إبنتي… النّكبة… وأنا

حجم الخط
1

توجهت إبنتي الصّغرى اليوم أيضاً لعملها كالعادة، في هذا اليوم غير العادي ـ الخامس عشر من أيّار فإنها ذكرى النّكبة من جهة، ذكرى ميلاد أمها من جهة، وعيد العنصرة اليهودي من جهة ثالثة.
كانت صاحبة ومديرة العمل اليهودية قد طلبت من كل العاملين إستبدال بلوزة العمل الرسمية وارتداء قميص أو بلوزة بيضاء احتفالاً بعيد العنصرة.
امسكت رجاء بلوزة بيضاء من خزانتها وأوشكت أن ترتديها، نادتني فجأة وقالت لن ألبس الأبيض ولن أساهم بالإحتفالات معهم اليوم، فإنها ذكرى النكبة… سأرتدي بلوزة سوداء!ا
رأيتها بعد ذلك تبحث بين أغراضها عن شيء ما، إكتشفت فيما بعد أنه إسوارتها المفضّلة والتي رسم عليها العلم الفلسطيني وكتب إسم فلسطين بالعربية والإنجليزية…
سألتها : هل أنت واثقة من خطوتك هذه؟! هل تتوقعين رد الفعل هناك؟! أمستعدة أنت لتحمل النتيجة؟!
نعم يا أمي، أجابت صغيرتي الكبيرة راجحة العقل.
هذا أبسط حق من حقوقي… يكفي أنني ذاهبة للعمل في هذا اليوم.
أحكمت ربط الإسوارة وإنطلقت مزهوة… أما أنا فشعرت بالفخر… فها أنا أحصد ما زرعت.
*
عادت مساء من عملها تحمل لي هدية مميزة مثلها، تحفة فنية يدويّة الصّنع تجسّد وجه إمرأة عجوز حفرت على غصن شجرة زيتون.
قبلّتني وقالت: اسمعي ما جرى.
حين دخلت سألتني الصبايا اليهوديات: لماذا ترتدين بلوزة سوداء؟ لماذا ليست بيضاء مثلنا جميعاً؟
قلت: إنه يوم مصيبتنا الكبير… إنه يوم النكبة الفلسطينية!
بدا الاستغراب واضحاً على وجوه الفتيات وأدركت أنّ هذه الكلمة لا تعني لهنّ شيئاً، فأضفت: إنّ ذكرى استقلالكم هي ذكرى نكبتنا.
قالت مديرة العمل متجهّمة مستغربة: وما علاقة ذلك بالعمل؟
أجبت: أنا لا أحتفل بشيء اليوم، أنا في حداد! ويكفي أنّني مضطرة للعمل اليوم.
استدارت المديرة دون أن تنبت ببنت شفة وقد زمّت شفتيها غير راضية عمّا سمعت ورأت.
لم أتوقع منها أن تواسيني ولا أن تتفهم ما يدور بخاطري أو بنفسي.. رغم أنني تمنيت ذلك خاصة أنها تحبّني وتقدري مجهودي جداً على الصّعيد الشّخصي، وها هي تثبت كغيرها من اليهود أنّ مجرد إحترامنا لتاريخ وجعنا ولوجع تاريخنا وحضارنا غير مقبول بالنسبة لهم.
نظرت الى معصمي شزراً واستدارت، واستدرت أنا أيضاً في محاولة لأفهمها أنّ مشاعري ملكي وحدي وأنها غير مخوّلة بالمرة لتديرها.
تعمدتُ وضع الإسوارة في يدي اليمنى كي يراها الجميع وكنت أنتظر من يسألني لأجيب، كانت نظرات رواد المكان اليهود تنصب على معصمي الذي تزيّن بعلم واسم فلسطين، ينظرون إلى وجهي بكثير من الاستغراب ويصمتون، أما أنا فكنت أتعمّد تحريك يدي بسبب وبدون لأكشف عن فخر حبٍ لعلم ٍواسم وتاريخ صقلني حرة، واعية وواثقة.
طوال ساعات العمل أمس شعرت بنفسي كبيرة وشامخة تماماً كما علمتني يا أمي الغالية، قالت إبنتي مخاطبة إيّاي… طوال ساعات العمل بالأمس رأيت نظرات ضعف وخبث في اّن معاً ظاهرة بعيني العاملات اليهوديات وصاحبة العمل وزوجها.
أما العمال العرب هناك فقد غمروني بكلمات الإطراء والإعجاب لموقفي الجريء، ولأنني كما قالوا فعلت وقلت ما لم يقدروا على قوله هم، قلته أنا بكبرياء وشمم!ا
