إدغار ألن بو: بين هوس وهستيريا

حجم الخط
2

الهوس الكوني بشخص الروائي الإرلندي الأشهر جيمس جويس قد لا يجاريه، والبعض يساجل بأنه يتفوّق عليه، الهوس القديم/ المتأصل/ المتجدد بالقاصّ والشاعر والناقد الأمريكي الذي لا يقلّ شهرة وجاذبية وسحراً: إدغار ألن بو. فبعد أن أخذت الولايات المتحدة تتعافى تدريجياً من كوابيس جائحة كوفيد – 19، بدا واضحاً أنّ موجة من الحنين الجارف إلى بو أخذت تستبدل قرابة سنتين من أجواء الحجر والرعب والهلوسة والغموض؛ وليس الابتداء من أمريكا، في موازاة أوروبا وبقاع أخرى كثيرة من العالم، إلا لأنّ بو في بلاد العمّ سام أبعد من مجرّد أيقونة ومنبع استلهام وموضوع تخييل مفتوح واقتباس طليق.
على صعيد الأدب، أوّلاً، شهدت السنة الماضية توزيع جوائز بو المعتادة من دون احتفالات فعلية يشارك فيها عشاق الكاتب الذي أجاد التقاط مناخات الكابوس، ومن دون حضور فيزيائي للفائزين؛ لكن جمعية «كتّاب الغموض في أمريكا» التي تمنح الجوائز أصرّت هذه السنة على تنظيم حفل مشهود، وكأنها تثأر بالنيابة عن جمهور بو وعشاقه على امتداد العالم. ولم يكن غريباً أن تذهب الجائزة المخصصة لفرع الجريمة الفعلية إلى إريك آير، عن «موت في لعق الوحل» التي تفضح دسائس شركات الأدوية؛ الآن وحروب اللقاحات على أشدّها. فرع القصة القصيرة ذهب إلى الإثيوبية – الأمريكية معزّة منغيستا، عن «غبار، رماد، طيران»، التي تستوحي بو لكن على خلفية أديس أبابا. ثمة رغبة واضحة، طاغية ولا التباس فيها أو تمويه، لاستعادة بو وكأنه يعايش طور الجائحة الخاصة بعصرنا؛ أو كأنّ عصرنا، من عدسة إبصار مختلفة، يرحّل أنساق الفزع والخشية والهول التي يخلّفها فيروس كوفيد إلى زمن مضى أجاد خلاله بو تدوين الأنساق ذاتها في سياقات القرن التاسع عشر، وضمن ما يشبه هستيريا جماعية متّفق عليها ومسلّم بها!
وعلى صعيد أعرض نطاقاً وأوسع حشوداً وأخطر وظيفة، أي السينما والدراما المتلفزة، ثمة المزيج ذاته من هوس التشويق وهستيريا الفزع، وكلاهما لا تغيب عنه مظاهر النوستالجيا. نقرأ، في مثال أوّل، أنّ الممثل والمخرج الأمريكي سلفستر ستالون يعتزم اختتام قرابة خمسة عقود من حياته الفنية، وعمر يناهز اليوم 75 سنة، بتحقيق حلم حياته: أداء دور البطولة في فيلم ملحمي يروي سيرة بو، ولعلّه يتخذ لاحقاً مساراً مسلسلاً على غرار ما فعل ستالون في أفلام روكي ورامبو! نجم سينمائي آخر هو الإنكليزي هاري ميللنغ، الذي جسّد شخصية ددلي درسي في سلسلة أفلام هاري بوتر، سوف يلعب دور بو الشاب في فيلم الجريمة والغموض «العين الزرقاء الشاحبة» الذي سيخرجه سكوت كوبر لصالح نتفلكس؛ ويروي لقاء المحقق في جريمة وقعت داخل كلية وست بوينت العسكرية بطالب ضابط لامع يدعى إدغار ألن بو، يساعده على كشف خيوط الواقعة. وميللنغ نال لتوّه قسطاً وافراً من الشهرة بسبب أدواره حتى الساعة، لكنّ طموحه إلى طراز خاصّ من الشهرة يقترن على نحو محدد بشخصية بو، لن يُقارَن في نظره بأيّ مستوى من التألق ضمن إطار هاري بوتر.
ومن عجب أنّ بو هذا هو ذاته الرجل الذي وُجد، يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 1849، ملقى على الأرض أمام إحدى حانات مدينة بالتيمور، في حال من الإعياء الشديد والهذيان والتشوّش، يرتدي ثياباً ليست له؛ وفارق الحياة بعد أربعة أيام من الإقامة في المستشفى، من دون أن يستردّ وعيه بما يكفي لكي يوضح ملابسات ما وقع له. ولقد دُفن على عجل، ضمن مراسم مختصرة متقشفة، شارك فيها أقلّ من عشرة أشخاص، وغابت عنها حتى شاهدة القبر. خصمه الشخصي، الناقد الأدبي والمحرّر والناشر روفوس ولموت غريزولد، نشر مرثية حاقدة تماماً، بدأها بالقول إنّ إعلان وفاة بو «سوف تفاجئ الكثيرين، لكنها لن تُحزن إلا قلّة قليلة». وتصفية الحساب هذه لم تكتمل إلا مع إصدار غريزولد سيرة تناولت حياة بو، حفلت بالأكاذيب والأحقاد وتحاشت مناقشة أعمال بو أدبياً ونقدياً، وتقصدت تصويره تحت صفة كاتب «مفزع» و«شرير» و«متهتك» و«سكير».

