في مثل هذه الأيام، ولكن قبل 48 سنة، كان إدوارد سعيد (1935ـ2003) قد نشر أولى مراجعاته النقدية، في مجلة التي ستشهد تعاوناً وثيقاً ومديداً معه؛ سوف يمتدّ حتى الأشهر القليلة التي سبقت وفاته، وسيشمل الكتابة في موضوعات نظرية الأدب والنقد الثقافي والموسيقى والسجالات الفكرية، إلى جانب المقالات السياسية والقضية الفلسطينية بصفة خاصة. كانت تلك المراجعة الأولى بعنوان «تجسيد الموضوعات»، وتناولت كتاب ج. هيليس ميللر «شعراء الواقع: ستة كتّاب من القرن العشرين»، حيث عاد سعيد مجدداً إلى جوزيف كونراد (بعد أطروحة دكتوراه، في هارفارد، سنة 1964). المراجعة شدّدت على وصول التراث الرومانتيكي للقرن التاسع عشر إلى طريق مسدود، مثّلته على نحو أفضل حال تضخّم الأنا العزلاء في عالم ينحلّ ويندثر؛ كما تناولت فضل كونراد: «الذي يصوّر عبثيات الخُلُق الرومانتيكي، متخذاً بذلك هيئة عدميّ يبيّن تعثّر الثنائية الرومانتيكية، بسبب أنّ الإله الذي كان يغذيها لم يختفِ فحسب، لكنه مات على جميع الأصعدة العملية».
السنة ذاتها، 1966، سوف تشهد طباعة أطروحة الدكتوراه، تحت عنوان جديد هو «جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية»، وفيه اعتمد سعيد على منجزات «مدرسة جنيف» في النقد الفينومينولوجي (ولكنه، ليس ضمن انجذاب إلى الفلسفة الوجودية، توقف عند إسهامات جان ـ بول سارتر أكثر من إبستمولوجيا إدموند هسرل أو مارتن هايدغر أو رومان إنغاردن)؛ وطوّع ثنائية شوبنهاور حول عالم مغترب أونطولوجياً عن الوكالة الإنسانية من جهة، و»الفكرة» الزائفة المخلوقة عن العالم إياه في الذهن الإنساني من جهة ثانية؛ واستخدم بعض خلاصات وليام جيمس وسيغموند فرويد وكارل يونغ (حول عبارة «أوالية الوجود بأكملها» التي ظلّت تسكن تفكير كونراد)؛ وسخّر تطبيقات جورج لوكاش ولوسيان غولدمان، (حول ديناميات الوعي الطبقي).
وفي الآن ذاته، وسط هذه المنهجية المتراكبة، لم يغفل سعيد تطويع مناهج هارفارد وتقاليدها الأكاديمية العريقة، ما وسعته الحيلة بالطبع! ومن خلال التدقيق المعمّق في رسائل كونراد، رسم سعيد الخطوط الكبرى لمزاج الروائي البولندي الأصل، لكي يكشف كيفية توليدها للأطر الرئيسية في رواياته؛ ولكي يبرهن على نحو مدهش أن كونراد انشغل دائماً بالتوتّر بين وعيه لنفسه، من جهة أولى؛ وإحساسه بالشروط المتصارعة التي تكيّف وجوده كـ «آخر» فردي ولغوي في التراث المكتوب بالإنكليزية، من جهة ثانية.
والكتاب ينقسم إلى جزئين، يتناول الأوّل رسائل كونراد، والثاني يرصد توازيات رواياته القصيرة مع الديناميات الداخلية التي تجلّت في رسائله؛ وعلى امتداد أحد عشر فصلاً و (219 صفحة، في طبعة الكتاب الأولى)، ساجل سعيد بأنّ كونراد مال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلة، وأنه رأى حياته الشخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصيرة، لأنه «هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً، بحاراً وكاتباً». وبمعزل عن الإغواء الشخصي الذي انطوى عليه هذا التفصيل في حياة كونراد، بالنسبة إلى سعيد ذي الشخوص المتعددة بدوره؛ كان ثمة ذلك التحدّي الآخر الذي أغوى الناقد والأكاديمي الشابّ: أن ينشقّ عن المألوف والعرف السائد، فلا يغرق في دراسة روايات كونراد الطويلة، بل أن يتوجه إلى تلك القصيرة تحديداً، في إجراء أوّل؛ وأن يتفحصها من زوايا السيرة الذاتية، ومعطيات الرسائل والحوادث الشخصية، في إجراء ثانٍ.
جدير بالذكر، في ختام هذه الوقفة عند سعيد الأوّل والشابّ (وهو موضوع أعود إليه بتفصيل أوسع، في دراسة تنشرها فصلية «بدايات»)، أنّ مفهوم الإمبريالية سوف يدخل مبكراً إلى عدّة سعيد النقدية، ليس بصدد شخصية مارلو في «قلب الظلام»، ومبدأ القوّة والأنانية والتمايز الفرداني كما تُلتمس عند كونراد في أصولها الشوبنهاورية، فحسب؛ بل كذلك في توسيع للمفهوم، سياسي وثقافي، سوف يرافق سعيد على الدوام: «مشكلة الأنانية غير المنضبطة والكفاحية كما فهمها كونراد، كانت تكمن في أنها تصبح إمبريالية أفكار يسهل أن تحوّل ذاتها إلى إمبريالية الأمم (…) وبذلك فإنه يتوجب على الكاتب ذي الفردانية القوية أن يفتش داخل نفسه عن صورة ملائمة وصحيحة تعبّر أفضل تعبير عن فكرة الحقيقة كما يراها: ذلك لأنه، رغم مخاطر الإمبريالية، كانت السيرورة ضرورية للتلاؤم مع الظلمة الداخلية والعالم الخارجي».
وبالطبع، لم يكن مألوفاً، في أوساط النقد الكونرادي، أن يتجاسر ناقد وأكاديمي شابّ فيتكيء على شوبنهاور، لكي يساجل بأنّ كونراد أدرك الركائز الأخلاقية، ثمّ الإبستمولوجية، التي تجعل احتكار الإمبريالية الأوروبية للحقيقة أمراً يصعب الدفاع عنه. منذ 48 سنة، كما في أيامنا هذه!
صبحي حديدي
شكرا أستاذ صبحي. المقال مليء بالمفاهيم المكثفة والإحالة إلى نظريات ومنظرين بشكل يجعل القراءة صعبة ولاسيما في صحيفة يومية.