تعيد الفلسفة العالم إلى أسئلته العميقة حول الذّات وعلاقاتها بذاتها وبالآخر، تنسج في وعي المتسائل شبكة فهوم متداخلة تصل مستوى الغموض، أو الأحجية التي يبحث داخلها العقل عن وعي بالمتداخل القابل للتفكيك، وضمن هذه المسافات تتشكل العلاقات «البين ـ ذاتية» كي يجد الأنا معناه في النقاش الذي يفرضه الفضاء الوجودي، كبيئة أصيلة للتواصل، أو ما نطلق عليه «الفضاء العمومي»، وهنا تظهر أهمية كتاب يورغن هابرماس «إيتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة»، ترجمة عمر مهيبل.
في فضاء الكتاب
ينقسم الكتاب إلى مقدمة للمترجم عمر مهيبل، حيث يفتتحها بما يمكن أن نعتبره مفتاحا للإشكالية التي يقوم عليها الكتاب. يشير إلى ترجمته السابقة لكتاب كارل أوتو آبل «التفكير مع هابرماس ضد هابرماس»، وفيه يظهر عمق المناقشات بينهما، وصعوبة فهم أحدهما دون معرفة الآخر، على الرغم من طبيعتي مشروعيهما المختلفتين، «التداولية الترنسندنتالية» بالنسبة لآبل و»التداولية الشاملة» (الشكلية) بالنسبة لهابرماس.
بعد المقدمة يأتي فصل «إيتيقا المناقشة» أسئلة وأجوبة، يطرح فيها فلاسفة أسئلة على يورغن هابرماس ويتصدون للإجابة عنها، ومنهم: آلان رينو، آلان بوير، آرنو ديجاردان، ألبان بوفييه، باتريك سافيدان، بيير دومولونير وباسكال أنجل. وخلال هذه الكوكبة من العقول يتجلى السؤال الفلسفي باعتباره مناقشة، قبول لخوض مغامرة الانوجاد في الآخَر لإبراز الاختلاف، ولكن الأهمية في كل هذا – حسبما بدا لي – هو تشكيل مفاهيمية واقعية حول طبيعة «الفضاء العمومي» وضرورة اتخاذه كمبادرة لفتح النّقاش والحجاج، حول مسائل السلطة والمعارضة والشأن العام، ففي آخر نقاش مع باسكال أنجل الذي يتساءل حول تداولية هابرماس، ألا تستدعيه بأن يكون واقعيا؟ يجيب معترفا بواقعيته إلى حد كبير في المسائل ذات الطبيعة الإبستيمية، لكنه يضيف، واقعي من طبيعة خاصة، يصنّف خارج المنعرج التداولي، والفكرة التي تكشف مغزى فلسفة هابرماس التواصلية تأكيده على «إنّنا لن نستطيع معارضة عالم موضوعي مشكّل من كيانات مستقلة عن التصوّرات التي يمكن أن نكوّنها عنها، عالم ميزته هو أنّه واحد بالنسبة للجميع»، العجز عن معارضة العالم الموضوعي تحيل إلى عدم إمكانية الانفصال عنه، وهي أولى الإشارات لقبول مبدأ واقعية فضاء «العالم الموضوعي» بكياناته المستقلة عن التصورات التي نشكلها حولها، أي إنّها تمتلك خصائصها الذاتية باعتبارها منفصلة عن وعينا، الوعي المتعدد بها هو مفصل القبول بالمناقشة حول اختلافنا داخل «العالم الموضوعي»، الذي هو واحد بالنسبة للجميع، وهي طبيعة «الفضاء العمومي»، فباعتبار واحديته يتشكل مبدأ «المناقشة» أو «التواصل» الذي يؤدي إلى تعدد العالم الموضوعي رمزيا.
ثم يأتي الفصل الثالث حول «الواقعية، الحقيقة الإبستيمية الحقيقة الأخلاقية»، وفيه يحاول هابرماس تفكيك بعض المعطيات المفهومية كمحاولة لإبراز «الموقع الذي تحتله الحقيقة في إيتيقا المناقشة».
