ما بعد الاستعمار ومتطلّباته
جاءت الدراسات ما بعد الكولونيالية في سياق صعود تيار ما بعد الحداثة سنوات السبعينيات، الذي سعى إلى القطع مع النظريات الشكلانية، التي اهتمت بنصّية النص، وأقصت أيّ مرجع خارجه، وفي طليعتها البنيوية بطابعها العلموي المستقوي بالمركز الغربي، على حساب الآخر وثقافته المختلفة التي تصمها بكل ضروب القدح والدونية. وقد عملت هذه الدراسات، بلا هوادة، على تفكيك أيديولوجيا الغرب الاستعماري وتقويض ألاعيب مركزيته ومقولاته الاستعلائية، بموازاة مع فضحها للسرديات الكبرى التي كان الفكر الغربي يعلي من قدرها ويريد أن يجعل منها مركز كل خطاب، حتى ما يقع خارج دائرته الحضارية.
وفي المقابل، تريد الدراسات نفسها أن تنحاز إلى جانب الثقافات التي تأثرت بالعملية الاستعمارية وعدوان الهيمنة الإمبريالية، الذي لم تنقطع آثاره (علم، تكنولوجيا، تعليم، لغة…) إلى اليوم في أبناء المستعمرات القديمة، وما تزال آداب «ما بعد الاستعمار» تسرد تجارب هذا العدوان بثوبيه المادي والرمزي، وتقاومه من خلال ابتداع سرديّات مضادة في أشكال فنية متنوعة (سرد، مسرح، تشكيل، موسيقى، سينما..). وقد طرح مثل هذا الخطاب ما بعد الكولونيالي جملةً من الإشكالات الأساسية التي تستدعيها العلاقة المتوترة بين الأنا/ الغرب والآخر الأجنبي، وتفجرت أساساً مع نزعة الاستشراق وطروحاته المغرضة، سواء داخل علاقة الغرب بالشرق، أو علاقة المركز بالهامش، أو علاقة المستعمِر بالشعوب المستعمَرة المغلوبة على أمرها من جهة أخرى. من هنا، ينهج هذا الخطاب مقاربة تفكيكية لنقيضه الخطاب الاستعماري بأبعادها السياسية والتاريخية والأيديولوجية، من أجل استكشاف تمثيلاته وأنساقه الثقافية المضمرة التي تتحكم في صناعته وتعمل على تسويغ ما يقوم به.
وبديلاً عن قيم الهيمنة والتسلط والاستعلاء التي أشاعتها المركزية الغربية، دافع مفكرو الدراسات ما بعد الكولونيالية عن قيم التعددية والتعايش والانفتاح الثقافي، متأثرين بأفكار كارل ماركس وأنطونيو غرامشي وفرانز فانون وميشيل فوكو وجاك دريدا، وكانوا في مجملهم منفيين نزحوا من آسيا وافريقيا، وظلّوا يعيشون تجربة اللامكان والتمزق الهوياتي، مثل إدوارد سعيد، وهومي بابا، وغياتاري سبيفاك وعبد الكبير الخطيبي وغيرهم. بل توسعت حركة هذه الدراسات ليشمل تأثيرها كتّاباً ومفكرين داخل المركز الغربي نهضوا بدورهم لنقد خطابات «الأيديولوجيا البيضاء».
وإذا كانت الدراسات قد نشأت وترعرعت داخل الفضاء الأنكلوساكسوني، إلا أن الثقافة الفرنسية – كما يقول إدريس الخضراوي- استقبلتها بشكل متأخر، قبل أن تنفتح عليها مع بداية الألفية الثالثة في وضع يلفه الالتباس، وكان لنصوصها ذات الطابع الانعطافي دور مؤثر في مفكّرين فرنسيين من طراز إيف كلافارون صاحب «الانتفاضة الثقافية» (2013) وفريد بوشي «إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي» (2013). ويرى أنور المرتجي، أن خطاب ما بعد الكولونيالية، ولاسيما ما يتعلق بتمثيلات المثقف والسلطة، طرح إشكالات عدة على مستوى تلقيه وتمثله الأبستيمولوجي في الدرس النقدي العربي، الذي كان مترددا تجاهه وبطيئا للغاية؛ نتيجةً لارتباط النقاد العرب بالنقد البنيوي الشكلاني، واعتمادهم على الترجمة باللغة الفرنسية، لدرجة قد تصل عُراها وروابطها إلى حدود التبعية المقدسة للنظرية البنيوية النصية. وكان إدوارد سعيد قد دعا المثقفين العرب إلى القيام بمراجعة نقدية للقطع مع هذه التبعية، أو الاعتقاد «بقدسية» النظرية الغربية. وفي المقابل، كان بين المثقفين العرب من كانت إسهاماتهم الفردية تتقاطع مع منهجيات الدراسات ما بعد الكولونيالية وأساليب المقاومة الثقافية، مثل غسان كنفاني وعلي الوردي وجمال حمدان وعبد الكبير الخطيبي وعبد الله العروي والمهدي المنجرة.
بيد أن الترجمات العربية التي قدمت النقد ما بعد الكولونيالي وعرّفت به، لم تظهر إلا في عقد التسعينيات، سواء على صفحات مجلة «الكرمل» الفصلية التي كان يشرف عليها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أو من خلال ترجمة كتابات إدوارد سعيد، التي قام بها بعض النقاد الحداثيين العرب، من أمثال جابر عصفور ومحمد برادة ويمنى العيد وفخري صالح وصبحي حديدي وغيرهم ممن دعوا إلى تجديد الفكر النقدي والأدبي.
ما بين سعيد والخطيبي
شكلت وقائع المؤتمر الذي نظمه مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في تطوان- جامعة عبد المالك السعدي يومي 21 و22 مايو/ أيار 2024، تحت موضوع: «التأويليات والدراسات ما بعد الكولونيالية: إدوارد سعيد وعبد الكبير الخطيبي نموذجين» أرضيّةً مواتيةً لدى الأساتذة الباحثين المشاركين لمساءلة الخطاب ما بعد الاستعماري التفكيكي،
ولاسيما عبر عقد حوار منتج بين علمين من أعلام هذا الخطاب، هما: إدوارد سعيد وعبد الكبير الخطيبي، مع ما يتطلّبه ذلك من بحث التصورات والمرجعيات المعرفية التي يصدر عنها كل منهما، ورصد الفروق والاختلافات التي تفصل بينهما؛ باعتبار أن أسلوب التفكير الذي توسلا به في نقد النزعات الاستعمارية وتقويض مسلماتها ليس أسلوبا واحدا. ورصد الوشائج والتقاطعات التي تجمعهما وتسمح بتجسير المشترك بينهما فاستدعاء فكر الرجلين في سياقنا العربي ما زال ضرورة، بل استراتيجية ملحة، إذ يتعدى كونه ترفاً نظريّاً ينكب على إجراء مقارنات ناجزة، ليعني في الصميم تأمل تجربتين نقديّتين تكمن أهميّتُهما في انفتاحهما الحيوي على مرجعيات واجتهادات فكرية متعددة، وقابليتِهما الانخراط في مناظرة اجتهادات أخرى، ومحاورتها في سياقٍ «تمركزي غربي جديد» أخذ يرتدّ عن المكتسبات التي تحققت سلفاً، ولاسيما بعد «طوفان الأقصى» وما ترتب عليه من عمى أخلاقي وثقافي ومآسٍ ونتائج مدمرة، مادية ورمزية.
عودة الفيلولوجيا
التفت محمد الحيرش في مداخلته إلى المقاربة الفيلولوجية التي طورها إدوارد سعيد على امتداد تجربته الفكرية، التي لم تحظ بأيِّ اعتبار في التلقي العربي، ولاسيما عند الباحثين الذي اشتغلوا بالنقد الثقافي والدراسات ما بعد الكولونيالية: «فعلى الرغم من كون هذه التجربة تنطوي على عرض نقدي تضطلع فيه الفيلولوجيا بأهمية بالغة، فإنه جرى التغاضي عن ذلك، ولم يُلتفت إلى المكانة الحيوية التي تحتلها المعرفة الفيلولوجية في فكر إدوارد سعيد، ولا إلى البواعث التي دعته إلى التوسل بها». وبخلاف الفيلولوجيا الوضعانية ذات النزوع الكولونيالي، التي اعتمدتها المؤسسة الاستشراقية التقليدية في دراسة الثقافات الشرقية، وجعلت منها أداة معرفية لتسويغِ مركزية الحضارة الغربية والتمهيدِ للاستعمار، فقد ظل إدوارد سعيد يدافع منذ أواخر الستينيات عن نجاعة الفيلولوجيا وكفاءتها النقدية، حيث أفاد من مكاسبها التأويلية في العديد من قراءاته وتحليلاته؛ فهو كناقد ثقافي كان يتعامل مع الآثار الأدبية بما هي «سيرورات دنيوية» ممتدة في العالم ومتجذرة في زمنيته، وكان ينظر إلى الفيلولوجيا ليس مجرد استدعاء لتقنيات منهجية «جاهزة» تُعين على استقصاء لغةِ تلكم الآثار وتفسيرها، وإنما كانت بالنسبة إليه فعالية نقدية مكنته من قدرات تحليلية ومهارات تأويلية كفيلة بإغناء ممارسته النقدية وإضفاءِ قدر من الرصانة والموضوعية عليها.
