عندما قرأت قصة «إزاء الغابات»، للكاتب الإسرائيلي أ. ب. يهوشع أصبت بالذهول، فجأة برز أمامي نص يعترف بشيء من حقيقة ما جرى. تروي القصة حكاية شاب إسرائيلي قرر أن ينعزل من أجل إنهاء أطروحته عن الصليبيين، فعمل كمراقب للغابات في منطقة نائية. وهناك التقى بحارس فلسطيني مقطوع اللسان. الفلسطيني أخرس، والإسرائيلي يتعرف إلى خريطة الغابات في بلاده. وعندما يشعل الفلسطيني النار في الغابة، نكتشف أن تحت الرماد تقع بقايا قرية فلسطينية مدمرة. القرية تنهض من الرماد، والخريطة التي رسمها المراقب الإسرائيلي للغابة تحترق أطرافها.
القراءة الأولى للقصة، والقراءات الأولى هي في غالب الأحيان سطحية، أوحت لي بأن هناك كاتباً إسرائيلياً يعترف بالتطهير العرقي في فلسطين. يومها كان الإسرائيليون يطمسون حقيقة التهجير القسري وتدمير القرى ومحوها عبر زراعة الغابات فوق دمارها.
هذا الاستنتاج صحيح لكنه لم يستطع أن يسبر غور الحكاية، ليكتشف أن تحت قصة القرية الفلسطينية يقع مشروع الاستيلاء على المكان، وأن النار التي اشتعلت سمحت للمراقب الإسرائيلي بأن يتملك المكان بالنار، كما أن الخريطة صارت حقيقية لأن أطرافها احترقت.
كانت هذه القصة إعلاناً بمولد موجة جديدة في الأدب الإسرائيلي، كان رائداها عموس عوز ويهوشع، قبل أن ينضم إليهما دافيد غروسمان. جيل أدبي جديد، صهيوني لكنه يطلق خطاباً إنسانوياً، متأثر بالمدرسة الوجودية.
تابعت هذا الكاتب لأكتشف أنه من أصول شرقية، والده يعقوب يهودي شرقي ينتمي إلى عائلة تعيش منذ خمسة أجيال في القدس، وكان كاتباً يتقن العربية، وأمه يهودية مهاجرة من المغرب. لكن مؤلف «إزاء الغابات» لم يُشر إلى أصوله، وكأنه أراد الإيحاء بأنه أشكنازي كغيره من نخب حزب العمل.
غواية هذا الكاتب استمرت مع روايته «العاشق»، التي تدور في حيفا، بطلها فتى فلسطيني مراهق يدعى نعيم، مفتون بالثقافة وبالحياة في إسرائيل. غير أن نعيم لا يختلف كثيراً عن حارس الغابة الأخرس. صحيح أنه يتكلم بل ويحفظ أشعار بياليك أيضاً، لكنه مجرد شاب صغير عاجز عن التعبير بحرية.
نعيم مثل خليل وعزيز في رواية عاموس عوز «ميخائيلي»، مجرد شبح، لكن ما يميزه هو أنه شبح ناطق، وطفل ينتهي به المطاف مطروداً إلى قريته الجليلية بعدما أقام علاقة مع ابنة صاحب الكاراج.
غير أن يهوشع لم يكتف بكتابة القصص والروايات والتدريس في جامعة حيفا، بل لعب دوراً كبيراً كمثقف إسرائيلي عام من خلال مقالاته عن الصراع في فلسطين. تبنى مع كثيرين من أقرانه فكرة الدولتين لشعبين من منطلق حماية إسرائيل من المد الديموغرافي الفلسطيني، وأنتج نظرية الصراع بين حقين.
ففلسطين في قناعته تشهد صراعاً بين حقين، وليس بين حق وباطل، من هنا يأتي المأزق الذي يجب حله من خلال التسوية. وعندما انهارت محادثات كامب ديفيد بين عرفات وإيهود باراك، أصدر مع أقرانه بياناً حمّل فيه عرفات، الذي رفض دويلة الأنفاق الشوهاء التي عرضت عليه، مسؤولية هذا الفشل. لم أستطع أن أتفهم هذا الموقف الذي يساوي بين الجلاد والضحية في افتراض الحقين، لكنني أستطيع أن أقرأه باعتباره عائداً إلى افتراضات صهيونية جعلت من فكرة إقامة دولة يهودية على حساب الفلسطينيين، هدفاً أعلى. لكن ألا يتعارض هذا الهدف مع القيم الإنسانية التي بشرنا بها يهوشع في أواخر حياته.
قرأت حواراً مع يهوشع في صحيفة «هآرتس»، أعلن فيه أن اليهودي الذي يعيش خارج إسرائيل ليس يهودياً كاملاً، كما قال إنه يفضل أن يعيش مع يهودي متدين ومتطرف على أن يعيش مع فلسطيني علماني كمحمود درويش.
هذا هو مأزق يسار حزب العمل، إنه عنصري وإنسانوي في آن معاً، يقول الشيء ونقيضه، فهو الذي قاد حرب النكبة، التي كانت حرب تطهير عرقي ومذابح وطرد، وهو الذي فرض الحكم العسكري على الفلسطينيين في إسرائيل، لكنه يتنعّج وينطق باسم الضحايا اليهود في المحرقة النازية، من دون أن يلتفت إلى مسؤوليته عن الكارثة الفلسطينية.
هل فكرة الصراع بين حقين تسمح للقوي بأن يفترس الضعيف، وهل مشروع الدولتين لشعبين تستطيع أن تغض الطرف عن الاستيطان الوحشي للضفة الغربية؟
ومع ذلك، فإن قراءة أدب يهوشع تحمل لي متعة خاصة، فبالإضافة إلى صلابتها الفنية، فإنها سمحت لي باكتشاف الثغرات التي جعلت من تعويل البعض على اليسار الصهيوني مجرد وهم. في نهاية حياته، تخلى يهوشع عن فكرة الدولتين معتبراً أن الانسحاب من الضفة صار مستحيلاً، ودعا إلى خيار ضم المنطقة «جيم» إلى إسرائيل، ومنح سكانها الفلسطينيين الهوية الإسرائيلية.
لكن ماذا عن منطقتي ألف وباء؟
لم يتكلم يهوشع عن مصير هاتين المنطقتين، لكنه كان يعرف أن بقاءهما تحت الاحتلال وقوانين الطوارئ سوف يعني تحول إسرائيل إلى دولة أبارتهايد.
نقول «تحول» كأننا نتكلم عن المستقبل، بينما يقول الواقع إن إسرائيل صارت دولة تمييز عنصري، وأن العودة إلى الوراء أو التقدم إلى الأمام أصبحا بالغي الصعوبة إن لم يكن ذلك مستحيلاً. يبدو لي وكأن فلسطين عالقة في بلعوم يهوشع وأقرانه، لا هم قادرون على بصقها، كما أنهم عاجزون عن ابتلاعها. وهذا يذكرني بتوفيق زياد: «عن جدنا الأول/ قد جاء في الأمثال/واوي بلع منجل». الاحتلال هو المنجل الذي ابتلعته إسرائيل، وصراخها يعني أنها لا تستطيع أن تعيش خارج ثنائية القمع والحروب.
شكرًا أخي الياس خوري. يذكرني هذا ببايدن وزيارته المرتقبه! وحزبه الديمقراطي. تختلف المسميات وفعلها واحد.
فلسطين للفلسطينيين والطرد هو مصير المحتل اللعين إسرائيل طال الزمن أو قصر حقيقة لا يناقش فيها اثنان ????????????????????????????