المناقشة ضرورة العالم الموضوعي
تمثل النزعة الذاتية والعلاقة «الإبستيمية» و»العملية» حجر الزاوية في فلسفة هابرماس لاعتبارات المسؤولية الشخصية، لأنّ فكرة الواقعية في «المناقشة»، التي تقوم على الحوار ومن ثمة تحقيق شكل من أشكال التواصل، متأصّلة في وعي هابرماس بالتاريخ والثقافة. يرى بأنّه «منذ أن تملّكنا الوعي بأنّ التاريخ والثقافة بعامة يشكلان مصادر وفرة للأشكال الرمزية وكذا مصادر خصوصية للهويات الفردية والجماعية فقد تنامى الوعي بالتحدي الذي تمثله التعددية الإبستيمية»، فالعلاقة العلومية باعتبارها ركيزة النظرة العقلية متعدّدة لتعدد الفضاء الوجودي بخصوصيات التاريخ والثقافة، ولهذا فـ «إيتيقا المناقشة» تنطلق من هذه الخصوصيات، تشتبك داخل «التعددية الثقافية» التي تعني «أنّ العالم منظورا إليه في كليته، هو عالم منفتح ومؤوّل تأويلات متعددة». يمكن أن نحايث تفكير هابرماس ونحدّد ركائز المناقشة، باعتبارها فعل الذات متّجهة نحو الآخر، مسافة التواصل تتحدد بما يسمّيه هابرماس انطلاقا: «النزعة الذاتية» و»العلاقة الإبستيمية» و»التعددية الثقافية» و»الخصوصية الفردية والجماعية» و»العالم المنفتح المؤوّل بتعدد».
ضمن هذه الشبكة تتأطر المناقشة التي لا محيد للذات عنها، لأنّها السبيل إلى الآخر المشمول في «العالم الموضوعي»، الذي هو واحد بالنسبة للجميع، وعليه فإنّ النّقاش يدرك ما يسمّيه هابرماس «القاسم المشترك المتساوي» إذا حقق كل متناقش «الخضوع ذاتيا إلى ذلك التمرين، الذي يمكننا من خلاله تبني وجهة نظر الآخر بغية ما يسمّيه بياجيه «زحزحة تدريجية للأنا عن المركز Décentrement وبالمرّة إزاحة الذات المتمركزة حول ذاتها». فالمناقشة التي يتغياها هابرماس هي التي تتنازل فيها الذوات عن مركزياتها، بغية الوصول إلى تفاهم ما، رأي يفيد في دفع المناقشة نحو هدف منشود، لكن بالمقابل يضعنا هابرماس أمام سؤال لا مفر منه، وهو: هل كل مناقشة تستوجب ضرورة التوصل إلى «القاسم المشترك المتساوي»؟ ولكن أيضا يمكن أن نفكر مع هابرماس في حالة غيابه (القاسم المشترك المتساوي)، ألا يؤدي ذلك إلى التشتت وعدم إدراك الهدف من المناقشة؟ الهدف محوري في أي مناقشة، لأنّه يضع الأرضية الحوارية أو الحد الأدنى المتفق عليه.
المجال الجامع للذّوات والضرورة التواصلية
يتأسس فكر هابرماس الذي يبدو جليا في تفكيره مع ذاته حول التموضعات الواقعية ضمن مجال الآخر، المفترض فيه (الآخر) أن يكون ضمن مجال الذّات أيضا، ما يعني انبثاق «الفعل التواصلي» الذي تبرّره «المعقولية السلوكية»، أي عند وجود الذات في فضاء متعدد الذوات، فإنّه يتوجّب عليها أن تنخرط في «المناقشة» كتأكيد للذات الجمعية المتحاورة، إذ «أنّ شخصا معيّنا ومهما يكن محيطه الاجتماعي ولغته وشكل حياته الثقافية، فإنّه ليس بمقدوره عدم الانخراط داخل الممارسات التواصلية»، وهو المنحى الخلدوني ذاته الذي يعتبر «الاجتماع الإنساني ضروري» في معرض حديثه عن العمران البشري، فمجرّد وجود الشخص في المجال الجامع للذوات يجعله بالضرورة تواصليا ضمن الوضع النقاشي.
وجود الشخص ضمن الفضاء الجامع للذّوات، حينها، يقول هابرماس «لن يكون في مقدوره كمحصلة أن لا يبدي اهتماما ببعض الافتراضات التداولية نعتقد بأنّها ذات منحى عام»، فالانخراط في النقاش ضرورة تمليها الطبيعة الاجتماعية للذّوات، التي بغيرها يصبح مفهوم «التواصل» غير ذي جدوى، لأن الحضور في «الفضاء العمومي»، أو في المجال الوجودي يستفز في الذات رغبتها في التجاوز إلى الآخر، العلاقة «ذات ـ آخر» محدّد أساس في تأكيد الفعل التواصلي المتضمّن «المناقشة» كوضع أخلاقي تتبناه الذّوات لتأكيد مسعى الوجود والاختلاف ومن ثمة الاستمرار.
