إدوارد سعيد بين استشراق الماضي واستشراق الحاضر

منار يزبك
حجم الخط
0

■ من موقع إدوارد سعيد الفكري، الذي ليس بحاجةٍ للتذكير بأهميّته المعرفية والنقدية في ميادين الفكر الإنساني، حيث خاض فيه المعارك من أجل الحرية والعدالة والفكر، تبرز الموسوعة المعرفية، من مؤلفات ومحاضرات وما تبعها من دراساتٍ وانتقاداتٍ ونشوء تياراتٍ نقديةٍ حديثةٍ، كان لها الأثر الأكبر بإحداث اهتزازاتٍ في العلوم الإنسانية والدراسات الاستشراقية، الّتي لم تَعد ملكه، بل أصبحت ملكاً للإنسانية، حيث خطّ فيها مسار التزامه الذي خاض فيه الكثير من النقّاد والدارسين، على اختلاف مواقفهم، ليأتي ويصرّح بوضوحٍ التزامه قضية فلسطين، وقضية الإنسان: «لم أقدرأن أعيش حياةً غير ملتزمةٍ أو متذبذبةٍ، لم أتردد في إعلان التزامي بقضيةٍ مكروهةٍ إلى حدّ التطرف».


إنّ تحديد مكانة فكر إدوارد سعيد وإرثه المعرفي بالنسبة للواقع الثقافي، الذي نعيشه اليوم بكل إيجابيّاته وسلبيّاته، يشكّل الهدف العملي لنقد الواقع، لأنه يسمح بالكشف عن ثغراته وعيوبه وإعطائه دماً جديداً بغية تحديثه، بفكرٍ نهضويّ جديرٍ باللحظات الراهنة للواقع العربي بعد حدوث متغيرات فيه، برزت على الساحات السياسية، التي بدورها أثّرت على الواقع الثقافي بكل أطيافه، فهل فكر سعيد الجدلي جدير بالمساهمة في نهضة تنويرية على المستوى الثقافي؟ للإجابة على هذا علينا أن نميز بين إطارين من أطر الفعالية المعرفية لفكره، وهما يتوافقان مع لحظتين من لحظات تاريخ الفكر، أولا: إطار نهضة الغرب، وثانياً: إطار استغراب سعيد من خلال كتابه «الاستشراق» بالنسبة لإطار نهضة الغرب، فقد عرفت النهضة الأوروبية حركتين فكريتين، هما النزعة الإنسانيّة والعلوم الطبيعيّة كبديلين للنظرة اللاهوتيّة في فهم العالم والإنسان، أي اكتشاف العالم واكتشاف الإنسان الذي تمخّضت عنه حركة تنويرية تالية للفكر والعلوم والمعارف والتطورات الاجتماعية، وتلاها ثورات في العادات والقيم، كل ذلك تشابك وتكامل ليؤسس لهويةٍ حضاريةٍ جديدةٍ، تأثّربها سعيد وأثّرت في فكره ونتاجه المعرفي لاحقاً، أمّا إطار استغراب سعيد، فقد استطاع إنتاج نسقٍ معرفيّ وأفقٍ أرحب وأكثر شموليةً لعلاقة الغرب والشرق في كتابه «الاستشراق» مبتكراً حالة مزجٍ بينهما، من معايشته للتباين الواضح في نظرة الأقطارالأوروبية للاستشراق أوله: ارتباط الاستشراق بالمصالح الاستعمارية لبعض تلك الأقطار.

استطاع سعيد إنتاج نسقٍ معرفيّ وأفقٍ أرحب وأكثر شموليةً لعلاقة الغرب والشرق في كتابه «الاستشراق» مبتكراً حالة مزجٍ بينهما، من معايشته للتباين الواضح في نظرة الأقطارالأوروبية للاستشراق

