كانت ولا تزال مهمة فقهاء المسلمين واضحة صريحة في أصل منطوقها، وهي إنزال أحكام الشريعة على واقع متغير بطبعه، من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، حتى في العصر نفسه، وكان آباء الفقه الأوائل يحذرون دائما من الوقوع في أحد خطأين قاتلين، كلاهما مروق عن صحيح الدين، إما بالانزلاق بالفهم إلى «التنطع» وهو التشدد في غير موضعه، على طريقة «ييجي في الهايفة ويتصدر» على حد تعبير مثل عامي مصري، وعكسه بالضبط في الخطأ الآخر المقابل، وهو «الترخص» أي التماس الأعذار والرخص في غير محل مشروع، على طريقة المثل القائل «كله عند العرب صابون» وبه تنمحي الحدود بين الدين واللادين، وبين الحلال والحرام، لا في الفقه وأحكام الشريعة فحسب، بل في العقائد الأصلية ذاتها، وعلى نحو ما توحى به موجة «الإبراهيمية» المقحمة على حياتنا اليوم، وهي في جوهرها عملية إرهاب «مترخص» تصادر مستقبلنا وتزلزل ثوابتنا، تماما كما فعل ويفعل «المتنطعون» الإرهابيون، الذين يختطفون الإسلام، ويكفرون الناس جزافا، ويجزون الرقاب ويسبون النساء، ويفككون الأوطان، ويدمرون حرث ونسل عامة العرب والمسلمين، ولا يوجهون طلقة رصاص واحدة للعدو الجامع. وكلا الطائفتين تعمل موضوعيا لمصلحة كيان الاحتلال الإسرائيلي، إما بالطريق المباشر أو غير المباشر، بسابق العلم والإصرار والتربص، أو بسابغ الجهالة والعمى العقلي .
ودعوى «الإبراهيمية» إرهاب معكوس، وهي نسل أجنبي استعماري، ودونما استغراق في التفاصيل، أو تتبع تحبيك المؤامرات، والغرق في تلافيفها، كطريقة مفضلة في التفسير عند تيارات كثيرة على خرائط التفكير العربي الراهن، والتفسير بالمؤامرة، أو التفسير التآمري طريقة رائجة أكثر عند الأمم المهزومة حضاريا، بينما ليس في القصة ما يجري من وراء ستار، فمراكز التفكير الأمريكية التي روجت للدعوى الإبراهيمية، كلها من، أو قريبة من دوائر اللوبي اليهودي والصهيوني، ومقربة بالخلقة من نفوذ المجمع العسكري الصناعي التكنولوجي المسيطر في السياسة الأمريكية، ومن «البيت الأبيض» بالطبيعة، وأيا ما كان الرئيس جمهوريا أو ديمقراطيا، أو في مؤسسة الخارجية الأمريكية، التي أنشأت من سنوات، قسما خاصا باسم «الدبلوماسية والدين» إضافة بالطبع لتقريرها السنوي المعروف باسم «الحريات الدينية» فلم يكن التلاعب بالأديان، شيئا غريبا طارئا في طريقة عمل الامبراطوريات الاستعمارية قديمها وحديثها، ربما الجديد، أن التلاعب بالأديان هذه المرة، يجري على طريقة تذويب الأديان، ومن وراء الاستتار باسم «النبي إبراهيم» عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، واعتبار أنه الأب المؤسس الموحد لليهودية والإسلام بالذات، وفي دين واحد جديد يدعونه بالديانة الإبراهيمية، وطبيعي أن تكون المسيحية عند هؤلاء ملحقة باليهودية، فالسيد المسيح عليه السلام من نسل بني «إسرائيل» وإسرائيل هو النبي يعقوب بن إسحاق، والأخير نجل سيدنا إبراهيم من زوجته «سارة» بينما النبي إسماعيل أبو العرب، هو الأخ غير الشقيق لإسحاق، وقد ولد للسيدة «هاجر» جارية النبي إبراهيم، أي أن العرب واليهود إخوة ومن نسل إبراهيم، مع أفضلية اليهود كأبناء للزوجة لا للجارية، وبما يجعل التحاق العرب باليهود وسلامهم وفاء للأب الجد إبراهيم الخليل، ورواية تبسيطية كهذه، تخلط الميثولوجيا التاريخية مع صلب العقائد الدينية السماوية، وتزوّر أديان السماء، وتجعلها سيرة أعراق مزعومة، وتلوث مكانة وإيمان النبي إبراهيم نفسه، فلم يكن بوسع النبي إبراهيم، أن يستغفر ربه لأبيه الضال عن عقيدة التوحيد الإلهي، وهذا هو جوهر ديانات السماء لا ديانات إبراهيم، وجوهر الإسلام بصفته الدين الإلهي الخاتم، فمن نسل إبراهيم المفترض موحدون ومشركون، منهم من خرج على عقيدة التوحيد بعد هداية، ومنهم من عبد العجل، وحرّف الكتاب وأكل في بطنه السحت، ومنهم قتلة الأنبياء، ومنهم من تآمروا في خطة التخلص بالصلب من السيد المسيح عليه السلام، وكل هؤلاء يوصفون عرقيا بأنهم «يهود».
القصة «الإبراهيمية» سياسية وليست دينية، واستعمارية وليست سلامية وتلويث لاسم النبي إبراهيم بوضعه عنوانا على اتفاقات استسلام وتطبيع
ومن نسل إبراهيم كذلك العرب المفترضون، من حاربوا النبي محمد خاتم الرسل، وتآمروا على قتله، وأظهروا غير ما يبطنون رياء ونفاقا وزلفى، والمعنى ببساطة، أن الأديان ليست أعراقا، هذا إذا سلمنا جدلا بكفاية الروايات المروجة عن تناسل وأصول الأعراق، فالإسلام دين سماوي موجه للعالمين كافة، وليس دينا عربيا محصورا في عرق أو قومية بذاتها، والأغلب الأعم من المسلمين اليوم، ليسوا من نسل إبراهيم ولا إسماعيل، تماما كما أن أغلب اليهود اليوم، وهم أقل من خمسة عشر مليونا في أعلى التقديرات، وغالبهم بغير صلة نسب أكيد مع يهود «التوراة» القدامى، بل من نسل يهود مملكة «الخزر» جنوب روسيا الحالية، وهي المملكة التي خاضت مع المسلمين حروبا طويلة ممتدة، ودعا حاكمها شيخا وقسا وحاخاما، وسألهم في العصور الوسطى عن أديانهم، واختار لنفسه ولأهله ولرعيته التدين باليهودية، ومنهم جاء يهود شرق أوروبا، الذين ذهب كثير منهم ضحايا جرائم النازية الهتلرية، وهاجر بعضهم هربا إلى أمريكا، وكانوا في جملتهم وقودا للحركة الصهيونية، التي قدمت خلطة سامة كاذبة، زعمت اتصال النقاء العرقي لليهود عبر آلاف السنين، وحوّلت الدين اليهودي إلى قومية عرقية، كانت أساسا لدعوى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما جاء في وعد «بلفور» الذى كان معاديا للسامية كارها لليهود، لكن الصهيونية كانت مفيدة عنده، من وجهة نظر استعمارية غربية، رأت جعل «إسرائيل» خنجرا، يمزق أوصال أمة العرب، ويحجز عنها فرص النهوض والوحدة، بينما الدعوة «الإبراهيمية» المستجدة اليوم، تريد أن تصور الخنجر «الإسرائيلي» وكأنه الشعار الأوسط في راية دينية مموهة، على الطريقة المنسوبة زورا للنبي إبراهيم، وهو لم يكن إلا عبدا بشرا يوحى إليه.
والمعنى مجددا بوضوح، أن القصة «الإبراهيمية» سياسية وليست دينية، واستعمارية وليست سلامية ولا إنسانية، وتلويث لاسم النبي إبراهيم بوضعه عنوانا على اتفاقات استسلام وتطبيع، تكاثرت من الإمارات إلى البحرين والسودان والمغرب ولآخرين في الطريق، ودونما سابقة حرب مباشرة، بين أي من هذه الدول وكيان الاحتلال الإسرائيلي، فليست لاتفاقات «إبراهام» أو «إبراهيم» من وظيفة، سوى افتعال مسوغ ديني مزور لجرائم إرهاب كيان الاحتلال، التي لم تفلت «الحرم الإبراهيمي» بمدينة الخليل من عدوانها الهمجي، وأحرقته أواسط تسعينيات القرن العشرين، وقتلت المصلين القانتين فيه، وصادرت جواره بقوة سلاح الاحتلال، ولا تزال تمنع حركة الفلسطينيين فيه أو حوله حتى اليوم، ناهيك من طرد شعب بكامله، واغتصاب أرضه، ومحو المدن والقرى، وتزوير الجغرافيا والتاريخ، وقتل وجرح مئات الآلاف، وتدنيس الاحتلال يوميا للمقدسات الإسلامية والمسيحية كافة، وصولا لإقامة ما يسمونه «متحف تسامح» على أنقاض ورفات شهداء المسلمين الأوائل في مقبرة «مأمن الله» بالقدس، تماما كما يرفع «الإبراهيميون» العرب المدعون شعار التسامح المزور ذاته، وكأنه قناع يتخفون خلفه بخزيهم وعارهم، وبدعمهم المباشر متنوع الوجوه لكيان الإرهاب الإسرائيلي، وبترويجهم لضلال يريد اقتلاع الثوابت الحضارية والقومية والوطنية والدينية، فقضيتهم إلى بوار في الحال والاستقبال، حتى لو بنوا في خيالاتهم المريضة أحلاما وثوابت، من نوع الدعوة إلى ما يسمى «الولايات المتحدة الإبراهيمية» التي يتصورون أن تديرها إسرائيل بتفوق السلاح والتكنولوجيا، وعبر إذابة حصانة ومناعة الإسلام في حمض كبريتيك «الإبراهيمية» المدعاة زورا، فالإسلام هو الدين السماوي الخاتم، الذي يؤمن أتباعه بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا، ومن دون أن نفرق بين أحد منهم، ولا أن نفرق في الصلاة والسلام بين النبي محمد وآله، والنبي إبراهيم وآله في التشهد الأخير من كل صلاة، وهو ما يعرف في السنة النبوية المشرفة باسم «الصلاة الإبراهيمية» تعبيرا عن دعوة التوحيد التي جمعت الرسل، فقد كان إبراهيم حنيفا مسلما في مطلع سيرة الأنبياء، تماما كما كان النبي محمد في آخر الرحلة، وقضيتنا بالبداهة ليست ضد اليهودية كدين ولا ضد اليهود، بل ضد الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية، وأغلب زعماء ومؤسسي الصهيونية الكبار، لم يكونوا يؤمنون باليهودية أصلا، ولا بأنبياء الله، وإن رأوا في المرويات التوراتية بأساطيرها، ما قد يفيد في جلب اليهود العاديين لاستيطان فلسطين، وخلفاؤهم يواجهون اليوم مأزق تآكل المادة البشرية اليهودية المستعدة للذهاب إلى فلسطين، ويرفعون شعار «الإبراهيمية» لتجنيد غير اليهود في خدمة المشروع الصهيوني، ومن وراء لباس ديني زائف، تذوب أقنعته الشمعية في وهج الحقائق الساطعة.
كاتب مصري
تحية طيبة من الجزائر أيها المناضل بالقلم
براك الله فيك.
وجزاك الله خيرا.
الف شكر للكاتب وليد قنديل ، العربي الاصيل ، كتاباته دائما تعطينا الامل بتحرير فلسطين من كيان صهيوني مجرم لا اصل ولا فصل له عبارة عن مجموعة عصابات تم تجميعهم من دول مجرمة ملطخة يديهم بدماء الفلسطينيين