لا تخلو جعبة ترامب من المفاجآت المذهلة، ولكنها لا تبتعد كثيرًا عن منطق الحزب الجمهوري منذ عهد رونالد ريغان، والذي يشتم الحكومة الفدرالية وهو يسعى إليها.
باشر الرئيس الأمريكي المنتخب مجددًا، دونالد ترامب الإعلان عن أسماء من يريدهم في إدارته التي تتسلم مهامها رسميًا في العشرين من كانون الثاني/يناير 2025. من حيث الشكل والتوقيت لا غرابة في ذلك، ففي المألوف أن يبدأ المرشح الفائز بعد زيارة تقليدية إلى البيت الأبيض يلتقي فيها سلفه، في اختيار فريق عمله، وفي العادة يتابع المعنيون تصريحات الفريق الانتقالي أو التسريبات المنسوبة إليه لمعرفة «المحظوظين» من المشرعين والحزبيين والمسؤولين العموميين الذين سيدخلون إلى «جنة» السلطة التنفيذية وسيتصدرون نشرات الأخبار والمقالات والمقابلات، وسيساهمون في رسم السياسات الداخلية والخارجية. لكن في عصر اللّامألوف الذي أستهله ترامب منذ دخوله المعترك الانتخابي من أعلى عتباته عام 2015 يتركز الاهتمام على خياراته لمعرفة حجم الفوضى الذي سيتسبب بها عالميًا، ومدى الضرر الذي سيلحقه بالحياة العامة والسياق الدستوري والديمقراطية نفسها في الداخل.
يعود ترامب إلى المكتب البيضاوي وهو قائد حركة سياسية متينة تسيطر، بفضله، على السلطات جميعًا، تنفيذية وتشريعية وقضائية، ولديه منظومة مؤسسية متكاملة من معاهد الأبحاث، ومراكز الاستطلاع، والمنظمات الحزبية والنقابية والمهنية، وبين يديه الآلاف من الأكاديميين والإعلاميين والفنانين والمثقفين والسياسيين التواقين إلى إشارة منه لخدمته وتنفيذ أوامره. لم تتأخر ترجمة هذا الواقع الجديد كثيرًا، واتضح من التعيينات المقترحة الأولى أن ترامب فعلًا «عائدٌ لينتقم» كما قال هو نفسه مرات كثرة قبل الانتخابات. لكن القلق من هذه المقاربة لا يقتصر على الذين توعد ترامب باستهدافهم في أكثر من 100 خطاب له وحسب، وانما على التبعات التي ستتركها ولايته الثانية على مستقبل أمريكا ككل، وما إذا كانت الدولة صاحبة أول دستور مكتوب في العالم ستبقى جمهورية ديمقراطية. قد تبدو هذه المخاوف مبالغ فيها أو غير منطقية لدى الكثيرين في العالم العربي، لكنها اليوم، مخاوف تؤرق أمريكا.
لم يخيب ترامب ظنون مؤيديه ومناوئيه على السواء. وعلى طريقته المعهودة التي تهتم بعدد المشاهدات (حجم الجمهور) أكثر من المضمون، سارع إلى إعلان أسماء من يريدهم في إدارته حتى الآن، وهم صفوة من وقفوا معه ودافعوا عنه في «لحظة التخلي» بعدما خسر انتخابات 2020 وحاول الانقلاب على نتائجها، خصوصًا من أعضاء الكونغرس بمجلسيه، إلى جانب محاميه الكثر الذين كان عليهم المغامرة بضياع أتعابهم وهم يلاحقون عشرات القضايا المرفوعة ضده، مدنيًا وجنسيًا وماليًا وجنائيًا. لكن الخوف الأكبر الذي يتجاوز الأسماء هو مدى قدرة فريق ترامب على تنفيذ «مشروع 2025» الذي أعدته له «مؤسسة التراث» اليمينية المتطرفة تحت عنوان «البناء لصناعة النصر المحافظ عبر السياسات والكفاءات والتأهيل» والذي يضع خريطة طريق مفصلة للهيمنة على كل مفاصل الإدارة والحياة العامة أثناء الولاية الثانية لترامب.
تشي ترشيحات ترامب للمناصب الحساسة في إدارته ولفريق عمله المباشر بأنه سينفذ ما وعد به خلال حملته الانتخابية، سواء على الصعيد المحلي أو الدولي، وخصوصًا ما يتعلق بأوروبا (والحرب الروسية على أوكرانيا) أو الشرق الأوسط (حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة والعدوان الدموي المتمادي على لبنان). اختار ترامب لدور وزير الخارجية، الذي يعتبر تقليديًا المنصب الثالث تنفيذيًا بعد الرئيس ونائبه، منافسه السابق عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا السيناتور ماركو روبيو، ابن الأسرة الثرية التي هاجرت من كوبا قبل سنتين من استيلاء فيدال كاسترو على الحكم فيها، والتي تحولت تلقائيًا إلى مكون رئيسي من مشروع المخابرات المركزية الأمريكية «سي. آي. ايه» لمواجهة «الخطر الشيوعي» في حينه، وهو المشروع الذي لا يزال يقسّم مهاجري أمريكا اللاتينية إلى فئتين الأولى مطلوبة ومرغوبة (من كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا) والثانية مغضوبة ومرهوبة (المكسيك وما تبقى مما تلاها جنوبًا). ويعتبر روبيو الذي يشغل المنصب الثاني في لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ من الصقور إزاء الصين وإيران، وبالطبع كوبا، ومن أكثر المؤيدين لإسرائيل والاحتلال، ومن المنادين بالمزيد من العقوبات ضد نظام بشار الأسد في سوريا.
المفاجأة التي لم تكن في وارد أي حقوقي أو إعلامي أو سياسي أو أكاديمي أو حتى مواطن عادي هي ترشيح ترامب لعضو مجلس النواب عن ولاية فلوريدا مات غايتز لمنصب وزير العدل. كيف يمكن لابن عائلة شديدة الثراء، الذي لم يمتهن في حياته شيئًا سوى الترشح لمناصب سياسية، والمتهم بدعاوى تسهيل الدعارة والمتاجرة بالقاصرين، والذي كان يتباهى عندما دخل الكونغرس عام 2016 بصبيانية غريبة أمام زملائه خلال الأعمال التشريعية الرسمية، بعرض صور فتيات في مواقف إباحية له معهن، وهو حتى اليوم لا يزال قيد التحقيق في مجلس النواب حول قضية الإتجار بالقٌصر، والتي كانت طريقه إلى الشهرة، ليس كونه متهمًا، ولكن لأنه تمكن من اقصاء رئيس مجلس النواب السابق كيفن مكارثي عبر التصويت بعزله، خدمة لترامب، لأنه رفض التراجع عن التحقيق البرلماني بحقه.
اختار ترامب لتولي منصب مديرة الاستخبارات الوطنية عضو الكونغرس سابقًا عن ولاية هاواي تولسي غابيرد، وهي شخصية نرجسية، تطوعت في الحرس الوطني لأكثر من عشرين سنة وخدمت في الكويت لبعض الوقت، وحاولت الترشح إلى الرئاسة عن الحزب الديمقراطي (لمواجهة ترامب) عام 2020. ومع أن جعبتها تخلو من أي مميزات إيجابية في موضوع الأمن الدولي، وفقط لأنها تخلت عن هويتها الحزبية وأعلنت مساندته. لكن سيكون لغابيرد إن تمت المصادقة على تعيينها دور مهم لأن علاقتها بنظام بشار الأسد في سوريا ممتازة، وكانت من المشرعين الأمريكيين الذين زاروا دمشق ودافعوا بضراوة عن نظام البعث.
وفي مفاجأة لا تقل ضراوة، اختار ترامب مذيعًا في قناة «فوكس نيوز» اليمينة بييت هيجسيث (44 سنة) ليكون وزيرًا للدفاع، وليس في نبذته الشخصية ما يخوله ليكون أكثر من مسؤول دورية في شركة أمنية محترمة. لكنه من خلال «فوكس نيوز» التي صنعت ظاهرة ترامب أولًا وتاليًا، يستحق أن يتبوأ سدة البنتاغون، لا لشيء لكن لأنه آمن بترامب.
وليس بعيدًا عن ذلك يريد ترامب أن تكون حاكمة ولاية داكوتا الجنوبية كريستي نويم وزيرة الأمن الداخلي. تقتصر مواصفات نويم، التي كتبت في مذكراتها أنها قتلت كلبها الأليف لأنه لم يكن متقبلًا للتدريب والتلقين، على أنها أثناء الولاية الأولى لترامب لم تأمر سكان ولايتها بارتداء الكمامات الواقية ولم تُلزم الحكومات المحلية بإجراءات السلامة المطلوبة مثل المسافة الوقائية وعدم التجمع. بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي تكبدته ولايتها بسبب سياستها المستهترة، نجحت نويم في لفت نظر ترامب، الذي كان ينفذ إجراءات العزل المقترحة للوباء لكنه كان علنًا ضدهاـ والذي تلقى اللقاح المضاد له، لكنه جيّش ضده، والذي تفاخر بإنتاج اللقاح في سرعة قياسية لينفي أي مفعول له.
لا تخلو جعبة ترامب من المفاجآت المذهلة، ولكنها لا تبتعد كثيرًا عن منطق الحزب الجمهوري منذ عهد رونالد ريغان، والذي يشتم الحكومة الفدرالية وهو يسعى إليها. فقد اختار الرئيس المنتخب لوزارة الصحة والشؤون الإنسانية روبرت كينيدي جونيور، الإبن «الضال» لعائلة كينيدي التي أعطت أمريكا بعضًا من ألمع نجوم الليبرالية فيها. ترشح كينيدي لتزكية الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة، لكنه لم يسجل أي حضور ملحوظ، خصوصًا وأن برنامجه الانتخابي تمحور حول نقطة واحدة وهي أن اللقاح ضد وباء «كوفيد» مؤامرة، وأن الوباء نفسه كان مؤامرة لا تستثني أحدًا سوى الأشكيناز من اليهود! فكيف سيكون المؤتمن على صحة الأمريكيين موتور لا يؤمن بالعلم والطب، أعلنت عائلته نفسها عن التبرؤ منه؟
وفي زمن يحتل فيه موضوع التغير المناخي الذي يعصف بالعالم أجمع أبرز عناوين الأخبار ولو بتعابير مختلفة، ويتطلع العالم إلى الولايات المتحدة لتلمس الحلول المجدية، يقترح ترامب لقيادة وكالة الحماية البيئية عضو الكونغرس لي زيلدين (44 عامًا) الذي ليست لديه أية خبرة أو معلومات تتعلق بالبيئة أو أي موضوع حيوي آخر سوى موالاته العمياء لترامب والتي كانت سبب دخوله إلى الكونغرس. ولا يوازي اختيار كهذا سوى إعلان ترامب تسمية توم هومان كمسؤول أعلى للحدود مهمته الإشراف على ملف المهاجرين غير النظاميين، وليس في سجله الوظيفي أكثر من أنه كان موظفًا متحمسًا لسياسات ترامب المتعلقة بالمهاجرين في ولايته الأولى. لكن التعيين الأكثر إثارة للمخاوف في هذا الملف، هو اختيار مستشار ترامب الأكثر فاشية ستيفن ميلر، مهندس فصل العائلات في ولاية ترامب الأولى، ليكون نائب مدير المكتب الرئاسي للسياسات. هذا يعني دون أي شك الكثير من القرارات المؤلمة وغير الإنسانية في حق المهاجرين غير النظاميين.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه العرب، وخصوصًا الفلسطينيون واللبنانيون منهم معرفة توجهات ترامب الثاني، لم تتأخر الإجابات، سيما وأن الكثير من العرب الأمريكيين راهنوا على «سلام ترامب الموعود». فقد اختار ترامب المبشر المسيحي، حاكم ولاية أركنساه السابق، مايك هاكابي (الذي كرر أكثر من مرة أنه غير متأكد من وجود شيء اسمه فلسطيني) ليكون سفير أمريكا في إسرائيل. هاكابي ذو رؤية قيامية مسيحية تبشر بمحرقة يهودية تؤذن بعودة المسيح، لكن ذلك لا يزعج الصهيونية التي تستفيد من الدعم المسيحي الضروري، بصرف النظر عن المضمون اللاهوتي. لكن المؤكد أن هاكابي يعرف ما هو بصدده ويقول، دون دبلوماسية تفترضها وظيفته كسفير، أنه وإدارة ترامب الثانية منفحتان على فكرة ضم الضفة الغربية (المحتلة) إلى السيادة الإسرائيلية على غرار قرار ترامب الأول نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والمصادقة على قرار ضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة إلى الكيان. وليكتمل المشهد اختار ترامب عضو الكونغرس الصهيونية ذات الأصل اليهودي اليس ستيفانك لتكون المندوبة الدائمة لواشنطن في الأمم المتحدة. ستكون ستيفانك بلا أدنى شك، وهي المنحدرة من الوسط اليهودي الأمريكي في نيويورك، أكثر حرصًا على مصالح تل أبيب من الإسرائيليين أنفسهم.
لم تكتمل الصورة بعد، لكن مؤشراتها الأولى تشير بلا ريب إلى أن ولاية ترامب الثانية ستكون أمضى من سابقتها. ففي أمريكا ستعاني المؤسسة الرسمية، أو ما يسميها ترامب بالدولة العميقة من تحديات هائلة، وسيكون على الموظفين العموميين الأكفاء أن يتحولوا إلى متهمين، وربما مدانين، بينما سيكون على العالم الذي راهن على الريادة الأمريكية منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية أن يبحث عن مصدر أمان جديد لن تساهم إدارة ترامب الثانية في ايجاده. هي فوضى داخلية وخارجية ينذر بها العهد الثاني لترامب الذي دخل عالم الرئاسة من الشاشة والشهرة التلفزيونية ولا أحد يعرف إن كان سيتركها ديمقراطية، كما كانت قبل دخوله.