المقاومة الفلسطينية تنتقل من خندق الدفاع إلى خط الهجوم، وتقيم بصمود الشعب الفلسطيني وقوة إرادته حقائق جديدة على الأرض، تضع العدو المحتل في حال تخبط عسكري وسياسي. وبعد أن أسقطت نظرية الردع الإسرائيلي، فإنها اليوم تضع كل خططه للبقاء في غزة موضع شك ومساءلة، سواء داخل هيكل القيادة، أو في أوساط الرأي العام داخل إسرائيل. ومنذ انهارت مفاوضات الهدنة الأخيرة، تعمل المقاومة وفقا لمبدأ من أهم مبادئ الحروب الشعبية «إذا تخبط العدو نهاجمه.. وإذا تقهقر نطارده»، وهو مبدأ يجسد حقيقة الحرب طويلة الأمد التي تخوضها المقاومة، وينسف عقيدة الحرب الخاطفة التي اعتادت عليها إسرائيل من قبل. وتبدو حرب غزة التي كان نتنياهو يعتقد أنه يستطيع أن يكسبها في أسابيع وليس في أشهر، وقد أصبحت المصيدة القاتلة للصهيونية الدينية المتطرفة، التي تحاول أن تساوي بين المقاومة والإرهاب. وقد فتح التخبط الإسرائيلي ثغرة كبيرة أمام المقاومة للنفاذ منها على طريق زيادة معدل تنفيذ العمليات ضد الآليات وأفراد القوات الإسرائيلية، وزيادة معدل الخسائر البشرية بين الجنود الإسرائيليين.
فتح التخبط الإسرائيلي ثغرة كبيرة أمام المقاومة للنفاذ منها على طريق زيادة معدل تنفيذ العمليات ضد الآليات وأفراد القوات الإسرائيلية، وزيادة معدل الخسائر البشرية بين الجنود الإسرائيليين
من الخنادق إلى خط الهجوم
على الصعيد العسكري تبدو المقاومة في حالة معنوية عالية، أكثر تماسكا مع تعاظم وحدة العمل بين تنظيمات حماس والجهاد والجبهة الديمقراطية وغيرها، وإدارة اشتباكات مكشوفة في الشوارع، مع جنود وآليات قوات الاحتلال الإسرائيلي. ويبدو من متابعة تطور العمليات منذ بداية الشهر الحالي، أن المقاومة، بعد انهيار مفاوضات وقف إطلاق النار، اتخذت قرارا استراتيجيا بالانتقال من خندق الدفاع إلى خط الهجوم. هذا الانتقال عبّر عن نفسه في عدد من المؤشرات المهمة، التي لا تخطئها عين متابع، أهمها زيادة عدد قتلى وجرحى جنود الاحتلال في كل قطاع غزة، بما في ذلك المناطق التي كانت القوات الإسرائيلية قد أعلنت من قبل أنها انتصرت فيها وانسحبت منها. وطبقا للإحصاءات المنشورة على موقع الجيش الإسرائيلي، فإن أسماء القتلى التي تم التصريح بإعلانها حتى مساء الأحد الماضي وصلت إلى 282 قتيلا منذ بدء الهجوم البري على غزة في 27 أكتوبر الماضي. لكن عدد القتلى تباين من شهر إلى آخر خلال العمليات، إذ وصل إلى أقصاه في شهر ديسمبر الماضي مسجلا 110 قتلى، بمعدل 3.5 قتيل كل يوم، بينما بلغ عدد الجرحى المعلن عنهم 1707 جرحى منهم 333 مصابون بجروح خطيرة. وبهذا فإن معدل الجرحى إلى القتلى نتيجة عمليات المقاومة يصل الى 6.1 جريح مع كل قتيل واحد. لكن عدد القتلى الإسرائيليين، بسبب عمليات المقاومة اتجه للانخفاض في الأشهر التالية، إلى النصف تقريبا في يناير حين بلغ 54 قتيلا، ثم إلى 21 في فبراير، و إلى 18 في مارس، ليبلغ أدناه في الشهر الماضي مسجلا 8 قتلى فقط في صفوف القوات الإسرائيلية. وبعد انهيار مفاوضات الهدنة الأخيرة، زاد عدد عمليات المقاومة، وتنوعت ضد الأفراد والآليات، ما أسفر عن قفزة في عدد القتلى والجرحى في صفوف قوات الاحتلال. وتبين الأرقام الرسمية المنشورة، أن عدد القتلى