تسعى هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية، والتي نشرت في أصلها الفرنسي في مجلة «الأدب المقارن» إلى الوصل بين إدوارد سعيد الأكاديمي صاحب المشروع المتميز في الأدب المقارن، ومؤسس الدراسات ما بعد الكولونيالية، وإدوارد سعيد المثقف ومبدع الأسئلة الجسورة، الذي التزم بالدفاع عن قضايا المهمشين والمقهورين في العالم، وفي مقدمتها المسألة الفلسطينية. ويعتبر الكاتب إيف كلافارون الذي يعمل أستاذا في جامعة سانت اتيين جون موني، وجها أكاديميا بارزا في الدراسات ما بعد الكولونيالية في فرنسا. ومن أعماله البارزة «شعرية الرواية ما بعد الكولونيالية». «إدوارد سعيد وانتفاضة الثقافة». «الفرنكوفونية والما بعد كولونيالية والعولمة».
النص:
ولد إدوارد سعيد في القدس في الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1935لأبوين مسيحيين بروتستانتيين، وكانت مولدته سيدة يهودية في فلسطين، التي كانت حينها تحت الانتداب البريطاني. كان من الممكن أن يرى النور في مصر، لكن الخدمات الصحية التي كانت توفرها مستشفيات القدس كانت أفضل. يمكن أن نقرأ كل حياة سعيد في هذه المراوحة بين القدس والقاهرة، والوصاية الاستعمارية وفلسطين والصهيونية، وفي تقاطع الديانات التوحيدية الكبرى، ولقاء الشرق والغرب. يتمثل التقاسم في هويته المركبة. اسم شخصي إنكليزي منحته إياه أمه احتفاء بذكرى أمير ويلز ولقب عربي أصيل. ليس في مقدور سعيد الجزم بلغته الأولى؛ لأن أمه كانت تتحدث معه بالعربية والإنكليزية. ولأنه محصلة النظام التربوي الأنغلوساكسوني، فقد تابع دراساته كلها في المؤسسات التعليمية البريطانية، أو الأمريكية في القاهرة والقدس ثم في الولايات المتحدة، ابتداء من سن السادسة عشرة. عين بعد تخرجه من أرقى الجامعات الامريكية (هارفارد وبرينستون) عام 1967 أستاذا للأدب الإنكليزي والمقارن في جامعة كولومبيا التي كانت من أوائل الجامعات الأمريكية التي اعترفت بالأدب المقارن بوصفه مسلكا في البحث العلمي.
النظرية والنقد الأدبي
إذا كان سعيد قد أفلح في تجاوز الحد الفاصل بين السرية النسبية للأبحاث الأكاديمية، والاعتراف الجماهيري، فإن السبب يعزى دون ريب إلى التزامه داخل المدينة: لست قادرا في ما يهمني شخصيا أن أحيا حياة مؤجلة ومعلقة وغير ملتزمة. أفلح سعيد بوصله بين ممارسته الأدبية والسياسة في إبداع أعمال غزيرة ومنتقاة تتوزع بين النظرية والنقد الأدبي. كانت النصوص السياسية أول ما ترجمت إلى اللغة الفرنسية. ومنذ وفاة سعيد تسارعت وتيرة الترجمة بغية إتاحة غالبية أعمال سعيد للقراء الفرنكفونيين. كان تلقي سعيد محكوما بالتأثير السلبي والمضلل أحيانا للنجاح العالمي الساحق لكتاب «الاستشراق» الذي أصبح إنجيلا للدراسات ما بعد الكولونيالية. شهد الموضوع الذي كان في البداية اختصاصا للمستشرقين، توسعا ليصبح سؤالًا رحبا يتعلق بما هو جيو سياسي ويرصد علاقات الهيمنة في العالم المعاصر، والطريقة التي يجري وفقها تمثيل الثقافات الموجودة خارج السياق الغربي، التي يكون فيها «الآخر» تابعا. ألفى سعيد نفسه وقد أدرج رسميا في الثلاثي ما بعد الكولونيالي (سعيد، غاياتري سبيفاك وهومي بهابها) الذي سيضطلع داخله بدور الأب والوريث الشرعي لميشيل فوكو، رغم تبنيه لموقف نقيض لأي ريادة، ومضاعفته لروابطه المعرفية (إدورنو، أورباخ، غرامشي وفيكو) وقد تماهى كلية ببحثه الثالث «الاستشراق».
لعل الوجه المؤسس والمؤثر بعمق في أعمال سعيد هو جوزيف كونراد، الذي كان موضوع أطروحته لنيل الدكتوراه «جوزيف كونراد وتخييل السيرة الذاتية». كان كونراد المنفي الذي يكتب بلغة مكتسبة يتصادى مع سعيد الذي تماهى مع هذا الكاتب، الذي اشتهر بغرابة أطواره وارتحاله الدائم، والذي أسهم رحيله عن وطنه الأصلي بولونيا في تشكيل هويته بوصفه كاتبا. وكما كان كونراد يراوح بين البولونية والفرنسية والإنكليزية فإن سعيد وجد نفسه أمام ثلاث لغات يرى نفسه قادرا على النطق والكتابة بها بسلاسة. يقوم سعيد بالاستناد إلى المراسلات والقصص بتحليل الصور التي شكلها عن نفسه وبالاحتكام إلى مقاربة تنهل من سارتر ومدرسة جنيف، أو من الفلسفتين الوجودية والفينومينولوجية. ولئن كان أدرك بالمناسبة عجرفة وتعالي المشاريع الكولونيالية والعلاقة التي تصل الثقافة العالمة بالسلطة، فإن كونراد لم يكن في مقدوره الانتقال إلى الجانب الآخر، أقصد ضحايا الإمبريالية الذين لا يسعه تخيلهم مستقلين. ولأنه يكتب من الداخل فإنه لا يستطيع الإمساك بالطبيعة المعقدة لهذا الظلام الغريب عن أوروبا.
يقترح إدوارد سعيد بفضل كتابه «المقصدية والمنهج» 1975 الذي يتقدم بوصفه تفكيرا فلسفيا مطبقا على التحليل الأدبي، وتأويل تاريخ الأدب دراسة نظرية للبدايات التي تشكل مقاربة أولية للموضوعات التي ستشهد تطورا مهما في أعمال سعيد، مثلما هو الشأن بالنسبة لصورة المثقف الجماهيري والعلماني. ويحدد سعيد في هذا السياق الأصل المقدس والأسطوري والبداية الدنيوية المنتجة من لدن الإنسان، والسلبية من جهة والفعل من جهة أخرى. وهو يقابل من جهة بين ثبات البداية عند هوسرل والتحول الذي يستلزم امتدادات عند ماركس وأورباخ. يفضل إدوارد سعيد البدايات العلمانية الداخلة في صراع مع العالم، وفي ارتباط بالبدايات المتعالية على التاريخ. كان هذا البحث النظري قد استقبل بشكل جيد في الأوساط الأكاديمية، لكن استقباله الجماهيري كان محدودا.
التيار المحافظ
كان سعيد على قناعة بأن الإنسان شأنه في ذلك شأن العمل الفني ينتمي إلى زمنه وإن كان يحتفظ في الآن نفسه بعلاقات تفاعل بأمكنة ومراحل زمنية أخرى. ويستدعي هذا التركيز مفهوما آخر يتمثل في الدنيوية، الذي يستدعي الحضورالمباشر العصي على الاختزال للواقع التجريبي، وهو المعادل للدايزن الهيدغري ويتضمن معنيين رئيسيين: الانتماء إلى العالم الدنيوي في مقابل الانسلاخ وفكرة المعرفة بفن العيش في العالم، يتم تبنيها وتتسم بعض الشيء بالسأم واللامبالاة. لعل النص المؤسس لهذا الموقف هو «العالم، النص والناقد» الذي نشر علم 1983 في مرحلة شهدت عودة التيار المحافظ في ظل حكم رونالد ريغان. وهو ما يفسر هذه النبرة الأقل حيادا مقارنة بتلك المعتمدة في نص «البدايات». يشكل هذا الكتاب مراجعة نقدية للمشهد الأكاديمي والإعلامي ويعيد الاعتبار لصورة الناقد والمثقف بشكل عام. ثمة بالنسبة لسعيد طريقتان لانتماء النص والناقد إلى العالم، وهما البنوة والتبني. يتعلق الأمر من جهة بسيرورة شبه وراثية، تستلزم سلالة ومشاعر إخلاص ووفاء حيال جماعة، ومن جهة أخرى بسيرورة دينامية للتماهي من خلال الثقافة، بالاستناد إلى قناعات مشتركة.
