أيام قليلة جاءت تفصل بين كثرة التداول إعلامياً بخبرين، أو بالأحرى «مناخين». أولهما «المناخ» المتصل بتصاعد عملية مقاطعة لبنان، وارتقاب توسعها من نطاقها السعودي – الخليجي إلى احتمال طرد أو تعليق عضوية لبنان في جامعة الدول العربية. الفذلكة من وراء ذلك أن الدولة في لبنان باتت فاقدة للأهلية، وأسيرة لإيران و«حزب الله» بل متواطئة مع الحوثيين في حرب اليمن، بدليل تصريح لنجم برنامج المسابقات جورج قرداحي سبق توزيره.
يقابل ذلك «المناخ» الذي روّجت له زيارة وزير خارجية الإمارات الأخيرة إلى دمشق. الأولى على هذا المستوى منذ تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية في نوفمبر/تشرين الثاني 2011. في اللحظة نفسها التي يُطرَحُ فيها عربياً تعليق عضوية لبنان في الجامعة العربية بدعوى أنه أسير منظومة الممانعة التي تقودها إيران، وينخرط فيها النظام السوري، تجري المطالبة باستئناف عضوية هذا النظام في الجامعة، وإعادته إلى «الحضن العربي الدافئ» بدعوى أن ذلك كفيل بالتخفيف من حاجته إلى الحضن الإيراني!
عندما بادرت الأنظمة العربية لقطع علاقاتها مع نظام دمشق وأقصته عن الجامعة العربية كان ذلك لأسباب ثلاثة.
السبب الأول هو أن النظام البعثي تجاوز في استخدامه لآلته القمعية الدموية ما قامت به مجتمعة الأنظمة العربية الأخرى التي واجهتها انتفاضات شعبية في ملتقى «الربيع» المزلزل ذاك. والسبب الثاني أن تهاوي النظام كان في تلك اللحظة أمراً راجحاً، بما يحاكي مصائر بن علي ومبارك والقذافي وصالح. بل اعتُبرت شدة قمع النظام للمحتجين من النوع المسرع لعملية طي صفحته. وبدلاً من أن يحتسب التعلق الأقلوي بالنظام كشبكة عصبية معترضة سبيل إزالته، غلب التحليل الذي يُرجح العكس تماماً والذي ثبت لاحقاً بطلانه. أي أن يتساقط النظام كلما أخذ يظهر أكثر فأكثر كنظام للأقلية في وجه الأكثرية. والسبب الثالث، وهو الأهم على الصعيد الإجرائي، أن ترجيح كفة زوال حكم بشار الأسد عَكَسَ تأثر هذه الأنظمة بتصاعد لهجة وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في حينه. بل يبدو أن الأمريكيين هم الذين سعوا مباشرة لدى حكومات المنطقة للتعجيل بالقطيعة مع النظام السوري. كان هذا قبل أن يبدل الأمريكيون موقفهم لاحقاً، ويجدوا أن الأنسب لهم هو نظام سوري ضعيف، دون أن يسقط.
الأنظمة التي بادرت الى مقاطعة النظام السوري عام 2011 لم تكن ديمقراطية من قريب أو بعيد، وهي في معظمها لا تنفي ذلك. لكنها لم تقدم على مقاطعة نظام الأسد فقط لأن الولايات المتحدة أرادت لها ذلك. أقدمت على الأمر أيضاً لأنها، ولو لم تكن ديمقراطية، الا أنها اعتبرت أن دموية الطغيان في الحالة السورية يزيد عن المنسوب المقبول به استبدادياً، وأن عدم التبرؤ من دموية الطغيان ليس في صالحها. هي ليست بصدد الاستجابة لرغبات ديمقراطية من أي نوع، لكنها من النوع الذي يقول بأن تشكيل تفاهمات نفسية مزمنة بين الحكام والمحكومين هو أمر لا مناص منه.
وكان الربيع العربي لعام 2011 شمل، باستثناء البحرين، الأنظمة الجمهورية ذات الشهوة التوريثية دون الأنظمة الملكية، ذات المسافات المتفاوتة من النموذج الملكي الدستوري، وهذه الأنظمة الملكية كانت عملياً السباقة لمقاطعة النظام السوري ثم إخراجه من الجامعة، مع أنها لم تكن أنظمة على عداء مع نظام آل الأسد. بالعكس. بعض هذه الأنظمة سبق له أن أظهر تعاطفاً مع الرؤساء في تونس ومصر، وبشكل أكثر تعقيداً اليمن، في وجه القومة الشعبية، كما تدخل مباشرة ضد الحراك الشعبي في البحرين، لكنه أظهر تعاطفاً على العكس من ذلك مع الثورة على معمر القذافي. لم يكن حتمياً أن تعتمد حيال سوريا نفس موقفها في ليبيا.
النظام الرسمي العربي حين قاطع نظام آل الأسد قبل عشر سنوات فعل ذلك مداراة لعمق أزمة النظام العربي الرسمي ككل قبل أي شيء آخر
وعندما اندلعت الاحتجاجات في سوريا تدرج التصعيد حيالها. فهناك من طالب في البدء بأن يقود بشار الأسد عملية إصلاحية داخلية، ومضى الى القطيعة مع الأسد على هذا الأساس بعد ذلك. وهناك من تخوف من أن يؤدي انتقال تركيا من موقع متفاهم مع النظام الى موقع مؤيد للثورة عليه الى تمدد نفوذها في الإقليم حالَ سقوط النظام. فابتغى أن يكون له دور ونفوذ في «الثورة» لمحاصرة النفوذ التركي فيها. وهناك من قدّر باكراً أن النظام في حركة تصديه للانتفاضة عليه سيحتاج الى إيران وامتداداتها في الإقليم أكثر من ذي قبل.
الإمارات التي كانت في سرب المقاطعين للنظام عام 2011 حافظت رغم ذلك، باكراً، على لغة أقل تشنجاً حيال هذا النظام. وإذا كان لها موقف سلبي من التدخل الإيراني في سوريا فإنها لم تتردد في إظهار موقف ايجابي من التدخل الروسي فيها، وهي منذ خمس سنوات تروّج لعودة سوريا الى الجامعة، وقد أعادت افتتاح سفارتها في دمشق عام 2018. تراجعت مع الأعوام عملية تسويغ الانفتاح على النظام السوري بمحاولة انتشاله من حضن إيران لإعادة تأهيله في حضن العرب.
جرى بدلاً من ذلك الحديث عن جبهة مشتركة مع النظام ضد «الإرهاب» هذا من بعد تمغيط مقولة الإرهاب، لكي تتضمن كلا من «تنظيم الدولة» (داعش) والنصرة ثم مختلف تلاوين الإسلام السياسي المنبثقة، أو المعتقد أنها منبثقة، من تراث حركة الإخوان المسلمين. والمفارقة مزدوجة هنا. فالتطبيع مع دمشق يرتبط بتصور استقراري للمنطقة يتمحور أيضاً حول اتفاقية إبراهام والسلام المتخفف من معادلة «الأرض مقابل السلام» مع إسرائيل. في الوقت نفسه يجري عزل لبنان أكثر فأكثر، مع الإيحاء بأن الأفق الوحيد للجم «حزب الله» في لبنان يكون بإعادة النفوذ النظامي السوري إلى البلد الذي يقيم فيه أزيد من مليون ونصف مليون لاجئ سوري.
ومثلما يقوم هذا التصور «الاستقراري» على معادلة «السلام النفسي قبل الأرض في مقابل السلام» فهو يستند الى منظار مفاده أن فكرة الديمقراطية «جُربت» بعد 2011 في المنطقة العربية وثبت عدم الاستعداد لها، وعدم صدقية الذين حملوا لواءها من الأساس، وأنه إذا كانت العودة الى النظام الرسمي العربي كما كان قبل انتفاضات 2011 مستحيلة، فإن صياغة نظام عربي جديد عليها أن تطوي صفحة كل تفكير بفكرة الديمقراطية، والتعامل معها على أنها صنو الفوضى بالنسبة الى المجتمعات العربية، وفريسة سهلة للتحايل الإسلامي على لعبة صناديق الاقتراع.
هذا في مقابل التركيز على «التحديث والعصرنة» إنما التحديث غير المستند الى تركة تنويرية نقدية إلا فيما قل ودل. والمركز بدلاً من ذلك على المتابعة أولاً بأول لمنجزات الثورة الرقمية، والطفرات التكنولوجية المتتالية، وتوسيع مشارب وآفاق الإستهلاك والفئات التي تؤمن قاعدة متفاوتة، لكن عريضة، لتلبية الاستهلاك هذا. شرعية الكفاءة بدلاً من شرعية التمثيل والمشاركة، وشراكة الاستهلاك بدلاً من الشراكة في التقرير. ثم يرتبط هذا التصور الاستقراري بتقدير أن لكل حكومة في المنطقة دوراً وساطياً أو نطاقياً يمكن أن تلعبه. الإمارات مثلا يمكن ان تلعب دوراً وساطياً بين سوريا والسعودية. وسوريا يمكن ان تلعب دوراً وساطياً مع الحوثيين. وهو ما سبق لها أن قامت به عام 2010 حين احتل الحوثيون جبل دخان في السعودية.
المشكلة مع هذا التصور هي أنه لو كانت التوترات والنزاعات في هذه المنطقة من العالم يمكن ان تحل بهذه الطريقة لما كانت هذه النزاعات من أصل. والمشكلة ثانياً ان هذه الأدوار الوساطية المتخيلة لم تعد قابلة للتجسيد الفعلي، محكومة بالهلامية. كما أن انفجار أزمة مشروعية النظام الرسمي العربي برمته عام 2011 لا يمكن توريتها على هذا النحو.
والحال أن النظام الرسمي العربي حين قاطع نظام آل الأسد قبل عشر سنوات فعل ذلك مداراة لعمق أزمة النظام العربي الرسمي ككل قبل أي شيء آخر، وإذا كان هذا النظام الرسمي لن يسهل السبيل لعودة بشار الأسد الى الجامعة، فليس ذلك نتيجة لطفرة إيمانية بالديمقراطية، ولا تحت إيعاز أمريكي فقط، بل لأن مثل هذه العودة تسرع في طرح ما يفضل النظام الرسمي العربي تأجيل استحقاقه: نضوب السستم الذي حكم العلاقات بين البلدان العربية منذ استقلالها عن الاستعمار والى اليوم. عدم توفر بدائل ديمقراطية لا يجعل من هذا النضوب مياه حياة تتدفق من جديد.
كاتب لبناني
آن الأوان لإعادة سوريا لما كانت عليه قبل عام 2000 حين كانت تحظى برعاية عربية ودولية فبلغت الثقة بها إلغاء كل ديونها وإغداق مساعدات عربية لها وتدفق استثمارات بمليارات بتوازي مع تسليمها ملف إدارة لبنان 25 عاماً وصولاً لاتفاق الطائف وانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان. إذن آن الأوان لوضع حد لفوضى سوريا بإخراج كل مقاتل غير سوري وإبعاد ميليشيات تتبع دول إقليمية طامعة بها وإخراج إيران وتركيا منها لعودة رعاية عربية ودولية وإغداق مساعدات عربية لإعادة الإعمار وإعادة تسليمها ملف إدارة لبنان لحصر سلاح بيد الدولة