وصل إلى 22 قتيلا خلال الأسبوعين الأخيرين حتى يوم الأحد الماضي، أي ما يعادل نحو ثلاثة أمثال عدد القتلى في الشهر السابق كله. كذلك فإن أعمار معظم القتلى بين الجنود الإسرائيليين في الأسابيع الأخيرة تتراوح بين 19- 22 سنة، وهو ما يظهر أن معظمهم كان قد أنهى للتو تدريبه الأساسي، بعد الاستدعاء للتجنيد، ليتم الدفع بهم إلى الخط الأمامي في المواجهة مع المقاومة. هذا العدد من القتلى داخل شريحة حديثي المنضمين الى جيش الاحتلال، يظهر أن القوات الإسرائيلية تتمدد بشريا بقدرات محدودة جدا، ما يؤدي إلى الدفع بقوات الاحتياط والجنود حديثي التدريب إلى خطوط المواجهة، وما يعكس أيضا وجود نقص في الإمدادات البشرية الممكن تأهيلها للانضمام إلى قوات الاحتلال في غزة، أو المشاركة في العمليات داخل الضفة الغربية أو في مواجهة حزب الله في الشمال. هذا يؤكد أن إسرائيل لا تستطيع أن تخوض حربا طويلة الأجل.
ولمواجهة هذه المعضلة، تطفو على السطح الآن وجهات نظر تدعو إلى رفع سن التقاعد في الجيش، وإطالة فترة الاستدعاء للاحتياط، وزيادة مدة الخدمة العسكرية الإجبارية، وهو ما ورد ضمن خطة بيني غانتس التي عرضها في الأسبوع الماضي في كلمة متلفزة تحدى فيها نتنياهو ووجه إليه إنذارا يهدده فيه بالانسحاب من حكومة الحرب، وما ردده عدد من القيادات العسكرية السابقة. هناك معضلة بشرية تواجهها إسرائيل في الوقت الحاضر وسوف تتفاقم بشدة كلما طالت الحرب زمنيا. هذه المعضلة نفسها تهدد استقرار الاقتصاد أيضا، وقد اقترح نتنياهو لحلها استيراد عشرات الآلاف من العمال الأجانب لسد الثغرات في الإمدادات البشرية للاقتصاد.
الحقائق الجديدة على الأرض التي وضعتها المقاومة
تفتح الطريق لظهور جبهة مقاومة موحدة تضم حماس والجهاد والجبهة الديمقراطية وجماعات أخرى، ربما تكون من بينها تنظيمات تابعة لحركة فتح، سواء في غزة أو في الضفة الغربية. وإذا استطاعت المقاومة تطوير استراتيجية «وحدة الجبهات» في الحرب الدائرة ضد الاحتلال، فإن إسرائيل ستنزف وتستقبل جثث قتلاها كل يوم، حتى تختل وتخور وتسقط. الحقائق الجديدة على الأرض تشمل أيضا إضعاف قدرة إسرائيل على تثبيت محور نيتساريم، الذي تريد به تقسيم قطاع غزة إلى شمال، يكون تحت سيطرتها في الوقت القريب، وجنوب تعمل للسيطرة عليه لاحقا، وهو ما يتطلب من الجيش الإسرائيلي إرسال قوات جديدة لحماية القوات التي تحاول التمركز هناك في الوقت الحالي. وقد دعا وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش في لقاء مع أنصاره في شمال لبنان منذ أيام، إلى سيطرة إسرائيلية عسكرية دائمة على غزة، وإرسال مزيد من القوات، وإنشاء تمركزات عسكرية جديدة في الشمال والوسط والجنوب لتحقيق ذلك. هذا يعني عمليا ترحيل قضية النازحين الإسرائيليين في الشمال وفي محيط غزة إلى أجل غير مسمى. ويبلغ عدد السكان الذين نزحوا عن مساكنهم في قرى وبلدات ومدن المنطقة المحيطة بقطاع غزة وشمال إسرائيل، أكثر من 100 ألف شخص حسب التقديرات الرسمية الإسرائيلية. الحكومة الإسرائيلية أبلغت الفنادق وبيوت الضيافة المؤقتة التي يعيش فيها النازحون، بتمديد إقامتهم إلى نهاية العام الحالي على الأقل، وأن هناك احتمالا كبيرا لتمديدها خلال العام المقبل.
