«أمهاتنا بنهودهنّ، نهودِ إلاهاتِ القَدَرِ والموت»
سان جون بيرس
تجلس الفتاتان (مينا) و(ترينيراند) متقابلتين في الصالة تصنعان الزهور؛ إنها مئة وخمسون دزينة ورود يجب تسليمها في عيد الفصح، وعُدّة العمل هي: سلة ممتلئة بالبتلات والأسلاك وصندوق من ورق مطاطي ومقصان وبكرة خيوط وعلبة صمغ. (مينا) تصنع السوق، وتضفر (ترينيداد) البتلات، وتعمل الفتاتان «بدقة تثير الإعجاب، وهما لا تكادان تحركان رؤوس أصابعهما». اخترت هذا المشهد من قصة قصيرة لماركيز عنوانها (ورود صناعية) يخبرنا فيها أن المرأة فنانة بطبيعتها، وتضفي على المهن على اختلافها، وبطريقة يدعمها العقل والقلب، مزاجا فنيا تكون نتائجه ساحرة. يقول سعدي يوسف في بيت شعريّ له: «عيناي يدُ امرأة». وكان القاص محمود عبد الوهاب يكتب في أوقات الصباح حتى الظهيرة، متمثلا بربة المنزل، فهي تؤدي في هذا الوقت أعمال الطبخ والتنظيف والترتيب في البيت، وهذا كلّه من أعمال الفن التي يتجلّى فيها الخلق بأبسط صوره. يقول جلال الدين الرومي: «ﺭﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻤﺮﺃﺓ ﻧﻮﺭﺍً ﻣﻦ نور ﺍﻟﻠﻪ، ﺭﺑﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ خلَّاقة ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻣﺨﻠﻮﻗﺔ، ﺭﺑﻤﺎ ﻫﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﺠﺮﺩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻜﻞ ﺍﻷﻧﺜﻮﻱ ﺍﻟﻨﺎﻋﻢ ﺍﻟﺬﻱ نرﺍﻩ!».
ومن صفات المرأة كذلك أنها تمتلك حسّا أكاديميا بالسلطة، ربما ورثته عن أمها حواء. هنالك شعر للسيّاب يصف فيه كم أن المرأة جميلة وساحرة وغامضة: «وكأن الليل قطيع نساءْ/ كحلٌ وعباءاتٌ سودٌ»
يذكّرنا هذا بالبيت الشهير للنابغة الذبياني «فإنك كالليل الذي هو مدركي…» ونلاحظ تشابه أدوات الشاعرين في التعبير، لكن هناك اختلافا جوهريا في المعنى، فبينما ذهب الشاعر القديم إلى تصوير سطوة الملك النعمان بن المنذر في وجوده، جاءنا الشاعر الحديث بالتعريف الوجودي للسطوة، وهي تمكن المرأة وهيمنتها على الرجل. قالت العرب: «إذا أردت أن تغلب رجلا، فاستدعي له امرأة».
كان علماء الأغريق يدعون العالم كوزموس أي الجمال، ويعنون بذلك الأنوثة المبذولة في كل ناحية فيه، فهي تعطينا سرورا بذاتها ولذاتها. الأنوثة إذن ليست حالة جسدية وعضوية مجردة، وإنما هي فكرة شعرية تختصّ بالجمال المتوفر في الكون، وبعملية الخلق في الطبيعة. نحن نبحث عن الأنثى ونجدها في كلّ ما حولنا، وإذا غاب عنا الوجود تبقى حالة الأنوثة ماثلة أمامنا، في الحلم أو في الخيال. وما توصل إليه عالم النفس والطبيب السويسري كارل غوستاف يونغ من خلال أبحاثه هو قريب مما قاله شيخنا الرومي: الأنوثة موجودة في داخل تركيب كل رجل، وكان الشاعر شارل بودلير قد تحدث عن حقيقة مشابهة قبل أكثر من قرن من أبحاث الطبيب النفسي: «في داخل كلّ منا يوجد رجل وامرأة وطفل – والطفل هو من يقع دائما في ورطة».
يمكن تقسيم رقة المرأة وحُسنها إلى خُلقيّة، ومكتسبة. تبلغ نسبة الأولى -وهي التي تولد المرأة بها- ثلثا، والأنوثة التي ترِدُ بنت حوّاء من طرق المعيشة والتعليم والتثقيف، وغير ذلك، ثلثين، فيُقال إن الفتاة غير مسؤولة عن انسجام أجزاء جسدها مع بعضها وهي في الخامسة عشرة fifteen وعندما تبلغ الخمسين fifty فإن كلّ صغيرة وكبيرة تخصّ الرقة والعذوبة في جسدها وروحها هي من صنع يديها. في كتاب «البرصان والعرجان» يذكر الجاحظ رأيا في كرم ونُبل طباع الأنثى: «وأحسن ما تكون المرأة وأرقّ ما تكون لونا، وأعتقُ (أطيبُ) وجها وأدقّ محاسن في نفاسها، وغبّ (بعد) ليلة عرسها، وأطيب ما تكون خلوة إذا رقصت في مناحة، أو تعبت من طول سير». أريد أن أناقش الجزء الأخير من فكرة الجاحظ، وهي علاقة سير المرأة ومشيها عندما يكون وفقَ إيقاعٍ، مع جمالها وعِشرتها الحلوة. إن التوازن الجسدي يخلق بدوره توازنا داخليا، وإحدى طرق قياس رقّة المرأة هي معاينة طريقتها في نقل خطوتها، كلما كانت طبيعية زاد مقدار الأنوثة لديها، وتتضاعف تبعا لذلك درجة وثوقها بنفسها، ويحاول المجتمع بأعرافه وبأنظمته الأخلاقية إبعاد هذه المزية لدى المرأة بواسطة الحجاب والعباءة، كما أن الأم تعلّم ابنتها منذ الصغر طريقة المشي المحتشمة، ويتابع الأب والأخ طريقة النساء أثناء الخطو والسير، لكن بنت حواء تستطيع رغم ذلك التعبير عن الأجزاء الطريّة في جسدها، ولو بأدنى صورة، وتتصرف من خلال التظاهر باحترام قيم لا تقيم لها وزنا أبدا في أعماقها. وهكذا تتشكل شيئا فشيئا لدى المرأة الشرقية، المسلمة غالبا، أخلاق مزدوجة، موزعة بين ما تمليه عليها طبيعتها، وما يفرضه عليها المجتمع. إن شكل حركة أيّ عضو لدى المرأة هو هبة من الخالق، وفيه تأويل للتوازن الموجود في الكون، المساس بالكيفية التي تنقل فيها ساقيها على أرض الشارع يؤدي إلى خلل حياتيّ فظيع يمكن أن تظهر صوره بشكل أمراض نفسية واجتماعية وعضوية لا لدى المرأة حسب، وإنما في جميع أفراد المجتمع. كانت الأقوام البدائية تعتقد أن سبب المرض والجنون هي أرواح شريرة لا يمكن أن تمسّ إلا أشخاصا مختلّي التوازن، وتتملّكهم.
كان علماء الأغريق يدعون العالم كوزموس أي الجمال، ويعنون بذلك الأنوثة المبذولة في كل ناحية فيه، فهي تعطينا سرورا بذاتها ولذاتها. الأنوثة إذن ليست حالة جسدية وعضوية مجردة، وإنما هي فكرة شعرية تختصّ بالجمال المتوفر في الكون، وبعملية الخلق في الطبيعة.
جون ريفنسكروفت أديب إنكليزيّ معاصر، له قصة قصيرة عنوانها «أحوال المادة» بطلها رجلٌ عاشقٌ لإمرأته حدّ الوله، فهو يرى أن الرجال لهم حالة المادة الصلبة، والمرأة سائل يجري، وحين تمشي فإنها تتدفق مثل نهر. كان اسم حبيبته ساندي، ويقول عنها: «إنني أراها تتماوج من المطبخ إلى غرفة النوم، ثم تعود تتدفق صوب المطبخ». القصة رائعة وحصل المؤلف عند نشرها على جائزة (كاتب هذا العام) في لندن سنة 2004: «لدى ساندي حوض استحمام كبير وقديم. كانت ترقد فيه لساعات. تمكث هناك طيلة النهار وطيلة الليل إن استطاعت، وكانت تصبّ تلك المستحضرات واللوسيونات. يا الله، كانت تنفق نصف دخلي على هذه المستحضرات النسائية. لكنها كانت تأتي إلى الفراش ناعمة، والطيب يفوح منها إلى درجة لا يمكن أن تتخيّلها». إن كل من لديه عينان يرى المرأة موجة، وتقرّ ساندي بهذه الحقيقة وهي سعيدة: «نعم! أنا إنسان سائل. أنا الحالة الثانية من المادة». السائل هنا ماء، وجاء في الذِكر: «وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ».
لدى الفرنسيين مثل بليغ: «ما تريده المرأة يريده الله». إن الفن هو المشهد المجازي للخلق، وبهذا يكون الشاعر والموسيقي والمغني والفنان التشكيلي، جميع هؤلاء يمتلكون من رهافة الحس الدرجة الكافية كي يكونوا بعيدين عن الجشع والميل إلى العنف والروح التجارية، ويشكّلون نمطا فريدا في المجتمع، ويشبهون في خصال عديدة لديهم المرأة الخلاقة بتعبير شيخنا الرومي.
بالنسبة إلى الشاعرة إيتيل عدنان: «إنّ الفنّ رديف البحث عن الأنثوي، وإنّ الفنّ بدوره يؤنّث العالم». الأنوثة إذن ليست مما نتعرّف عليه لدى الإنسان وحده، فنحن نعثر عليها في جسد كلّ حيوان، وفي هيكل الشجرة والزهرة والثمرة. في عام 2016 صدر عن دار التكوين في دمشق كتابي الشعريّ الأول «خطوة الذئب» وأنقل لكم من إحدى قصائده كيف أنه بمقدورنا مشاهدة المرأة في جرم أكثر الحيوانات فحولة:
«الثور الأسود ذو القرطين/ وأجراس الفضة/ في الليل، في وهج الظهيرة… الثور مجزّع بالحرير/ رأسه الورديّ اللون». الوصف هنا لامرأة متزوقة متبرجة، وهي محاولة لرؤية الطبيعة بمرآة الشعر التي تفتش عن الأنوثة في الوجود لأن لها القدرة على الخلق وتجديد الحياة، كما أن المسألة تتعدّى الطبيعة التكوينية للمرأة إلى طبيعتها الحسية، وإلى الجاذبية والفتنة اللتين تشعّان منها: «الثورُ الأسودُ ذو الغِرّة الزرقاء/ ذو اللبدة السبطة الملوّنة امرأةٌ من الحيّ». هو إقرارٌ جريء يتوصّل إليه الشعر بسهولة وبساطة، كأنه أمر حقيقيّ لا عمل فيه للاستعارة ولا دور للخيال. وتمضي القصيدة في ذكر ما يجمع الثور الأسود بالمرأة: «كفله كفلها/ حقوه/عيناه/ يهتز الثور عندما يمشي/ عندما يسير/ عندما يعدو…».
إن أقرب مثال للإحساس بالوجود في بساطته الأولى هو تأمّل الطّلعة الصّافية للمرأة، ودون رتوش، سواء كانت بيضاء أو سمراء أو شقراء أو صفراء أو حمراء أو زنجيّة، وقد قسّم البارئ الأنوثة بين النساء بالتساوي، وأتعسهنّ حظّا من كانت طريقتها في السير ذكورية أو بهيمية أو فيها عوق، فلا ينفع عندها الماء والخضراء والوجه الحسن.
أخيرا: التذكير الأبسط عن الأنوثة هو الأبلغ. كان هناك زوج مسيحيّ يهدّد زوجته كل يوم بعد العشاء بأنه سيصبح راهبا، فتبكي الزوجة، وتظلّ تبكي حتى مطلع الفجر.
كاتب عراقي