عندما كرر مرشح الرئاسة دونالد ترامب زياراته لولاية ميشيغان، ذات الكثافة العربية والإسلامية، وكرر مقولاته حول إحلال السلام في الشرق الأوسط انخدع بشعاراته عدد من الناخبين ومنحوه أصواتهم، على أمل أن يلتزم بوعده، وعقابا لإدارة بايدن التي تبنت حرب الإبادة الإسرائيلية بكل تفاصيلها العسكرية والاستخباراتية والمالية والدبلوماسية، لكن الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين لم ينخدعوا بوعود ترامب، كما عاقبوا كامالا هاريس كذلك وصوتوا لمرشح ثالث أو لم يصوتوا لأحد.
منذ بداية تعيينات ترامب للمراكز الوزارية الأساسية للإدارة المقبلة، تبين مبكرا أنها مفصلة تماما على المقاس الإسرائيلي، خاصة ما يتعلق بالشرق الأوسط. إذ ليس صدفة أن الشخصيات التي اختارها للمناصب الأساسية معروفة بمواقفها الداعمة للكيان الصهيوني، وحرب الإبادة على غزة ومن جماعات الصهاينة المسيحيين وبعضهم ساهم في تحرير وثيقة «مشروع 2025». ولو اقتصر الاختيار على شخص أو اثنين، أو حتى ثلاثة لربما تفهمنا ذلك، لكن جميع من اختارهم للعلاقات الخارجية والشرق الأوسط والدفاع والمخابرات والأمن والأمم المتحدة يصطفون خلف الرواية الإسرائيلية بأكاذيبها وجرائمها.
على الفلسطينيين أن ينظموا صفوفهم ويوحدوا مواقفهم ويعززوا صمودهم، فالمعركة المقبلة ستكون الضفة الغربية ساحتها بهدف التهجير والتفريغ والضم النهائي
لا نجد تفسيرا لمثل هذه الاختيارات المنحازة لإسرائيل بالمطلق، إلا تسديدا لوعود واستكمالا لصفقات وتنفيذا لاتفاقيات مع الذين دعموه ومولوا حملته الانتخابية بملايين الدولارات. ونكاد نجزم أن ترامب قدّم وعودا كبرى لمريم أديلسون أرملة الملياردير الصهيوني شيلدون أيدلسون، التي سارت على نهج زوجها الراحل، وأعلنت في مايو الماضي أنها ستقدم أكثر من 100 مليون دولار لحملة ترامب إذا وعد بضم الضفة الغربية لإسرائيل. وكان أديلسون قد قدم لترامب عام 2016 مبلغا كبيرا (بين 20 إلى 40 مليون دولار) مقابل نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وقد برّ بوعده واعترف بالقدس عاصمة موحدة أبدية تحت السيادة الإسرائيلية. وقبل أن تقدم مريم المبالغ الكبيرة لحملة ترامب الانتخابية، التقت معه في شهر مارس الماضي في قصره بفلوريدا، بصحبة سفير ترامب إلى إسرائيل في دورته الأولى، ديفيد ليبرمان. وقد صرح يومها ترامب لصحيفة «إسرائيل هيوم» التي تملكها أديلسون، أن الثلاثة بحثوا مسألة ضم الضفة الغربية. ويتكهن البعض بأن هذه الوعود تفسر التحول الأخير في موقف ترامب الأكثر إيجابية تجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. ففي فعالية لجمع التبرعات أخبر ترامب المانحين، أنه يدعم حق إسرائيل في مواصلة «حربها ضد الإرهاب»، وتعهد بسحق الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات، وترحيل المتظاهرين الأجانب. وبعد حادثة 7 أكتوبر انتقد ترامب تعامل القيادة الإسرائيلية مع الحرب في غزة. ففي مقابلة مع صحيفة «إسرائيل هيوم» قال ترامب إن إسرائيل ارتكبت «خطأ كبيرا جدا» ببث صور الدمار في غزة للعالم. وفي تصريح نشرته القناة 12 الإسرائيلية في أغسطس الماضي قال «إن مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرت كيف يمكن توسيعها». إن تجميع تلك الإشارات الواضحة تكشف عن نية مبيّتة لترامب أنه سيكون في دورته الثانية أكثر تأييدا لإسرائيل ومخططاتها الأكثر خطورة ووحشية، خاصة بالنسبة للفلسطينيين، وأنه قبض الثمن مقدما لهذه السياسة من كبار المانحين الصهاينة. ومراجعة لتعيينات ترامب للمناصب العليا، وخاصة تلك التي تتعلق بالشرق الأوسط، تفصح بشكل جلّيّ عن نيته لوضع الملف الفلسطيني- الإسرائيلي في أيدي أقرب حلفاء الكيان وأعلاهم صوتا في دعم حرب الإبادة وتدمير الفلسطينيين. وتشمل هذه التعيينات وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ووزير الدفاع، وسفيرة
الولايات المتحدة للأمم المتحدة، ورئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) وسفير الولايات المتحدة لإسرائيل، ومبعوث ترامب الخاص للشرق الأوسط، ومسؤول مكافحة الإرهاب. وسنأخذ عينة من مواقف بعض هؤلاء المرشحين للمناصب العليا، وجميعهم يحتاجون إلى تصديق من الكونغرس. من بين الذين أسرع باختيارهم لأهم منصب يملأ بالتعيين، وهو موقع وزير الخارجية الذي أسند إلى عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري، ماركو روبيو، وهو من أهم مؤيدي إسرائيل، وكان قد أطلق تصريحات عنصرية ومنحازة للرواية الإسرائيلية تماما خلال السنة الماضية. وقال إنه يعتقد أن إسرائيل يجب أن تدمر «كل عنصر» من عناصر حماس، وأضاف: «هؤلاء الناس حيوانات شرسة». فتصريحه أكثر فظاظة وحقدا من تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي السابق يوآف غالانت، الذي وصف الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية. أما روبيو فقد أخرج كلمة بشرية ليقتصر الوصف على أنهم «حيوانات شرسة» اي أنه جردهم من جنس البشر. وعندما سئل عن آلاف الضحايا من الأطفال والنساء، لم يجد حرجا في وضع اللوم لقتلهم على الفلسطينيين أنفسهم.
مستشار الأمن القومي مايكل والتز عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية فلوريدا، من أكثر الأعضاء تطرفا، ويؤيد تغيير الأنظمة المناوئة للولايات المتحدة بالقوة، كما يدعو إلى إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا، واستخدام القوة ضد روسيا وإعادة غزو أفغانستان. كما يتوعد إيران بأنه لن يتسامح معها في ما سماه «دعم الإرهاب» ونشر الفوضى في كل أنحاء الشرق الأوسط. وامتدح ما قامت به إسرائيل في غزة ولبنان بما في ذلك تفجير أجهزة اللاسلكي والبيجر قائلا: «إن حركة حماس دمرت وإن إيران أصبحت مكشوفة بشكل لا يصدق». السفيرة الأمريكية للأمم المتحدة، إليز ستيفانيك (40 عاما)، فهي من أكبر الداعمين لإسرائيل وتذكرني بسفيرة ترامب الأولى نيكي هيلي. لقد وقفت معه بصلابة أثناء اعتراضه على نتائج انتخابات 2020 وكان لها دور في غزو الكونغرس يوم 6 يناير 2021. وستيفانيك عرفت أكثر أثناء معارضتها للاحتجاجات في الجامعات الأمريكية واصفة الطلاب المحتجين بأنهم معادون للسامية. واشتهرت أثناء تحقيقاتها مع رؤساء الجامعات، بمن فيهم رئيسة جامعة هارفرد التي تم إقصاؤها عن المنصب. وقد منحتها المنظمة الصهيونية الأمريكية جائزة «مريم وشيلدون أديلسون» للدفاع عن إسرائيل.
وزير الدفاع الجديد، بيت هيجسيث الذي جاء من محطة «فوكس نيوز» المؤيدة لترامب، رجل عديم الخبرة في شؤون الدفاع، حيث عمل مع الحرس الوطني فقط وليس الجيش. ويبدو أن تطرفه ضد إيران أوصله للمنصب. وكان من أكبر مناصري الحرب على العراق التي اعتبرها «حربا ضد الإسلام المتطرف». وبعد اغتيال قاسم سليماني أثناء إدارة ترامب الأولى دعا لاستكمال العمل العسكري الشامل ضد «النظام الشرير في إيران». وكان من مؤيدي مهاجمة المواقع النووية بحجة أن الوقت أصبح ضيقا ولا يحتمل التأجيل.
اختار ترامب لمنصب نائب مساعد الرئيس والمسؤول عن مكافحة الإرهاب العنصري الكبير والكاره للإسلام والمسلمين، سيبستيان غوركا، وهو مهاجر من أصل هنغاري، واشتهر بتعليقاته المعادية للإسلام كدين حيث يقول: «إن الإسلام ليس ديناً، بل أيديولوجية عنيفة». ويعتبر المسلمين في الولايات المتحدة أكبر تهديد للعنصر الأبيض ولأمن البلاد. عمل مع ترامب في إدارته السابقة مستشارا للأمن القومي لمدة خمسة أشهر فقط، حيث أثيرت عليه قضية انضمامه لمجموعة نازية في بلاده تدعى «فيتيزي ريند» ولبس إشارتهم على بدلته في حفل تنصيب ترامب الماضي.
أما السفير الذي اختاره ليمثل الولايات المتحدة في إسرائيل، مايك هوكابي الحاكم الأسبق لولاية أركنساس، فهو الأكثر تطرفا في دعم إسرائيل. وقد تناقلـت كل وكالات الأنباء تصريحاته عن إنكار وجود الشعب الفلسطيني، وإنكار استعمال اسم الضفة الغربية، بل تسميتها يهودا والسامرة. وأعلن في تصريحات بعد اختياره لهذا المنصب أن الولايات المتحدة ستؤيد ضم الضفة الغربية. وقال إنه يتوقع أن سياسة ترامب ستكون متابعة لما قدمه لإسرائيل في دورته السابقة من ضم الجولان والاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة إلى القدس.
هذا غيض من فيض. فلتستعد الأنظمة العربية لما هو آت. فإما أن يتوافقوا على مواقف ثابتة وحقيقية تحفظ كرامتهم، وهذا مستبعد، أو أن ترامب سيجرف أموالهم ويأمرهم بالحج إلى تل أبيب. أما بالنسبة للفلسطينيين فأمامهم فرصة قد لا تتكرر: أن ينظموا صفوفهم ويوحدوا مواقفهم ويعززوا صمودهم ويتمسكوا بالثوابت ويدافعوا عنها بكل شراسة، فالمعركة المقبلة ستكون الضفة الغربية ساحتها بهدف التهجير والتفريغ والضم النهائي.
كاتب فلسطيني