تخبط نتنياهو
سياسة نتنياهو تزيد الأمور تعقيدا بالنسبة للقوات الإسرائيلية، فهي ما أن تزعم السيطرة على مناطق في قطاع غزة، وتنسحب منها إلى مناطق أخرى حتى تجد نفسها مضطرة للعودة إليها مرة أخرى، لأن المقاومة عاودت نشاطها! هذا ما حدث في جباليا وشمال غزة أكثر من ست مرات! وزير الدفاع الإسرائيلي يؤاف غالانت يتهم نتنياهو بأنه متردد، ولا يملك استراتيجية سياسية للوضع في غزة. وبسبب ذلك فإن القوات الإسرائيلية لا تعرف على وجه التحديد ما هي مسؤوليتها هناك. ويفرض موقف نتنياهو على القوات الإسرائيلية ضرورة القيام بثلاثة أدوار في آن واحد، أن تهاجم المقاومة، وأن تدافع عن نفسها ضد هجمات المقاومة، وأن تحاول القيام بدور في إدارة مناطق العمليات، إضافة إلى مهمة جديدة تتعلق بحماية الميناء البحري العائم الذي أقامته الولايات المتحدة، إلى حين تولى شركة أمنية خاصة حمايته فيما بعد. هذا هو قلب الخلاف الحاد بين غالانت ونتنياهو. وبينما يلقي رئيس الوزراء بالمسؤولية على وزير الدفاع بشأن تدهور وضع القوات الإسرائيلية، فإن وزير الدفاع يلقي بالمسؤولية على رئيس الوزراء بالعجز عن وضع خطة لإدارة غزة. ويصر غالانت على ألا تكون إدارة غزة ضمن مسؤوليات الجيش الإسرائيلي. وهو يعلم أن القوات لا تريد البقاء هناك، خصوصا مع زيادة الخسائر العسكرية البشرية والمادية. البديل الأقرب الذي قد يلجأ إليه نتنياهو، بسبب العجز عن بلورة صيغة لإدارة غزة بعيدا عن حماس، هو إقامة حكومة عسكرية إسرائيلية هناك، وهو ما يعني إعلانا رسميا باحتلال غزة، يحمل معه تكلفة سياسية عالية جدا، محليا وإقليميا ودوليا، وتكلفة عسكرية ثقيلة لن يستطيع الجيش الإسرائيلي تحملها، وتكلفة اقتصادية باهظة تتجاوز عشرات المليارات من الدولارات سنويا، حتى التوصل إلى حل سياسي ما يزال بعيد المنال بكل المقاييس. وسط هذا التخبط السياسي والعسكري الإسرائيلي تتعاظم فرص المقاومة لفتح مزيد من الجروح في جسم الاحتلال وتركها تنزف، حتى يخور ويخر صريعا في حرب طويلة الأمد.
كاتب مصري