كيف ألمّ «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة»، وإبراهيم الجرادي مات؟
ثمة من يقول: «دع المـــــوتى يدفـــنون موتاهم»، «فالدم ليس أحمر»، وإبراهيم الجرادي مات. مات و»موكب من رذاذ المـــودة والشــبهات» يتبعه، كـ»الذئاب في بادية النعاس»، أو كـ»المسامير في خشب التوابيت».
فالرقة لم تستطع أن تدجن ذلك (الشاوي) القادم من بندرخان، وكذلك دمشق؛ وموسكو؛ وصنعاء! ففي الرقة تلك المدينة التي ما زال الغرباء يستبيحونها، شكّل مع ثلة من الأصدقاء خليّة ثقافية قامت بثورة الحرف عام 1968، وفي دمشق أعاد ترتيب أجزائه المبعثرة، وغادرها إلى بيروت؛ ليلتحق بمنظمة «الأنصار» للعمل الفدائي.انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري، وغادر في بعثة لدراسة السينما في موسكو، وهناك كتب قصيدة يهجو بها الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش، وعلى إثرها تم فصله من المعهد، فالتحق بمعهد «كراسنودار» لدراسة الأدب المقارن. يقول عن تلك الفترة: «في موسكو اكتشفت الظلم وهو يتستر بالنظرية». أدرك الجرادي أن الشعر ليس مهنة، إنه التجوال في عمق الحياة، وأنه ما من قوة نقدية تستطيع أن تفرض اتجاهاً شعريّاً، ففتح لنفسه باباً خاصاً في جدار الحداثة، وكتب مجموعتيه «رجل يستحم بامرأة» و»شهوة الضد» ليؤسس من خلالهما بيت القصيد القائم على «الريبورتاجات الشعرية».
بعد ذلك الجموح غادر إلى صنعاء، وأصبح أستاذاً للأدب الحديث في جامعتها. يقول عن تلك الفترة: «إنها فسحة حرية في بلد خارج الضوابط المتعارف عليها، ومحطة أبعدتني عن إطار التناسخ الذي عاشته سوريا في حقبة الثمانينيات». هذا الكلام يعرف السوريون معناه تماماً.
مات إبراهيم الجرادي حين لم يعد يريد من الحياة شيئاً، لقد قتلته الذكريات والأخبار بدم بارد، وحمّلت السرطان وزره!!
كتب الشاعر العراقي علي جعفر العلاق عن مؤلف «الذئاب في بادية النعاس»: كان طوال حياته وعمله وكتاباته، النقيّ، والمجدد، والمجرّب، والمرح، والمتألم. كان جريئاً دون غلظة، وتلقائيّاً دون ابتذال. زاملته في جامعة صنعاء لسنواتّ ست. صديق الوجع العراقيّ والثقافة العراقية بامتياز. الشجاع في حضرة السكوت المريب والصداقات المغشوشة. توحّد فيه المبدع والمثقف والإنسان، والأستاذ الجامعيّ والمسؤول الثقافيّ في خليطٍ نادر ٍتماماً..وظل محتفظاً بصلابة روحه، وتفاؤلها، وشغفها بالكتابة، حتى آخرلحظة من صراعه البطوليّ مع المرض . عزائي لأهله، ولكل من أحبه، وسعد بصحبته أوفجع بموته.. أيها الراحل الجميل وداعاً ..
كذلك تساءل الكاتب السوري خليل الصويلح: «هل رمّم صاحب «عويل الحواس» سنوات غيابه عن دمشق؟ فيجيب الجرادي: «لم أرضَ يوماً عمّا أنا عليه. ربما بسبب اليأس واللايقين، واستشراء اللغو الوطني المتستّر على غايات طارئة ورخاوة أخلاقية». ويستدرك: «أنا كائن مضطرب. ظننت أنني سأحقق ذاتي بمجيئي إلى المكتب التنفيذي في «اتحاد الكتاب العرب» ككاتب مستقل وخارج الشبهات الحزبيّة، وحين اكتشفت نتائج الخطأ، انسحبت وأعلنت استقالتي، فالخروج من هذا المكان القائم على الاستحواذ والنفعيّة والسكونيّة، هو موقف وطني بامتياز».
