«إخوة ليلى» للإيراني سعيد روستائي: امرأة في مواجهة الأسرة والرجال

نسرين سيد أحمد
حجم الخط
0

كان ـ «القدس العربي»: في فيلمه «إخوة ليلى» المتنافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي في دورته الخامسة والسبعين (17 إلى 28 مايو/أيار الجاري) يقدم المخرج الإيراني سعيد روستائي فيلما عن الحالمين الذين تسلب الحياة آمالهم العريضة، عن الأسرة وأواصرها وقيودها، عن الإخوة والأخوات. وهو أيضا فيلم يتخذ من أسرة إيرانية صغيرة صورة مصغرة للمجتمع الإيراني، ولإيران ذاتها التي تعصف بها التقلبات السياسية، فتقوض آمال الكثيرين وتزلزل حياة الكثيرين. وهو في المقام الأول فيلم عن المرأة، التي تحمل عبء الأسرة ومسؤوليتها، ويقف المجتمع والرجال حائلا أمام حصولها على حياة كريمة.
يقدم روستائي في «إخوة ليلى» ملحمة أسرية تتشابك فيها الأقدار والمصائر، وتقدم فيه ترانة علي دوستي، التي عرفناها من أدوارها في أفلام أصغر فرهادي مثل «عن إيلي» أداء مميزا في دور ليلى، التي أعياها العمل والكد والكدح، فهي رغم كونها الأخت الوحيدة لأربعة من الإخوة الأصحاء الشباب، إلا أنها الفرد الوحيد في العائلة الذي يحصل على راتب ثابت، وهي التي تتكفل بنفقات والديها المسنين.
يبدأ الفيلم وليلى في زيارة للطبيب علّها تجد علاجا لآلام ظهرها، فهي على شبابها، تحمل من العبء الكثير حتى توفر قوت أسرتها. وتقرر ليلى، التي كلّت وسأمت من إعالة إخوانها الشباب، الذين يعانون من البطالة، أن تمسك بزمام الأمور، وأن تستثمر المال القليل الذي ادخرته هي وإخوتها لشراء متجر ليصبح مصدر دخل للجميع. ينتصر الفيلم لليلى التي أمضت خير أعوام شبابها في إعالة الأسرة.

يكمن الصراع الرئيسي في الفيلم في النزاع بين ليلى وأبيها إسماعيل (سغيد بورساميمي في أداء متقن ومؤثر) وهو رجل ضئيل الحجم ترتسم المسكنة والألم على وجهه. يود إسماعيل أن يصبح زعيم عشيرته، وهي عشيرة جورابولو، التي أمضى جلّ عمره منبوذا فيها لفقره، فيقرر إنفاق كل مدخراته، 40 قطعة من الذهب، للحصول على لقب زعيم العشيرة. لا يفكر الأب للحظة في إعطاء العملات الذهبية تلك لأبنائه ليقيموا بها مشروعاً ينقذهم من العوز والبطالة. وكل ما يشغله هو الحصول على زعامة يتوق لها حتى إن أنفق في سبيلها كل ما ادخره من مال. ثمة مشهد رئيسي في الفيلم يذكرنا بفيلم «العراب» لفرانسيس فورد كوبولا، حيث يجلس الأب على مقعد زعامة العشيرة متلقيا فروض الطاعة والولاء من أفراد العشيرة. ويحمل الفيلم أيضا أصداء من فيلم «روكو وإخوته» (1960) للوكينو فيسكونتي.
تعيش ليلى وسط عدد من الرجال الذين يمثلون كل ما يعوق المرأة في المجتمع. إخوة ليلى يتراوحون بين قلة الحيلة والكسل والرغبة في الحصول على المال احتيالا، بينما لا يفكر والدها إلا في أوهام الزعامة والسيطرة، ووسط هذا كله يتوجب على ليلى أن تكون الابنة الطيبة الحنونة المعطاءة، بينما يهدر أباها آخر فرصة لها للعيش عيشة كريمة. غضب ليلى العارم، الذي يعتمل في صدرها منذ أعوام، هو الشحنة العاطفية الرئيسية للفيلم، وهو المحرك الرئيسي للأحداث. كعاصفة لا تبقي ولا تذر، تنفجر ليلى غضبا إزاء أنانية والدها الذي لا يعنيه إهدار مدخرات الأسرة لمجرد التفاخر وسط عشيرته، وإزاء إخوانها الذين يقفون مكتوفي الأيدي بينما تسعى هي لتحقيق مستقبل أفضل لهم جميعا. يبقى هذا الغضب حبيسا على مدى أعوام ليخرج كثورة بركان في مشهد رئيسي في الفيلم، وهو مشهد العرس الذي يتولى فيه والدها زعامة العشيرة مقابل تقديم كل مدخراته للحصول على هذا اللقب. عاش الأب مهمشا بين أهل عشيرته، يشعر بالذلة والمسكنة، ونحن نفهم ونتفهم رغبته في الحصول على المكانة والسيادة، لكننا نفهم أيضا غضب ليلى. وهنا تكمن قوة الفيلم، فهو لا يحول الأب إلى مسخ أو شيطان، بل يجعل منه شخصية نتعاطف معها ونتفهم رغبتها في الحصول على الاحترام والمكانة.

ما يعتمل من خلاف وغضب داخل أسرة ليلى ليس بمعزل عما يحدث في إيران وفي طهران. تدور أحداث الفيلم في طهران، وفي العديد من المشاهد نشهد التفاوت الضخم بين من يملك ومن لا يملك في المدينة. نرى مراكز تجارية فارهة، وفنادق فاخرة، ونرى جميلات يتبخترن في ثياب أنيقة بعد نزولهن من سيارات فارهة. وفي المقابل نرى شظف العيش الذي تعيشه أسرة ليلى. نرى احتجاجات من عمال مصانع لم يحصلوا على أجورهم منذ عام، ونرى على المقابل عرسا باذخا يكلف أسرا مثل أسرة ليلى كل ما تملك.
يصور روستائي الذي كتب سيناريو الفيلم، مدى الفساد المتغلغل في البلاد. نرى إدارة المصنع التي تستحل جهد العاملين دون أن تمنحهم أجورهم طوال عام. ونرى فرهد، شقيق ليلى، الذي يحتال للحصول على أموال من أشخاص يشبهونه هو وإخوته مقابل شراء سيارات يتعاقدون عليها ولا يحصلون عليها قط. ويصور الفيلم أيضا كيف تلعب السياسة الدولية لعبتها، فتحطم أحلام الكثيرين. نشهد في الفيلم الانهيار الحاد في قيمة العملة الإيرانية إثر انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، من الاتفاق النووي مع إيران. بين ليلة وضحاها تصبح مدخرات أسرة ليلى هباء منثورا، جراء تدهور قيمة العملة. يتركنا روستائي ونحن نتساءل عن مستقبلنا نحن أيضا، فمن منا يأمن على مستقبل أيامه وسط عالم دائم التقلب تعصف به أهواء الساسة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية