مثّلت الإمبريالية والاستعمار، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، العناصر الرئيسية التي شكلت خريطة العالم والتاريخ البشري. وجذور الصهيونية السياسية، التي تحدث عنها ثيودور هرتزل في كتابه «الدولة اليهودية»، تنبع من هذه الإمبريالية والاستعمار. ولفهم الصهيونية يجب أولا أن نفهم الإمبريالية، التي اكتسبت القوة في القرن التاسع عشر وفكرة العنصرية التي ظهرت معها. لذلك، يجب البحث عن أسس استعمار فلسطين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر فصاعدا في تاريخ الثقافة الفكرية الأوروبية.
يتناول إدوارد سعيد، أحد أبرز مفكري القرن العشرين، في مقال له بعنوان «الجذور الفكرية للإمبريالية والصهيونية»، أسباب صمت المثقفين الغربيين عن الإبادة الجماعية التي ترتكبها الولايات المتحدة والغرب والصهاينة، يقول سعيد: «أريد أن أشرح الجذور الفكرية للإمبريالية والصهيونية، لأن كليهما لا يزال يؤثر علينا، باعتبارهما إرثا من الفكر السياسي والثقافي في القرن التاسع عشر. ومن دون فهم كامل لهذا الإرث، يمكننا أن نخطئ في الاعتقاد بأن العنصرية ظاهرة جديدة أو مؤقتة. سوف أوضح كيف تستمد الصهيونية والإمبريالية الإلهام من بعضهما بعضا، وكيف أن كليهما يتربعان في قلب الثقافة السياسية والفكرية للغرب».
الحجج التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الإمبريالية والغربية في احتلال البلدان، استخدمت أيضا من قبل الصهيونية لذبح الشعب الفلسطيني واحتلال أراضيه
ويشير سعيد إلى أن العلوم الاجتماعية تستخدم كأداة للإمبريالية، قائلا: «العلوم الاجتماعية هي الذراع الكشفية للإمبريالية. ومن الصعب فهم الإمبريالية والعنصرية المنتشرة من أوروبا إلى العالم، من دون فهم نظام الفكر الغربي». ويؤكد سعيد أن الإمبريالية هي فلسفة سياسية تقوم على التوسع في الأرض وشرعنته، ويلفت الانتباه إلى المكونات الفلسفية والاقتصادية والأرضية للإمبريالية العلمية الحديثة. يذكر إدوارد سعيد أن التمييز الذي أحدثته العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر خدم المستعمرين، وبينما قسمت هذه العلوم المجتمعات إلى متحضرة ومتخلفة، فإنها أعطت للإمبريالية الحق في تدمير المجتمعات غير المتحضرة. ويقول سعيد إن الاستعمار الأوروبي الحديث، واغتصاب حقوق الأرض للمجتمعات في أمريكا وافريقيا وآسيا، ينبع من تعاليم العلوم الاجتماعية. وينتقد سعيد العلاقة بين العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر والإمبريالية بقوله: «تم تقسيم الناس إلى منتجين بيض متقدمين ومستهلكين سود بمستوى متدنٍ، وتم تقسيم الأراضي إلى مناطق متحضرة وخالية ليتم الاستيلاء عليها بدعوى حقوق الأوروبيين البيض». ويذكر سعيد أن الأفكار التي تتحدث عن ضرورة حكم جميع الأعراق غير الغربية، أو تدميرها، أو انتزاع أراضيها هي أفكار تتشكل تحت اسم العلم والثقافة والعقلانية العالية. ويؤكد على شيوع هذه الأفكار بقوله: «حتى كارل ماركس، عندما كتب عن الهند والاستعمار البريطاني، كان يعتقد أن الاستعمار البريطاني سيكون مفيدا للهنود وينقذهم من التخلف الشرقي»، ويقول سعيد أيضا: «كذلك زار الشاعر الفرنسي لامارتين فلسطين وسوريا عام 1833، وتعرف على آلاف المدن والأشخاص، ومع ذلك استطاع أن يتحدث عن أنه رأى أراضي بلا سكان، ومدنا بلا حدود، ومجتمعات بلا واقع». ويرى إدوارد سعيد أن التراكم الفكري للغرب يقف وراء ممارسات الصهيونية المتأثرة بعنصرية الغرب، في ما يتعلق بتجاهل الشعب الفلسطيني واحتلال أراضيه. ويؤكد أن هذا الفكر هو السبب الذي يجعل قادة الاحتلال الإسرائيلي يصورون الفلسطينيين على أنهم حيوانات ومجتمع غير متحضر. ويلفت سعيد إلى ضرورة تجديد العلوم الاجتماعية من أجل حل القضية الفلسطينية، وينتقد بشدة صمت المثقفين الغربيين حيال الإبادة الجماعية.
في المحصلة؛ يمكن القول إن الحجج التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الإمبريالية والغربية الأخرى أثناء ذبح الشعوب واحتلال البلدان في أمريكا وآسيا وافريقيا والشرق الأوسط، استخدمت أيضا من قبل الصهيونية لذبح الشعب الفلسطيني واحتلال أراضيه. وعلى مدى 200 عام، قدمت العلوم الاجتماعية الدعم الفكري للقوى الإمبريالية والاستعمارية والصهيونية، وهو ما أدى إلى حدوث مذابح وحشية في جميع أنحاء العالم. وبسبب هذه العلوم الاجتماعية، أصبحت المجتمعات تخجل من ثقافتها ودينها وعرقها ومنطقتها وتاريخها. وكما قال المفكر الفرنسي جان بودريار: «الحداثة هي خجل الإنسان من أصالته».
كاتب تركي