يقيم سعيد الوصل بين تطور الأدب المقارن وبروز وانبعاث الجغرافيا الإمبريالية ومعرفة العلماء الكبار وسلطة علم الخرائط الأوروبي؛ وهو ما أدى به إلى اعتبار الأدب المقارن مرتبطا بالإمبريالية. يضحى التصور المثالي للتاريخ الذي غذى المشروع المقارني للأدب الكوني مشوها بتأثير خريطة العالم في تلك الفترة، التي كانت في غالبيتها إمبريالية.
تتمثل مهمة المثقف في نظر سعيد في أن يقول الحقيقة للسلطة بيد أن دوره لا ينحصر في الرفض، وإنما يتحتم عليه التفكير في البدائل بغية الإسهام في التغيير الذي سيفرض حضوره.. ينبغي للمثقف والناقد أن يعيش في عصره وفي العالم، وبعيدا عن الكون الخالص للنظرية، لكن أي عالم يقصده؟ يبدو أن الحضور خارج مسقط الرأس أخذ في التحول إلى شرط أساس للإنسان المعاصر المنذور للشتات والاقتلاع العنيف من الجذور. يشكل المنفى رغم ذلك منبعا للإبداعية بفضل ثنائية وتعددية الرؤى التي يستلزمها. ويمكن لشرط المنفى أن يتقدم بوصفه دنيوية نقدية بشكل فعلي في الوقت الذي تتشكل فيه الشرعة الحداثية الغربية من أعمال أدبية لكتاب منفيين. يعتبر أورباخ الذي كتب عمله «ميميسيس» في إسطنبول نموذجا للمثقف المنفي، شأنه في ذلك شأن أدورنو وضحايا النازية. يشكل المنفى ذلك العالم الذي تحدث عنه إدوارد سعيد. وقد شهد الفلسطينيون مصيرا قل نظيره؛ إذ تعرضوا للنفي من لدن شعب عانى من الشتات. ويتحول المنفى الذي يشكل لقاحا فعالا ضد أي موقف شوفيني، أو وطني متطرف عند سعيد إلى موقف سلوكي ويتيح في الآن نفسه فرصة لبداية جديدة.
يعتبر بحث «البدايات» خطوة تعتمد المنهج المقارن لأنها تقيم الوصل بين كتاب وفلاسفة أوروبيين في الوقت نفسه الذي تتموقع فيه داخل التقليد النظري الأمريكي بتفكيرها الأبستمولوجي حول الشروط الحافة بالأدب والنقد. سرعان ما يعود سعيد إلى الثقافة والسياسة وينحى باللائمة على النقد الأدبي الأمريكي، بسبب انحصاره داخل نخبة أكاديمية مفرطة في تخصصها، ومبتعدة عن السياسة وتنسى أن وظيفتها تتمثل في النقد.
إذا كانت المدرسة الفرنسية قد فضلت في ما يهم الأدب المقارن الاهتمام بتأريخ الأدب ودراسة التأثيرات، رغم مخاطر وصمها بالعلموية، فإن المدرسة الأمريكية تفردت بادعاء الانفتاح على كل الثقافات، في محاولة منها للانعتاق من الوصاية الأوروبية والتشديد على تعدد المناهج بغاية اختبار القيم الإنسانية والجمالية للأدب. ويتحدد ما في مقدوره وضع سعيد في دائرة التقليد الأوروبي للأدب المقارن ـ وان تم استقدامه إلى أمريكا من لدن مهاجرين أوروبيين – في الدور المسند إلى الفيلولوجيا. كان الأدب المقارن حقلا معرفيا متأثرا بقوة بأعمال علماء الفيلولوجيا في اللغات الرومانية من عيار أورباخ، الذي كان سعيد يكن له إعجابا كبيرا خصوصا في ما له تعلق بكتابه «ميميسيس» الذي رصد فيه تاريخ الآداب الأوروبية منذ هوميروس إلى فيرجينيا وولف. ويبدو هذا التبني للتقليد الفيلولوجي مثيرًا للانتباه، لأنه كان هدفا لانتقاده في كتاب «الاستشراق».
دراسة اللغات
والحال أن دراسة النصوص في لغات كتابتها الأصلية تبدو الغاية الرئيسية للدرس المقارن. ولم يتوقف سعيد في كتابه «تغطية الإسلام» عن توجيه سهام نقده للخبراء الأمريكيين الذين يصدرون أحكاما على ثقافة منطقة الشرق الأوسط دون ان يفقهوا كلمة واحدة من اللغة العربية. وفي غياب تجذر للتقليد الفيلولوجي في الولايات المتحدة فإن دراسة اللغات تنزع نحو أن تصبح مجرد أداة بسيطة للعلوم الاجتماعية ولا تفصح عن أي اهتمام بالنصوص الأدبية.
يجلي كتاب «الاستشراق» وضعية سعيد في نقطة التقاء التقليدين الأوروبي والأمريكي في الأدب المقارن. وقد استثمر في هذا الكتاب متنا نصيا متعدد اللغات والأجناس الأدبية وغيرها، معتمدا في هذا السياق مقاربة تتعإلى على كل التخصصات الأكاديمية، وتستفيد من علم الصورة بدراستها للصور النمطية المكرورة والجاهزة عن الشرق والشرقيين. يستلهم عمله أيضا من النماذج النظرية الما بعد بنيوية ذات الأصل الفرنسي وتحديدا نظرية فوكو عن الخطاب والمعرفة السلطة. لا يمحض سعيد الأنساق النظرية إعجابه إلا في حدود ارتحالها وسفرها بين المؤلفين والعصور، كما تشهد على ذلك مقالاته الخاصة بالتحولات التي عرفتها نظرية لوكاتش. يقوم سعيد بنقل مناهج الدرس المقارن إلى حقل الدراسات الثقافية، في الوقت الذي يجعل فيه الحدود مفتوحة بين الدراسات الأدبية والدراسات الثقافية. وهو ينتهك على الصعيد الأكاديمي الحدود الفاصلة بين التخصصات والمباحث المعرفية؛ وهو ما يقوده إلى حقول معرفية أبعد ما تكون عن مجال تخصصه، ويجعله عرضة لاتهام منتقديه له بالانتقائية وهي التهمة التي توصل غالبا بصورة الباحث في الأدب المقارن وينظر إليها بوصفها خطيئة كبيرة. سوف يشتغل سعيد بهذا الصنيع على «أوبرا عايدة» لفيردي بوصفها تمثيلا لحضور الاستشراق في الموسيقى. وقد بلور بالاستناد إلى أعمال أدورنو نموذجا نظريا تكون فيه الموسيقى بمثابة نظرية أوسع للعلاقات الثقافية وتشتغل فيها وفق حافز الخلفية أو الإطار وبكيفية حوارية وجدلية.
يقيم سعيد الوصل بين تطور الأدب المقارن وبروز وانبعاث الجغرافيا الإمبريالية ومعرفة العلماء الكبار وسلطة علم الخرائط الأوروبي؛ وهو ما أدى به إلى اعتبار الأدب المقارن مرتبطا بالإمبريالية. يضحى التصور المثالي للتاريخ الذي غذى المشروع المقارني للأدب الكوني مشوها بتأثير خريطة العالم في تلك الفترة، التي كانت في غالبيتها إمبريالية. وبالنسبة لإدوارد سعيد، فإن الأدب المقارن من منظور أوروبي يقدم تماثلات مع النسق الإمبريالي؛ إذ يقوم بإخضاع وتوجيه الهوامش غير الأوروبية.
كاتب ومترجم مغربي