(1) كنا معشر السودانيين ولا نزال موضع تندّر من إخواننا العرب، بحجة أننا شعب كسول. وقد كان الربيع العربي مناسبة تواترت خلالها النكات ورسوم الكاريكاتير، وحتى الصور، حول كسل السودانيين الذي حرمهم اللحاق بركب ثورات الربيع العربي. ولم يشفع لنا في هذه الحال أننا سبقنا إخواننا بثورتين كانوا خلالهما هم في حالة سبات عميق (وبعضهم لا يزال). ولكن يبدو أن التطورات خلال الأيام الماضية أثبتت أن إخواننا العرب على حق في بعض ما يتندرون به علينا!
(2)
في سبتمبر الماضي تفجرت بدايات ثورة سودانية على النظام القائم، حيث سيرت مظاهرات عمت العديد من المدن، بدءاً بالعاصمة ومروراً بمناطق في غرب السودان ووسطه وشرقه وشماله. ردت الحكومة بعنف، مما أدى إلى قتل العشرات وإصابة المئات، وزاد غضب الشارع ودفع بتسيير احتجاجات أضخم. عندها بدأ الحديث عن ملامح التغيير، وطالب العقلاء من كل جانب، بما في ذلك كثير من أنصار النظام، بخطوات حاسمة للإصلاح والعودة إلى المسار الديمقراطي. ولكن فجأة توقف كل شيء وسكت المعارضون وانصرف كل إلى شأنه كأن شيئاً لم يكن. وبالتقصي في الأمور اتضح أن الجميع قرر أن يأخذ استراحة لإجازة بمناسبة عيد الأضحى المبارك أعاده الله علينا وعلى الأمة ونحن في حال خير من حالنا اليوم.
(3)
لعل السودان إذن هو البلد الوحيد في العالم الذي تأخذ فيه الثورة ‘إجازة’ للعيد. لم يحدث هذا في مصر التي اختار أهلها يوم العيد تحديداً ليكون يوم تظاهر خاص. ولم يحدث في سوريا حيث لم تصمت المدافع لحظة رغم أن هذا ليس العيد فحسب، بل أحد أهم الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال. أما في السودان، فإن الثوار يأخذون عطلة، وكذلك أجهزة القمع، بينما يسافر الرئيس لقضاء مناسك الحج!
(4)
يذكر أن كل قوى المعارضة كانت قد تداعت إلى مظاهرة في صيف عام 2011 تدعو لإسقاط نظام عمر البشير. فبعد أن اطيح بطاغية تونس وأصبح رصيفه في مصر أمس الداثر، وتداعي وترنح طغاة اليمن وليبيا وتونس، أصابت السودانيين الغيرة فقرروا أن يجربوا حظهم.
وكان ممن بادر إلى موعد النزال وساحة الوغى في ميدان في قلب الخرطوم، زعيم الحزب الشيوعي، المناضل الراحل محمد ابراهيم نقد في طائفة قليلة من أنصاره. ولكنه وجد الميدان خالياً إلا من بعض رجال الشرطة المتربصين. وبعد ان انتظر طويلاً في حرّ الشمس وهو بين الأمل والرجاء، من دون أن يأتيه مدد ولو من متظاهر واحد من أنصار بقية الأحزاب، التقط قطعة من الورق المقوى وكتب عليها عبارة: ‘حضرنا ولم نجدكم’، وتركها في الميدان قبل أن ينصرف هو ومن معه.
وهذه العبارة بالمناسبة تقليد سوداني من عصر ما قبل الموبايلات، حين كان الزائر إن لم يجد من يقصدهم يخطّ مثل هذه العبارة على الباب، غالباً باستخدام الفحم قلماً (سقى الله تلك الأيام!)
(5)
كما قلنا فإن هذا قد يصدق فينا قول المتهكمين، ولكن أنا شخصياً لي نظرة أخرى لهذا الأمر، ولا أرى عيباً في أن السودانيين قوم اشتهروا بما نسميه ‘المهلة’، أي النظر إلى الأمور بتريث وأريحية، مع البعد عن العجلة والتشنج. فهذا جزء من الروح السودانية العامة التي تؤيد أيضاً التسامح والتعايش. ويجب أن ننوه هنا بأن هذه الروح لم تندثر بعد، رغم ما واجهته البلاد من مصائب، خاصة تحت النظم الحالي الذي ساهم في تقويض هذه الروح أكثر من أي نظام سابق.
(6)
وبينما يشيد كثيرون باستمرار هذه الروح وتجلياتها في مظاهر المودة بين الخصوم السياسيين، حتى بين من يرفعون السلاح ضد بعضهم، إلا أن هذا التناقض بين روح التسامح الاجتماعي وحالة الاستقطاب السياسي أصبحت في الآونة الأخيرة أشبه بانفصام الشخصية. فالخطاب السياسي يفيض عندنا بالكراهية وروح الإقصاء، بينما الواقع الاجتماعي يطرح واجب التعايش والمودة.
(7)
التسامح السوداني التقليدي قد يتعايش مع الحرب والاقتتال، ولكنه لا يتعايش مع خطاب الكراهية. فالقيم السودانية التقليدية جسّدها بيت الشعر المشهور في مدح الفارس المقدام بأنه: ‘كاتال في الخلا، وعقبان كريم في البيت’ فالمقاتل الجسور لا يكره خصمه، بل يحترمه، وينازله بشجاعة في الميدان، ولكنه يكرم وفادته إذا زاره في بيته. وهذه روح ديمقراطية أصيلة، هي أساس كل نظام ديمقراطي، حيث يتعارك الخصوم في ساحة الوغي (البرلمان والحملات الانتخابية) كما يتبارى اللاعبون في ميادين الرياضة، ولكنهم يرفعون القبعة للخصم الفائز ولا يفسد ذلك للود قضية.
(8)
ما أفسد هذه الروح هو سلوك النخب الحديثة وأيديولوجياتها المتعنتة التي تتجاهل الواقع وتدفنه تحت رؤى خيالية تبرر لها تعدياتها على قيم المجتمع وتجاهلها. وقد دفع هذا بكثيرين إلى انتقاد روح التسامح السودانية التقليدية، ووصفوها بأنها المسؤولة عما نحن فيه من تدهور. ويرى هؤلاء أن زمن التسامح قد مضى، ولا بد من الآن أن يكون السوداني ‘كاتال في الخلا وكاتال في البيت أيضاً’.
(9)
في نظري أن العكس هو الذي ينبغي أن يحدث، حيث من الواجب أن يصبح السوداني كريماً في الخلا والبيت أيضاً. فقد وصلنا إلى ما نحن فيه لأن بعض الأيديولوجيات والحركات تبنت العنف وبررت لنفسها القتل من أجل تحقيق أهدافها السياسية. ويدخل في ذلك تبرير الانقلابات العسكرية والتصفيات والعمليات الانتقامية. ولكن من الواجب الآن أن نخرج من هذه الدائرة الخبيثة، ونعلن جميعاً الإمساك عن سفك الدماء وعن الانقلابات وقمع الآخرين، ونفتح صفحة جديدة يكون التعايش السلمي أساسها، والمنازلة الوحيدة هي في ميادين الانتخابات.
(10)
رب ضارة نافعة، فلتكن إجازة العيد من الثورة والقمع (ونوم الظالم عبادة) بداية لإجازة دائمة من سفك الدماء والظلم واستعادة السودان الأصيل لأهله. ولعل البداية تكون بأن يكمل السيد الرئيس توبته بعد حجه بإعلان استقالته وتسليم السلطة إلى حكومة انتقالية يرتضيها الشعب، ويعتذر هو وغيره ممن ولغوا في دماء هذه الشعب عن أثامهم.
بعد هذا العدد من الشهداء الذين رو بدمائهم الطاهرة ارض السودان . لن يتراجع السودانيون عن تغيير هذا النظام المتاسلم الذي جسم علي شعبنا 24 عاما باسم الدين الاسلامي المقدس. لم يقدم شيئا ملموسا وفقد اهليتة للحكم بعد هذا العنف الدموي ضد اهلنا الابرياء والذي يكشف عن ارتباك وخوف شديدين . التغيير ات لا محاله انه السكون الذي يسبق العاصفة واعادة ترتيب الادوات والتكتيكات التي تتناسب مع دموية النظام . هذة المره لن يكون هنالك تسامح سوف نقتص من كل سفاح اجرم في حق شعبنا العظيم والايام دول.
أستاذنا الكبير…كتاباتك رائعة و موضوعية دائماً فأنت مرجعيتنا في القرن الافريقي والجنوب العربي…. لدي فقط ملاحظة بسيطة مبنّية على أساس وجهة نظرأؤمن بها منذ نعومة الانامل…
تحت الفقرة السابعة تقول:
“…وهذه روح ديمقراطية أصيلة، هي أساس كل نظام ديمقراطي، حيث يتعارك الخصوم في ساحة الوغي (البرلمان والحملات الانتخابية) كما يتبارى اللاعبون في ميادين الرياضة، ولكنهم يرفعون القبعة للخصم الفائز ولا يفسد ذلك للود قضية.”
طبعاً نظرتك أعلاه علمانية لبرالية تنويرية حديثة للواقع السوداني.. أما أنا فأرى أن الاصل فيما ورد أعلاه هو بفضل الاسلام ” الحق الوسطي المتسامح و المتعايش ” مع غيره من بني البشر…(وكما ورد في أصل الدعوة للنبيّ الاكرم الصادق الامين محمد – صلى الله عليه و سلم) و ما التأريخ المشرق لهذا الدين الحنيف و هذه الحضارة الرائعة عبر ألف سنة في الاقل من حياة هذه الامة العظيمة.