حوارية ممكنة
أقام خالد أمين حوارا فكريا بين مفاهيم مرتحلة، على نحو يسلط الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين «الخطاب» و»القراءة الطباقية» لإدوارد سعيد، و»النقـد المزدوج» و»الانتماء المزدوج» لعبد الكبير الخطيبي، ويكشف كيف كانت هذه المفاهيم تُثري بعضها بعضا وتُتيح قراءة النصوص الأدبية وغيرها من منظورٍ أكثر شمولاً. فهذه المفاهيم تتحول بقدر ما تتكيف مع اختلاف السياقات الثقافية التي تُطبّق عليها، ما يسمح بفهم تعقيدات إنتاج المعرفة في عالم معولم. وعلى الرغم من اختلاف منظورهما عن العلاقة بين السلطة والمعرفة، إلا أن سعيد والخطيبي ظلا يساهمان في نقدها بشكل حاسم. فمن جهة أولى، يكشف سعيد من خلال الفحص المنهجي للأسس والافتراضات الأساسية الموجودة في المجالات الفنية والأكاديمية، عن العمليات التي يتم من خلالها بناء الشرق في أفق استشراقه، وتكريس دونيته عوض اختلافه. ومن جهة أخرى، يوسّع الخطيبي هذا النقد بالانفتاح على ترسانة من النظريات ما بعد البنيوية دونما إغفال التراث الفكري العربي الإسلامي، وكان اهتمامه ينصب في الأساس على تعقيدات الهوية الثقافية في إطار ما بعد الاستعمار. وفي السياق نفسه، يرصد مراد الخطيبي معالم وسمات ما بعد الكولونيالية من خلال مشروعيهما الفكريين، وهما مشروعان متميزان ومختلفان في رؤيتيهما ومرجعياتهما الفكرية والمنهجية؛ فالأول أسس تصوره بناء على موضوع الاستشراق، باعتباره خطابا من أجل نقد وفضح أهدافه الاستعمارية، وتمركز مشروع الثاني حول إشكالية الهوية، من خلال تحرير الفكر العربي من إسار النزعة الاستعمارية، مقترحا مفهوم النقد المزدوج، من أجل نقد الأنا والآخر وتشييد فكر ثالث لا هو مقدس للذات ولا هو مرتمٍ في أحضان الآخر.
ومثل هذه التقاطعات بين المشروعين، هو ما عنى به عبد العلي معزوز، فهما ـ في نظره – متباعدان أشد ما يكون التباعد من حيث انتماؤهما إلى سياقين ثقافيين مختلفين، ومتجاوران متضايفان أكثر ما يكون التجاور والتقارب، في الوقت نفسه: ينتمي المفكر الفلسطيني إلى ثقافة إنكليزية – أمريكية وينهج مقترب النقد الثقافي، والآخر مغربي ينتمي إلى ثقافة فرنسية وينهج مقترب النقد التفكيكي والجينيالوجي لدى عبد الكبير الخطيبي، على نحو يبين أصالتهما الفكرية ومسارهما المتفرد. لكن ترتسم وراء هذا التباعد وشائج القرابة الفكرية والألفة الفلسفية بينهما؛ بدليل أنهما عالجا الإشكاليات نفسها، وسعيا إلى هدم الأقانيم نفسها، خاصة تلك المتمثلة في نقد مركزية العقل والثقافة الغربيين، وتفكيك آليات الميتافيزيقا الغربية المتمثلة في الوحدة والتطابق، ونزع أقنعة الاستشراق. مثلما ائتلفا معاً في اقتفاء الأثر المُفَنِّد لأحادية الصوت، وفي تتبُّع المضمرات الأيديولوجية، وفي كشف البياضات الميتافزيقية.