استعادة‭ ‬بو‭ ‬اقترنت‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬بمناخات‭ ‬استثنائية‭ ‬تخصّ‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬الفردية‭ ‬ولكن‭ ‬ضمن‭ ‬تورّط‭ ‬المصير‭ ‬الفردي‭ ‬بنظائر‭ ‬كونية‭ ‬وجَمْعية؛‭ ‬يحدث‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬تتجاوز‭ ‬المجتمعات‭ ‬والثقافات‭ ‬والجغرافيات‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬صنعة‭ ‬مزيج‭ ‬بو‭ ‬الاستثنائي‭ ‬النادر‭: ‬هوس‭ ‬التشويق‭ ‬وهستيريا‭ ‬الفزع

إعادة الاعتبار إلى بو سوف تنتظر احتفالات الذكرى المئوية الثانية لولادته، سنة 2009، حيث اُعيد دفنه ضمن مراسم تليق بواحد من أهمّ كتّاب القرن التاسع عشر، وقام عدد من الممثلين مقام شخصيات عاصرت بو أو تقاطعت معه أو استلهمت أعماله، أمثال والت ويتمان وأرثر كونان دويل وألفريد هتشكوك؛ وكذلك الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الذي ترجم العديد من أعمال بو إلى الفرنسية، وتأثّر به، وامتدح شخصيته الرؤيوية. وأمّا أحد كبار الغائبين فقد كان الرسام الفرنسي إدوار مونيه، الذي وضع رسومات قصيدة بو الشهيرة «الغراب»، حين صدرت في باريس سنة 1875 بترجمة الشاعر الفرنسي ستيفان ملارميه.
وليس نافلاً القول بأنّ استعادة بو، في مختلف الميادين وأياً كان مضمار التوجّه إلى هذا الجمهور أو ذاك، اقترنت على الدوام بمناخات استثنائية تخصّ النفس البشرية الفردية لكن ضمن تورّط المصير الفردي بنظائر كونية وجَمْعية؛ يحدث كذلك أن تتجاوز المجتمعات والثقافات والجغرافيات التي شهدت صنعة مزيج بو الاستثنائي النادر: هوس التشويق وهستيريا الفزع.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل مطران (حفيد شاعر البلدين):

    أ
    لا شك أن الأخت الدكتورة آصال أبسال سوف تعالج المقال بعلمية وموضوعية كما عهدناها
    نحن، أنا والكثير من الأصدقاء والصديقات،نترقب ملاحظاتها اللافتة في هذه الزاوية الفريدة على أحر من جمر الغضى

    1. يقول فريد.م:

      يا أخ خليل، يقول المثل الشعبي:”لا تقول للمغني يغني”.

إشترك في قائمتنا البريدية