ليس هذا وحسب، فإن إبنتي رجاء قررت أن تعود للبيت مباشرة بعد إنتهاء الدوام، لم تبق هناك لتناول العشاء مع الطاقم كما هو متبع يومياً بعد كل ورديّة، طلبت وجبتها وتركتها قائلة: لا مزاج لي حتى لتناول الطعام!
وغادرت المكان
***
إستطردت في حديثها ذي الشّجون معي قائلة بإصرار شبابي محبب ورائع: لن استمر بالعمل في هذا المكان، لن أستمر بالعمل في مكان أصحابه ومدراؤه من اليهود المتعصّبين.
أجبت: فكري جيداً واتّخذي ما يناسبك من قرار، واعلمي أن مثل هذه التعاملات إنما هي نقطة ببحر العنصريّة الإسرائيلية، وغداً في الجامعة ستواجهين الكثير، فقد لا يكون الهروب هو الحل!
ليس هروباً أبداً، قالت.
إنما هو موقف، مبدأ وإحترام للماضي، الحاضر والمستقبل.
فنحن هنا!
لا بد أن نفهم ذلك جيداً كي ننجح بإيصاله لليهود في هذه الدولة.
لا بد وأن نعرف كيف نحترم تاريخنا ووجعنا وكيف نجعلهم يحترمونه ويحترموننا، أليس كذلك؟
أليس هذا ما تربينا عليه؟
أليس لأجل ذلك ضحّيت بسنوات وسنوات من الإرشاد والتدريب لشبابنا الفلسطيني؟
من أجل كلّ ذلك وأكثر.
هذا هو قراري.
من أجل جدّي الذي تيتم في الثامنة من العمر بعد أن قُتل أبيه في مجزرة عيلبون 1948.
من أجل كلّ الشهداء.
ومن أجل معاناة أولادهم وأحفادهم.
***
قبّلتها، حضنتها وقبلتني.
ليس لقرارها، بل لموقفها، لأجل الدم الفلسطيني الطاهرة والنقيّة الذي يجري في عروقها.
لوعيها، لفهمها الواقع رغم سنّها الصّغيرة.
قبّلتها بقوة لأنها روت روحي المتخبّطة كوني جئت للحياة في ذكرى النّكبة، ولأنها أعطتني مادة مقالة الأسبوع التي لم أنجح بكتابتها رغم محاولاتي التي باءت بالفشل لكثرة الأفكار المتزاحمة في رأسي، ورغم اجتيار عنوانها الذي كان (أبي، النّكبة وأنا)، والذي تحوّل بفضلها ولأجلها ليصبح (إبنتي، النّكبة وأنا).
وإن دلّ ذلك على شيء إنّما يدلّ على إستمرار أصيل لرفع الرّاية بالفعل لا بالقول
وعلى أنّ الأمل باقٍ في شباب هذا الشعب الصامد في أرضه ووطنه، فلا مكان للخوف إذن.
***
دمت أيتها الرجاء كما أنت.
لأنك فعلاً اسم على مسمىً.
ولأنّك ترفعين الرأس وتملأين القلب فخراً والروح زهوّاً.
كانت هذه فعلاً هديّة عيد ميلادي الخامس والأربعون، الذي لن يكون بعد اليوم سبباً أو مسبباً لحزن أو أسىً، بل على العكس إنه دليل على تعويض بمفهوم معيّن.
هدية نجحت صاحبتُها بإعطاء هذا التاريخ الرّقمي وهذا الرّقم التّاريخي توازناً ومعنىً يستحق التّضحية، العطاء والاستمرار!
كانت تسمّى فلسطين
صارت تسمّى فلسطين

كاتبة من فلسطين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول مسلم مقهور:

    مقالة رائعة عن موقف أروع ولكن ـ والكمال لله وحده ـ أزعجتني بعض الكلمات التي فيها لحن نحوي وخطأ لغوي..
    وكاتبة محترمة مثلك ينبغي عليها أن تحترم قراءها بقدر احترام لغتها..
    ومع هذا فأشد على أيديكم، وادع الله أن يعينكم ويثبتكم
    ولقد زادت (رجاء) عندي الرجاء بعودة قريبة مظفرة إن شاء الله

إشترك في قائمتنا البريدية