ويوازن حمزة قناوي بين الإجراء التفكيكي والنسق الهرمينوطيقي في الرؤية للمثقف والثقافة عبر «النقد المزدوج» لعبد الكبير الخطيبي و«القراءة الطباقية» عند إدوارد سعيد. ثمة تقارب بينهما في المقصد والغرض، وثمة اختلاف في الكيفية وأسلوب التفكير؛ ما يجعل كل منهما يتمايز نوعاً وجوهراً في رؤيتهِ لـ«فكفكة الاستعمار» كما يسميه. فـ«النقد المزدوج» و«القراءة الطباقية» ثمرة الخلاصة المنهجية التي عمل بها، ورغم ما قد يوحي به الأمر من تشابه، إلا أن ثمة اختلافاً جوهرياً بشأنِ الرؤية التي ينطلق منهما كلٌّ منهما، والتموقع الخاص بالهوية لكل منهما، وتبيان المنهجية الفكرية العقلية التي يتبعها كل منهما في الوصول إلى تحليلاته واستنتاجاته بخصوص القضايا الكبرى، مثل الهوية والهجنة والتعدد الثقافي، والأنا والآخر، والتابع وغيرها من اهتمامات النظرية ما بعد الكولونيالية التي تساهم في توجيه الرؤية لمفهومي «المثقف» و»الثقافة». ويجري أحمد الجرطي مقارنة في المهاد المعرفي، وخصوصية الإبدال النقدي عند إدوارد سعيد وعبد الكبير الخطيبي، سواء من حيث طبيعة الخلفيات الفلسفية والفكرية التي تَشرَّباها معا، وأسهمت في تنسيب وتفريد جهازهما المفاهيمي والتحليلي، أو من حيث خصوصية المفاهيم والاستراتيجيات القرائية التي اختطّاها في خلخلة الهويات الجامدة والمتصلبة والمتشرنقة حول جهوزية الهوية وواحدية الأصل بحثاً عن فضاء جديد مشبع بقيم الاختلاف والتنوع والتشارك البشري. وإذا كانت مفاهيم القراءة الطباقية والتأويلية الدنيوية تشكل العصب الجوهري لمشروع إدوارد سعيد، وكانت استراتيجية التفكيك تشكل بدورها مدخلا أساسيا في الفكر النقدي للخطيبي، إلا أن مفهوم «النقد المزدوج» عند هذا الأخير، لا يخفي تقاطعه مع مفهوم القراءة الطباقية في تقويض المركزيات الشمولية المتشبثة بصفاء الهوية، درءا لما يُنعت بـ»الاختلاف الوحشي» ناقلاً تحليلاته من النص الأدبي إلى خطاب الثقافة الشعبية. وسعى محمد همام وعز الدين عزماني، إلى بحث المجهود المعرفي والنقدي للمفكرين في نقد بعض المفاهيم الكولونيالية، وفي نزع السلطة والرغبة في الهيمنة عنها. وفي التأسيس لسردية نقدية جديدة شكلت الأرضية التي قام عليها النقد ما بعد الكولونيالي في العالم العربي، منطلقاً من إثارة عناصر التماثل بينهما، وهي الكتابة النقدية المستقلة، ثم الكتابة المتخصصة في حقل الأدب والإبداع، لكن من منظور فكري ذي أفق موسوعي ومقاربة متعددة الاختصاصات. ولهذا يكاد منجزهما الفكري الذي يغطي حقول الأدب والنقد، والسوسيولوجيا، والفيلولوجيا، والفن (المسرح والموسيقى) وتاريخ الأفكار، والنقد الثقافي، منجزا أساسيا كان له الدور الكبير في التأسيس لخطاب نقدي ما بعد كولونيالي، لكنه ليس في منأى عن النقد هو ذاته، من منطلق أنه لم يستطع التخلص من هيمنه المفهوم الغربي كلية ومن تحيزاته ومن حدوده، ما يدفع بنقد آخر إلى الواجهة؛ هو النقد الديوكولونيالي.
ولئن كان الرجلان لم يلتقيا إلا مرة واحدة في إحدى جامعات أمريكا عام 1992، ولم يكن بينهما أيّ حوار مفترض تمليه انشغالاتهما الأساسية، التي اهتمت في المقام الأول بنقد الهيمنة المركزية الغربية، وتثمين التعدد الثقافي، بل إن إدوار سعيد نفسه لم يكن ينظر «بعين الرضا» إلى تفكيكية الخطيبي التي وصلته ـ ربما- عبر الترجمات «المختزلة» إلا أن مثل هذه الحوارية الممكنة وأبعاد تجسيرها بين تجربتي المفكرين المغربي والفلسطيني، والتي انشغلت بقية أوراق الأساتذة الباحثين (عبد الرحمن التمارة، عمر بن بوجليدة، علي بولربح، ميمون الموساوي، شيماء بوليفة، حسناء مبروك، اطريطحة عبد العزيز) بإعادة طرح أسلئتهما المرجأة وصوغها من جديد، من منظورات سوسيولوجية وثقافية وتفكيكية وفلسفية وبويطيقية، يمكن أن تحدث اللقاء بينهما، الذي طال انتظاره وأخطأ موعده مع التاريخ أكثر من مرة، لكن يبدو اليوم أكثر راهنيّة في عصر العمى الكبير.
كاتب مغربي