اختلاط السياسة بالرياضة ليس أمرا جديدا، بل كان أمرا مألوفا منذ بداية الألعاب الأولمبية ومباريات كأس العالم لكرة القدم، على وجه الخصوص أيام الحرب الباردة. لقد وصل النزاع في الماضي حدا أعلنت فيه الحرب بين السلفادور وهندوراس عام 1969 بسبب مباراة كرة قدم في تصفيات كأس العالم لدورة 1970، التي عقدت في البرازيل واستمرت الاصطدامات المسلحة عدة أيام، حتى تدخلت منظمة الدول الأمريكية لترتيب وقف لإطلاق النار.
كما أن العالم تراضى وبتأييد من الأمم المتحدة على أن يعاقب حكومة جنوب إفريقيا أيام الأبرثايد رياضيا ويحرمها من المشاركة، بسبب سياساتها العنصرية، فطردت من دورة الألعاب الأولمبية علم 1964 وتوالت بعدها سلسلة من العقوبات لعزل نظام الفصل العنصري. وقد أنشات الأمم المتحدة عالم 1980 سجلا بكل الدول التي تنتهك مقاطعة جنوب إفريقيا رياضيا، ما ساهم في هزيمة ذلك النظام ودفنه في مزبلة التاريخ.
وقد قادت الكويت عددا من الدول العربية عام 1974 لمقاطعة إسرائيل في مباريات كأس آسيا في طهران، ثم تطورت المقاطعة إلى طرد إسرائيل من الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، وبالفعل تم طردها من الاتحاد، وانضمت بعد الألفين لمجموعة الدول الأوروبية، ولكن ظلت الغالبية الساحقة من دول العالم النامي تتجنب اللعب مع الإسرائيليين أو استقبالهم. بعد نهاية نظام الأبرثايد في جنوب إفريقيا رسميا عام 1994، عادت إلى الواجهة الدعوة لفصل السياسة عن الرياضة، وكان الهدف منها التطبيع مع إسرائيل وإدخالها في منظومة الألعاب العالمية، وكأنها ليست دولة فصل عنصري أبشع من ذلك الذي كان في جنوب إفريقيا. وحتى نعرف مدى عنصرية إسرائيل، لنتفحص تركيبة لاعبي الفرق الرياضية، نجدها خالية من أي لاعب عربي. كان اللاعبون العرب داخل إسرائيل يلعبون مع بعضهم بعضا. فظهر إلى السطح فريق أبناء سخنين العرب، الذي ارتقى إلى فرق الدرجة الأولى. صدمت تلك الدولة العنصرية عندما حصل الفريق هذا على بطولة إسرائيل في 18 مايو/ أيار 2004 بسحقه فريقا صهيونيا من حيفا بأربعة أهداف مقابل هدف واحد، ما أثار نشوة الجماهير الفلسطينية، التي ظلت تحتفل بالفوز حتى الفجر. لقد كسر أبناء سخنين حاجز المقاطعة والتمييز والعنصرية، وفرضوا نفسهم على المشهد القبيح لتلك الدولة المارقة.
كأس آسيا 2019 في أبو ظبي
الذي أثار هذه المسألة الطريقة التي تتصرف بها حكومة الإمارات العربية المتحدة، التي تبعد السياسة عن الرياضة، إذا تعلق الأمر بإسرائيل وتغرق في خلط السياسة بالرياضة إذا تعلق الأمر بالدولة الجارة والشقيقة قطر. يوم الجمعة الرابع من الشهر الحالي أعادت سلطات مطار دبي فريق الإعلام القطري المكون من خمسة أشخاص يمثلون وسائل الإعلام المحلية، وكانوا قادمين من الكويت يحملون تأشيرات مسبقة وبطاقات اعتماد إعلامية صادرة عن الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، الذي يقيم تصفيات هذا العام في العاصمة الإماراتية أبو ظبي. كان الوفد الإعلامي معنيا بتغطية مباراة فريق بلدهم في تصفيات كأس آسيا، لكن سلطات المطار حجزت جوازات سفر الفريق الإعلامي لمدة 12 ساعة ثم أمرت بترحيلهم على أول طائرة متجهة إلى مسقط. وقد أثار هذا الموقف استغراب العديد من الجهات الدولية، خاصة أن سياسة الإمارات المعلنة والمطبقة منذ زمن بفصل السياسة عن الرياضة.
الشرعية الحقيقية تنبع من إرادة شعب حر يعرف مصالحه جيدا وينتخب من يمثل تلك المصالح ويدافع عنها
وكما أعيد الوفد الإعلامي من المطار، لم يسمح لأي أحد من مشجعي الفريق القطري بحضور المباراة لتشجيع فريقهم الوطني. وعندما التقى الفريق القطري بنظيره السعودي يوم الخميس 17 يناير/كانون الثاني، حيث كان مشجعو الفريق الخضر يملأون الملعب، بينما غابت الجماهير القطرية للاحتفال بفوز فريقهم على الفريق السعودي بهدفين نظيفين بدون رد. لقد تم توزيع بطاقات الدخول مجانا للعمانيين لتشجيعهم على الحضور، وفعلا حضر جزء منهم وانقلبوا على مضيفهم وشجعوا الفريق القطري. وللعلم فقد سمح للمشجعين الإيرانيين دخول البلاد لتشجيع فريقهم الوطني تحت بند احترام قوانين الرياضة، التي تعمل على فصل الرياضة عن السياسة.
هذا التصرف من قبل السلطات الإماراتية يثير لدينا ولدى العديد من الكتاب والمعلقين الكثير من الأسئلة، ويستحضر في أذهاننا مسألتين: كيف تصرفت دولة الإمارات عندما استقبلت وفدا إسرائيليا للمشاركة في مباريات الجودو التي عقدت بين 27 و29 أكتوبر /تشرين الأول 2018 الذي وصل البلاد مصحوبا بوزيرة الثقافة ميري ريغيف، الصهيونية المتطرفة، التي تحمل رتبة عميد في الجيش الإسرائيلي، حيث استقبلت استقبالا حميميا وقامت بجولة سياحية في مسجد الشيخ زايد الكبير، كما عزف النشيد الوطني الإسرائيلي عندما فاز أحد اللاعبين الإسرائيليين بميدالية ذهبية. مقارنة بما جرى للفريق القطري والوفد الإعلامي، لا يمكن إلا أن نأخذ موقفا من هذه الازدواجية الفجة التي تعامل دولة الاحتلال المنتهكة لكل القوانين الدولية، بكل المودة والحب والترحاب، بينما تغلق الباب أمام دولة شقيقة، صدف أن العلاقات بينهما تمر حاليا بأزمة عميقة، لكن بالتأكيد ستزول مع الأيام.
إن لدينا شكا كبيرا في أن الهدف من استقبال الفرق الرياضية الإسرائيلية في دول الخليج للرياضة فحسب، بل هي مدخل للتطبيع وإلا كيف نفسر هذه الحميمية في استقبال الوفود الإسرائيلية؟ ثم لماذا تصاحب الفريق وزيرة معروفة بعنصريتها وتطرفها؟ إنها الحقيقة. لقد تخلى بعض العرب عن التزاماتهم القومية والخلقية والقانونية تجاه القضية الفلسطينية وبدأوا يستقبلون الوفود الإسرائيلية وزيارات المسؤولين الإسرائيليين بشكل طبيعي، ولا يمر يوم إلا ونقرأ عن لقاءات سرية بين المسؤولين الخليجيين ونظرائهم الإسرائيليين. ونتوقع المزيد خلال عام 2019، خاصة بعد مؤتمر وارسو المقبل الذي ربما سيكون البداية لإنشاء ناتو عربي إسرائيلي.
ولنا في ماليزيا قدوة
التطبيع من مدخل الرياضة خطير، إذ إنه يقدم الغاصب المحتل العنصري بمظهر حضاري قد يثير التعاطف والمحبة معه، خاصة إذا نظر للاعب أو اللاعبة بعيدا عن السياسة، وتم تقييمه بناء على مهاراته الفردية أو مهارة الفريق. وهذا أخطر كثيرا من زيارات المسؤولين، فالمعروف أن الدول التي أقامت علاقات رسمية مع إسرائيل وهي مصر والأردن، ظلت محصورة في المستويات الرسمية العليا، إلا أن الشعبين العربيين في البلدين يرفضان التطبيع. فمصر رغم أنها أول من كسر حاجز العزلة عن إسرائيل، وأقامت علاقات معها منذ 40 عاما، إلا أننا لم نر فريقا رياضيا يلعب في ملاعب القاهرة، ولا وزيرا صهيونيا يدخل الأزهر الشريف ويلتقط الصور، ولم نر كذلك في الأردن فريقا رياضيا يلعب علنا في ملاعب البلاد، أو فرقة موسيقية تعزف في مدرج جامعة أو عارضة أزياء إسرائيلية تعرض في أحد فنادق العاصمة. فما الذي يدعو دول الخليج إلى التطبيع الرخيص هذا؟
لقد ضرب لنا جميعا الرئيس الماليزي مهاتير محمد، (أصل الأسم العربي محاضر) مثلا ساميا في الموقف المبدئي والشجاع، وصفع كافة المطبعين العرب المكشوف منهم والمخفي، عندما رفض استقبال السباحين الإسرائيليين للمشاركة في دورة ألعاب ستجري لاحقا في ولاية ساراواك، التي ستحدد المؤهلين لبطولة طوكيو 2020 للألعاب الباراولمبية. ورغم مناشدة من اللجنة الباراولمبية العالمية قائلا:»إن ماليزيا لن تستضيف أي فعالية تكون إسرائيل مشاركة أو ممثلة فيها». يستند مهاتير محمد في موقفه القوي إلى جماهير شعبه، الذين يرفضون تسلل الإسرائيليين إلى بلدهم. فهو يمثل إرادة شعبية حقيقية عادت به عن طريق الصندوق لقيادة البلاد، بعد أن أساء حكمها من خلفوه بعد استقالته عام 2003 بعد 22 سنة في الحكم، حيث استطاع أن يضع ماليزيا في مصاف الدول المتقدمة صناعيا، وجعلها دولة من نمور آسيا الاقتصادية. ولكن جاء من بعده الفاسدون الذين أساؤوا للبلاد، فنزل تحت رغبة الجماهير رغم سنه وعاد إلى الحكم لينظف الفساد والفاسدين.
إنه الفرق بين قيادات تجلس على صدور شعوبها ولا علاقة لها بنبض الشارع وتكتم أنفاس كل من يشك في ولائه، وقائد يستند إلى شرعية الصندوق ورضى شعبه عنه ونقائه وبعده عن الفساد وإهدار المال العام. لهذا يستطيع مهاتير أن يقف شامخا في وجه التطبيع، بينما يتسابق العديد من أنظمة العرب للتطبيع مع كيان ما زال يحتل أرض فلسطين بما فيها القدس الشريف وثالت المساجد التي يشد إليها الرحال. فهل من يرعوي ويتعلم من التاريخ أن الشرعية الحقيقية هي تلك التي تنبع من إرادة شعب حر يعرف مصالحه جيدا وينتخب من يمثل تلك المصالح ويدافع عنها.
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي