين، بل مناورة حلول نجح ساسة النظام في تمريرها لتمديد حياة النظام.
هذا لا يعني أن انتفاضة تشرين لم تحقق شيئا. فقائمة انجازاتها الإيجابية طويلة ولعل أهمها أنها منحتنا لمحة ( بالمعنى التاريخي للمحة) لما يجب أن يكون عليه العراق، بجيل جديد طليعته شباب مثقف يُدرك خطورة الطائفيين، يسعى لأن يرى العراق متشافيا متعافيا من الفساد والولاءات الخارجية وسياسات التجهيل، وبقية الأمراض التي زرعها المحتل في تربة أجهدتها سنوات الاستبداد والحصار. جيل ينهض لأنه يحمل روح نضال التحرير من الاستعمار وقادر، في الوقت نفسه، على غربلة خطايا وأخطاء الفترة اللاحقة. ليثبت أن الهوية الوطنية وتآخي قوميات وأديان العراق وعمق ثقافته وتاريخه، أقوى من أن تمحى حتى لو تعاون المحتل والمستبد المحلي سوية. إنه جيل إستعادة العيش سوية، كمواطنين متساوين، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين.

كاتبة من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول هوزان هكاري:

    رؤية العراق متشافياً متعافيا من الفساد
    والولاءات في ظل معطيات ومتغيرات المرحلة الراهنة
    بعيد المنال على الامد القريب،الحلو العراقية جزء
    من الحالة العامة التي تمر بها منطقتنا والتي
    تشكل الطائفية والولاءات الخارجية العامل
    المحرك للاحداث.

  2. يقول الكروي داود النرويج:

    لماذا هذا الضعف الذي يبديه الكاظمي وهو محمي من الأمريكان؟
    فهو رجل المخابرات, وبيده تسيير الجيش والشرطة بل والشعب إن أراد!
    أم أن أمريكا تريد عراقاً مفككاً مدمراً, وغير مستقل؟ ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول S.S.Abdullah:

    ومن هنا أهمية عدم الاستهتار، بأي كلمة، أو جملة تخرج أو تدون،

    مثل رمزية لغة حذاء (منتظر الزيدي) على ممثلي الديمقراطية، أو مفهوم المقايضة الذي طرحته الصين، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه،

    وفي الصين الدولة، تتدخل الإدارة والحوكمة، حتى في داخل الأسرة، وليس فقط الشركة،

    أي الدولة تعلن، متى تسمح بالإنجاب، وكم مسموح لك أن تنجب، ولم يزد العدد عن ثلاثة حتى الآن في عام 2021، ولا حول ولا قوة إلا بالله،

    بينما في (تايوان)، الجانب الآخر من لغة الأشكال (الماندرين، كلغة تدوين الحضارة الانسانية) الآن، أعلنت الدولة، عن راتب لكل طفل جديد، تلده أي أم، بلا سقف أعلى للعدد، للأمهات أو الأولاد في كل أسرة،

    وفي نفس المجال الظاهر الفرس، أقل استخداما للتّقيّة، مع المسلم، مقارنة باليهودي، في السماح لبناء جامع في (تل أبيب)، بينما في طهران (ممنوع)، هذا من جانب،

    ومن جانب آخر، من وجهة نظري، جماعتنا يجيدوا اتقان دور (ملكيّ أكثر من الملك)، أي أن (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً)، كعند أو كيد أو ثار، ولذلك نجح ما حصل في عيد رمضان عام 2021، في كل فلسطين،

  4. يقول S.S.Abdullah:

    يا شاهد، وأحب أضيف، إلى ما أرسلته، صك أول عملة معدنية في الدولة الإسلامية، في جنوب شبه جزيرة العرب،

    (الخليل بن أحمد الفراهيدي)، من جنوب شبه جزيرة العرب، وهو و(أبو الأسود الدوؤلي)، بأمر من (علي بن أبي طالب) بعد نقل عاصمة الدولة، من شبه جزيرة العرب إلى وادي الرافدين، بلد اللغة الأبجدية، وليس إلى وادي النيل بلد اللغة الصوريّة، تم إكمال أهم إنجاز في علم اللغة، من وجهة نظري على الأقل، تصميم حرف وكلمة وجملة، للغة كما تُنطق تُكتب،

    وتم جمع كل ألسنة العرب في قراءة القرآن، لتدوين لغة القرآن وإسلام الشهادتين،

    وعبقرية التصميم، وسهولة تمثيل أي صوت آخر، تم اختياره لتدوين:

    اللغة العثمانية،
    اللغة الفارسية،
    لغة الأوردو،
    اللغة الچاوية،
    لغة الماندرين،

    بل حتى عام 1950، لو بحثت في أي موقع يجمع صور العملات المعدنية أو النقدية، لدول آسيا أو أفريقيا، ستجد تدوين الحرف العربي عليها، سبحان الله،

    السؤال الآن، في سوق العولمة، كيف يمكن استغلال ذلك، من خلال سوق صالح (الحلال)، لنشر المُنتج المحلي، لزيادة الإيرادات، للجميع الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية وبالتالي الدولة، لرفع مستوى الرفاهية للجميع؟!

    يا زياد، الحمدلله، ما حصل في فلسطين من أحداث عيد رمضان عام 2021،

  5. يقول S.S.Abdullah:

    ثبت فشل حتى تقنيات حروب الجيل الرابع، فالكيان الصهيوني منذ أكثر من 70 عام صدرت شهادة ميلاد (مزورة) بشفاعة ستالين روسيا ومحسوبية ديغول فرنسا لتسويق (كيبوتسات الشيوعية الجنسية) كنموذج اقتصادي، وفق أسلوب أكاذيب الثنائي (جوبلز-هتلر) من خلال تكرار سياسة مذابح الهولوكوست،

    بتواطئ وتعاون من خلال تقصير/غش/فساد ممثلي عقلية (آل البيت)، بعدم تسليم الأوراق والمستمسكات القانونية التي يحتاجها أهل (حي الجرّاح) وغيرهم من أهل (فلسطين) في إثبات حقوقه القانونية،

    رغم تسليم (رجب طيب أردوغان) نسخة من الأرشيف العثماني، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومع ذلك نموذج اقتصاد (الكيبوتسات الشيوعية الجنسية) لم يستطع الوصول حتى إلى الاكتفاء الذاتي اقتصاديا، رغم كل الدعم والدلع وضرب قوانين الأمم المتحدة عرض الحائط،

    الأميرة (هيا بنت الحسين) مثال رائع، على دجل ونفاق وخزعبلات كل (موظف) ديبلوماسية أي دولة،

    وليس فقط دولة الإمارات العربية المتحدة، وما فعله كسفير في دولة الكيان الصهيوني،

    خصوصاً، في سياق ما حدث في فلسطين، أثناء عيد رمضان عام 2021، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

    الحمدلله، على نعمة أنني لم أكن في يوم، عبد لأي وظيفة، في أي دولة، حتى لا أتعلم النفاق والدجل والإنحراف الأخلاقي.??
    ????

إشترك في قائمتنا البريدية