يؤكد هابرماس في إطار العالم الموضوعي الذي يعتبر واحدا بالنسبة للجميع، أنّه يسعى لتطوير نظريته الاجتماعية ليس لبلوغ «نظرية مجاوزة أو مفارقة للنظريات الأخرى، وإنّما المواصلة على درب النّظرية الاجتماعية الكلاسيكية»، والمفهوم الذي يعنيني هنا هو فكرة التواصل الأصيلة في فكره، والتأكيد على مفهوم «المواصلة» و»تطوير النظرية الاجتماعية» يستتبع بالضرورة مفهوم المناقشة، والفضاء الاجتماعي مجال كل حركة تواصلية، ومن ثمة تتأسّس الفكرة الثقافية كمُفعِّل للنقاش حول هموم الجماعة، ومن ذلك يكتسب الفضاء العمومي أهميته الكاشفة للخصوصيات الثقافية التي تكرّس مفهوم المواطنة باعتباره السلوك الحافظ للوجود داخل الحيز الوطني، فنقاشات الفضاء العمومي تنعكس على ما تتغياه الجماعة الوطنية من منظومة قانونية تعمل على تنظيم الوجود الاجتماعي والسياسي والقانوني داخل الفضاء العمومي.
مع غزّة ضد هابرماس
استعير عنوان كارل أوتو آبل، مع تحوير خفيف، لانتزاع غرابة ما وصدمة أمام مفكر «المناقشة»، أي فيلسوف الوضع التواصلي داخل الحيّز الوجودي، الذي يقرّر أنّ كل مشاكل الذات تمتلك القابلية للنقاش، حتى يتم وضعها في إطار الاتفاق أو مما يسميه غادامير بـ»التفاهم» الذي يتبع الفهم.
خلال حرب الإبادة الإنسانية التي تتعرّض لها غزّة، أصدر هابرماس ومعه نيكولا ديتلهوف أستاذة العلوم السياسية، ورينر فوريست الفيلسوف المعروف، وكلاوس غونتر بيانا أدانوا فيه «المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عام»، متجاهلين المعاناة الفلسطينية منذ ست وسبعين عاما، والمأساة الكبرى في تعرّض بلادهم للاحتلال، إنّهم محتلون وتضمن لهم الشرائع والأديان والقوانين المقاومة بأشكالها كافة، لاسترداد حريتهم والقضاء على الظلم الاستعماري، لماذا هابرماس وصحبه لا يعترفون باستعمار الصّهاينة لفلسطين، بل يذكّرون بـ»وحشية الهجوم غير المسبوق الذي شنّته حماس»، ولا يخجلون من اعتبار الإبادة الإنسانية التي حرّكت الضمير العالمي جميعه بمجرّد «ردّ فعل إسرائيل». يصدر هذا عن فيلسوف التواصل والمناقشة، الذي يضع كل القضايا محل نقاش، لكن عندما يتعلق الوضع بالعقدة اليهودية (الهولوكوست) المتجذّرة في الذات الألمانية يعترف هابرماس وصحبه بأنّ: «هناك بعض المبادئ التي يجب ألا تكون محل خلاف، وهي مبادئ تشكل أساسا لتضامن مُفَكَّر فيه ومُتَعَقَّل مع إسرائيل واليهود واليهوديات في ألمانيا». يقدّم لنا هابرماس العنصر الذي يبرّر لنا كمتلقين لفلسفته، مساءلة كلية الفلسفة الغربية وطريقة بناء معمارها، وطرح أسئلتها لكي تصل إلى ما تصل إليه من خلخلة للبنيات السائدة وتشكيل سلسلة من البنيات القادرة على وضع الراهن الإنساني في مواجهة ذاته كي يتجاوزها عبر رؤية الذات في مرآة الأسئلة العقلانية والوضعية والتحليلية والتأويلية التي لا تحابى؟
إنّ تجاهل حقيقة المعاناة الفلسطينية جرّاء الاستعمار الصّهيو – يهودي القائمة، كما الشمس في رابعة النهار، يحُول دون أي دعوى لهابرماس وصحبه في الأساس الإنساني لفلسفتهم، فأساس تفكيره التواصل، فكيف يحدث قطيعة مع الحق الفلسطيني في الأرض والحياة والحرية، ويعترف بها لمن لا يملك في الأرض شيئا سوى استيلائه عليها بالقوة والمجازر والإبادة الإنسانية!
كاتب جزائري