لم يستطع الجرادي أن يتحزب في السياسة والشعر على حد سواء، فعاش في عزلة الكتب، وكتب: «أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة» شعر – دمشق 1981- «رجل يستحم بامرأة» شعر – دمشق 1983- «الدم ليس أحمر» قصص من الرقة – دمشق 1985 «شهوة الضد» قصائد – اتحاد الكتاب العرب 1985- «موكب من رذاذ المودة والشبهات» ريبورتاجات شعرية – «مع إبراهيم الخليل» 1986- «شعراء وقصائد» مختارت من الشعر السوفييتي المعاصر – قبرص 1986- «أوجاع رسول حمزاتوف» ترجمة وتقديم ـ وزارة الثقافة – دمشق 1988- «دراسات في أدب عبد السلام العجيلي» تحرير وتقديم وإشراف- دمشق 1988- «الأشكال في الشعرين الروسي والعربي» (1960- 1980) بالروسية – رسالة دكتوراه- «عويل الحواس» – ريبورتاجات سمعية بصرية- دمشق 1995- «الحداثة المتوازنة» دراسات في أدب عبد العـــــزيز المقالح- تحرير وتقديم وإشراف – دمشق 1995- «مسامير في خشب التوابيت» – «دراسات في إبداع تامر» – تحرير وإشراف – بيروت ـ 1995- «الذئاب في بادية النعاس» 2000- «دع الموتى يدفنون موتاهم» ـ وكتابه «محمود درويش ينهض»).في حوار أجراه معه عمار أبو عابد يقول الجرادي: للشاعر الحرية في أن يختار طريقة حياته، وموته أيضاً. إلا أنه لم يستطع أن يختار أياً منهما! لقد كانت حياته في العيش والكتابة كما قال عنها في مكان آخر «إنها تمارين على معايشة الألم». إلا أن هذا الألم لم يستطع أن يكسره، لقد قدّ من جفاف البادية، ورقة الرقة، فكان صلباً وليناً في آن.
ذات سهرة على هامش مهرجان الشعر في الرقة، طلبت منه القصيدة التي ألقاها، واستعرت منه نظارته لأقرأها، فلم أستطع أن أبصر بها، فقلت له على ما يبدو لديك نقص قوي في عينيك، فقال: طبعا، القراءة العادية لا تتعب البصر، القراءة المتبصرة هي التي تتعبه، وقد أمضيت عمري أقرأ في كتابين، كتاب الشعر، وكتاب المرأة، وكلاهما يحتاج إلى تبصر. وضحك تلك الضحكة التي يعرف إيقاعها كل أصدقائه. هذا الاستحضار للمرأة لم يكن عرضياً في كلام الجرادي، بل في بنيته، ويمكنه أن يجد لها مكاناً في أي حديث يتحدث به ، كقوله وهو يتحدث عن الحرية: الحرية أهم من الكتابة عنها، مثلما المرأة أهم من الكتابة عنها. وها هو يتحدث عن تذوق الشعر «لا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يفرض ذائقته الخاصة على من لا يحتملها، فالجميل جميل، بغض النظر عن الشكل، والنساء الجميلات شقراوات وسمراوات». وهكذا كانت المرأة تأخذ مكانها في أحاديثه.
في عودته من اليمن أهداني خنجراً يمنياً، و» قطرميز» عسل يمني، فسألته عن العلاقة بينهما، فضحك مليّاً، وقال: عليك أن تكتشفها بنفسك. حين تتناول العسل، سيدلك على فعل الخنجر. رغم هشاشته بقي إبراهيم الجرادي على قيد الأمل حتى آخر لحظة من حياته، فهو يعرف أن الأوطان لا تموت بالتقادم، لأنها ليست قضية جغرافية، وإن كانت الجغرافية مراحها. الوطن قضية عاطفية أولاً، وفي العواطف، البقاء للأصدق، وليس للأقوى.
لقد مات صديقي إبراهيم الجرادي اليوم، مات بعيداً عن كلماتي هذه.. مات وهو ينظر من ثقب القلب إلى سوريا، ويلعن تلك البطن التي حملت الحرب. مات إبراهيم الجرادي حين لم يعد يريد من الحياة شيئاً، لقد قتلته الذكريات والأخبار بدم بارد، وحمّلت السرطان وزره!!
٭ شاعر سوري