وقد ازدهر تزامناً مع التوسع الإمبريالي الغربي، وثانيه: السعي لإبراز النسق المعرفي للثقافة العربية، بالبحث في ثقافة الشرق وتاريخه، فكان له وظيفة إنتاج معرفي وعلمي، أفضت تلك المعايشة لاستشراق ضدي عند سعيد، وليس المقام هنا التعريف بمحتوى كتابه، الذي كتب عنه الكثير، بقدر استخلاص ماهيّة نصّه، وهي العناية بدراسة الغرب وحضارته وتاريخه، التي تمثّل الآخر بالنسبة للثقافة العربيّة، أي «الاستغراب»، فما قدّمه سعيد في كتابه لم يكن موجّهاً إلى الغرب بقدر ما كان موجّهاً للشرق، فجاء استغراباً داخل الاستشراق، ناقش فيه تفجّر الثقافة الغربية بكل أنماطها، بتفكيكه الغرب، وربط أسباب حضارته ومعارفه بمركزيّة الإنسان القادرعلى تجاوز الأزمات منذ عصر النهضة حتى هذا اليوم، فالغرب ليس قوّة وسلطة كما يسوّق له فقط، بل هو ثورة فكريّة أبدعت وأنتجت عالماً من التقنيات والتكنولوجيا والحريات لشعوبها، وحقيقةً بات معروفاً للقاصي والداني، أنّ هناك إشكالية في المعايير والأسس التي قدّمها الغرب لتطوّره ونهضته من جهة، والمقياس الذي يرى به الآخر «الشرق»من جهة أخرى، إشكالية لم تؤثر في الفكر والإبداع عنده، بل كانت المنهج الذي رسمه لعلاقته بالآخر، بالتزامن مع المضي في نهضته، بينما تبقى ذوات بعض المبدعين والمثقفين في واقعنا المعاصر قابعةً في فراغ سياسي وشتات فكري مأزومة الانتماء والهوية، بسبب المتغيرات التي أُحدثت في مجتمعاتنا بشكل مباشر وغير مباشر، ومنها الانتفاضات التي هزّتها في سعيّها لإحداث نظام سياسي حرّ أولاً، وثورة معرفية تالياً، والتي اصطلح الغرب على تسميّتها «بالربيع العربي»، وصرنا نردّدها بعده ببّــغائياً، فلم تستطع معظم تلك الذوات امتلاك نتائج الثورة الفكرية الغربية لتؤثّر في نهضة مجتمعاتها، انطلاقاً من كون التاريخ الحضاري البشري مرتبط ومترابط بالمطلق، بل تحوّلت إلى عقولٍ أسيرة الإملاءات والإنشاءات الجاهزة المترجمة والواردات المعرفية، التي تسعى جميعها إلى تنميط أفكارنا، بذهنية تخدم استمرارية سيطرتها.

إنّ تكراراً أدبياً يوّلد نفسه مع كل نسائم تغيير «لطيفة» في واقعنا، لا جديد فيها سوى المزيد من الانغلاق والتخبط والدوران، ضمن أطر التراث والدين

لقد أضاء سعيد هذا الجانب في كتابه عندما أوضح ارتباط الأطر الأيديولوجية وأنساقها المعرفية بتطور الإمبريالية، التي تشكّلت لتهيمن وتسيطر، ولكنها تنكّرت بتلك الأطر، فشرّعنت وجودها وسعيها لرسم الحدود والخطوط العامة للعالم الجديد، الذي يضمن توسعها الجيوسياسي والاقتصادي، فكان فكره حاضراً في استغراب الواقع الذي نعيشه الآن، في دفع الشرق إلى وعي ذاته ليستطيع وعي الآخر «الغرب» من أجل النهوض، ذهنية الشرق لم تستطع أن تواكب المتغيرات في العالم، وإن حدثت تكون قاصرة، فلا يوجد في المنظور القريب إبداع فكري حقيقي لمفكّر تنويري. إنّ أيّ تطوّرٍ فكريّ ومعرفيّ يتماهى مع روح البحث والتجدد الحرّ، لكنه غالباً ما يتصادم في مجتمعاتنا مع العقل العقائدي على اختلاف أنواعه «الديني والحزبي وغير ذلك»، ولا ننسى التصادم مع الأنظمة الاستبدادية وأجهزتها السلطوية القائمة، لكنّ سعيد استطاع اشتقاق نفسه من ثقافات متعددة كانت تموضعه في كل مرحلة من مراحل التكوين المعرفي، موضع الناقد والباحث والمفكر في النظريات النقدية والسياسية، وحتى الموسيقية والأنثروبولوجية، اشتقاقات تفرض علينا، ليس دراسة الاتجاهات النقدية في الأكاديميات وتحليل خطاب ما بعد الاستعمار، وإنّما بالبحث والتجدد الحرّ والتقصي في التكوين المعرفي وتطييعه، لينسجم مع المراحل الدقيقة للانتفاضات، وما نتج عنها من آثارفي مجتمعاتنا. إنّ فكراً مثل فكر إدوارد سعيد، الذي هو جزءٌ من فكرٍ إنسانيّ يحثنا على تمثّله، وإعادة إنتاجه وتدوير مفاهيمه ونظريّاته، لِتوَائم واقعنا، وتساهم في حلّ عقدة الانكفاء والجمود الثقافي، الذي يدور ضمن حلقة ثابتة غير منتجة ومبدعة، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، ونعيد عيشه، فلا نتطوّر، بل نتكرر بمسمّيات مختلفة، فبعد أن كان أدب القضية الفلسطينية رمزاً لأدب المقاومة، سَيُقال: أدب «الربيع العربي»، أو أدب الانتفاضات العربية أو أدب الأزمة السوريّة وغيرها. ومع أزمة اللجوء سيولد «أدب اللجوء» بدلاً من الأدب المهجري على اختلاف الزمان وتشابه الظروف. إنّ تكراراً أدبياً يوّلد نفسه مع كل نسائم تغيير «لطيفة» في واقعنا، لا جديد فيها سوى المزيد من الانغلاق والتخبط والدوران، ضمن أطر التراث والدين.

إدوارد سعيد: إنّ أحد الأشياء الّتي أحاول القيام بها بطريقة واضحة وصريحة قولي: علينا أن نحطّم تلك الحلّة، علينا أن نحطّم الأغلال التي اخترعتها عقولنا، وأن نتطلّع إلى بقية العالم، وأن نتعامل معه معاملة الند للند.

يقول إدوارد سعيد في أحد حواراته «كيه جي إن يو»، بولدر، كولورادو، 8 فبراير/شباط 1999: «إنّ أحد الأشياء الّتي أحاول القيام بها بطريقة واضحة وصريحة قولي: علينا أن نحطّم تلك الحلّة، علينا أن نحطّم الأغلال التي اخترعتها عقولنا، وأن نتطلّع إلى بقية العالم، وأن نتعامل معه معاملة الند للند. هناك الكثير من الإحساس بالاضطهاد، والكثير من الأفكار العميقة، إنّه ليس مجرد استبداد الحكّام، وليس مجرد مؤامرات الإمبريالية، وليس مجرد أنظمة فاسدة، إنّه افتقاد مثقفينا إلى المدنيّة، الطريقة الوحيدة لتغيير حالة، هو أن يقوم المرء بالقراءة والسؤال والمواجهة، وتحطيم أسوار السجن القابع فيه».
فلا المراثي ولا استحضار الذكريات على مختلف مواقع التواصل المعرفي والاجتماعي، ستؤسس لنهضةٍ وثورةٍ فكريةٍ في ذكرى وفاة إدوارد سعيد، فسعيد المفكرالجدلي المتفرد بالعقل المعرفي ليس بحاجة لتلك المراثي، ولو كان حاضراً لأنِفَها. إنّ ربطاً للفكر بالممارسة يجعل العقل التنويري لدى سعيد ونتاجه الثقافي يساهمان في إحداث تغيير معرفي، فمعظم الشارحين والدارسين والمنتقدين والمتضامنين، ولهم شديد الاحترام لتقديمهم، لم يصقلوا نتاج سعيد ليكون مرشداً في مختلف خطواتنا النهضوية، إلا أنّ اختلافاً بين مَن رسمَ هالة من القداسة على نتاجه، وخصوصاً بعد كتابه «الاستشراق»، وهم كثر، ونذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الناقد صبحي حديدي في أغلب مؤلفاته، وبين من انكبّ بنقده فكرياً وبمعنى أدق ماركسياً، ومنهم، مهدي عامل وإعجاز أحمد، أفضى لحصيلة خصبة من المعارف والدراسات والمؤلفات، خصوبتها بقيت بين حبر الحروف والكلمات، لم تنجز المهمة القصدية التي أرادها سعيد لنصه، لقد رسم سعيد الخطوط الأوليّة لصورةٍ معرفيةٍ جديدة في النقد والأدب، تساهم في عملية التنوير المأمولة، صاغها بدقةٍ وحرفيةٍ عالية، لذلك أقول: إنّ التعامل مع أي نسقٍ معرفيّ طهريّاً سيكون تصفيةً لكل فكرٍ ثوريّ مقاومٍ للامبريالية الغربية، وسيضع العصي في عجلات التطور، لأنّ تعامله سيكون مثالياً، وهذا لم يعد مجدياً مع اللحظات الراهنة لواقعنا، الذي يعيش صراعاً معرفياً وتجاذباً في الانتماء والهوية، إنّ تموضعنا أسيري ذهنيةٍ موروثةٍ، أفضت بنا إلى استسلام اجتماعي وسياسي وثقافي، ونقدنا لمسار نتاجنا المعرفي سيكون المؤشر الأول لنهضتنا، خصوصاً بعد الحالة التي وصل إليها ذلك النتاج من تسطّحٍ فكريّ، وإلاّ سنظل خائفين قابعين في مدار نظرية التابع والمتبوع، وستظلّ تلك الروح السعيدية هائمةً تبحث عمّن يقدّمها وكنهها بطريقةٍ تليق بها وبالشرق الذي ولدت من تناقضات رحْمِه.

٭ كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية