لا عدّ لها ولا حصر طرائف التعليقات على احتمالات الهجوم الإيراني ضدّ دولة الاحتلال، انتقاماً لاغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في قلب طهران؛ وكذلك، إذا شارك ««حزب الله»» اللبناني في الهجمات، ثأراً لاغتيال فؤاد شكر القيادي البارز في الحزب. وبين الأكثر تهكماً على الردّ الإيراني، أو بالأحرى ذاك الذي يتأخر، شريط فيديو أنجزته صفحة كردية على مواقع التواصل الاجتماعي، متخصصة بالذكاء الاصطناعي، يُظهر رئيس حكومة الاحتلال على خلفية النصب الشهير في العاصمة الإيرانية طهران، يشدو بأغنية صباح فخري الشهيرة: «ردّي عليه، عليه ردّي! ردّي! ردّي!».
أبعد عن المزاح، ولكنه في عداد الأقرب إلى طرافة الحماقة والبلاهة واستغفال العقول، تصريح يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يقول التالي: «سوف يسير 20 مليون شخص من النجف إلى كربلاء [ويقصد في مناسبة الأربعين السنوية المعروفة، حيث تحجّ جموع الشيعة لزيارة العتبة الحسينية]. فإذا بدّل هؤلاء طريقهم وساروا إلى القدس، فمَنْ يستطيع مقاومتهم؟ أتعتقدون حقاً أنّ إسرائيل سوف تصمد أمامهم؟».
غير أنّ طرفة صفوي الخرقاء تنطوي على عنصر عقلاني واحد، ضمنيّ مع ذلك ولا يستقيم إلا باستنتاج من خارجها بالطبع؛ هو أنّ العراق الأرض والبلد، بوصفه ساحة مفتوحة أمام أنشطة الميليشيات الشيعية العديدة التابعة مذهبياً للمرشد الأعلى، وعسكرياً للحرس الثوري الإيراني، عنصر مشارك في أيّ هجوم إيراني محتمل على دولة الاحتلال. ويستوي أن تضرب هذه الميليشيات من الأراضي العراقية، فتستهدف قواعد أمريكية في عين الأسد أو الحرير، أو تضرب من الأراضي السورية مواقع أمريكية في التنف وحقل العمر. هذا إذا افترض المرء أنّ الميليشيات ذاتها، أو سواها متحالفة معها، لن تستخدم الأراضي الأردنية على نحو أو آخر.
مشهد المواجهة بين الميليشيات المذهبية العراقية والقوات الأمريكية في البلدان الثلاثة يحيل إلى معضلة جيو ــ سياسية، وتاريخية على نحو ما، تضرب بجذورها في عمق مشروع الولايات المتحدة الأمّ في العراق؛ الذي قد يكون ابتدأ مع أبريل غلاسبي سفيرة واشنطن في بغداد أيام الحرب العراقية ــ الإيرانية؛ ومرّ باتجار البيت الأبيض مع صدّام حسين، عبر وزير الدفاع الأسبق دونالد رمسفيلد؛ وبـ»درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء» وخرافة «النظام الدولي الجديد» وغزو العراق، وخيانة الكرد في الشمال والشيعة في الجنوب؛ وصولاً إلى اجتياح 2003 في رئاسة جورج بوش الابن وهيمنة «المحافظين الجدد» وأكذوبة «تصدير» الديمقراطية عبر الدبابة وصاروخ الـ«توماهوك»؛ وليس انتهاء، اليوم، بوجود عسكري أمريكي مكروه شعبياً، وعرضة لمسيّرات وصواريخ الميليشيات الشيعية.
ثمة في المآل الراهن ما يشبه «نهاية الحلم الأمريكي» في العراق، حسب تعبير الكاتب البريطاني باتريك كوبرن؛ مع تشديد إضافي مشروع مفاده أنّ تباشير نهاية كهذه تشمل أيضاً ذلك النطاق الأوسع، الذي خطّطت له حفنة من كبار «المحافظين الجدد» الأمريكيين، أمثال إرفنغ كريستول، بول ولفوفيتز، ريشارد بيرل، وغاري شميت. المتابعة من قلب البيت الأبيض وخارج المحيط قادها بوش الابن، صحبة أمثال ديك شيني، رمسفيلد، كوندوليزا رايس، إليوت أبرامز، ودوغلاس فايث. ولعلّ أولى علائم فضح المشروع أتت من الأمريكي سكوت ريتر، الذي كان أشهر مفتّشي الـ»أونسكوم» لجنة الأمم المتحدة التي كُلّفت بنزع أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ قبل أن يتقدّم باستقالة مدوية، ويصدر كتابه الثاني «الحرب على العراق» مفنداً ذرائع بوش الابن في تبرير شنّ الحرب.
إذا قررت إيران وميليشياتها الثأر من دولة الاحتلال، في ضوء المشهد الراهن (بمعزل عن نظرية صفوي حول جحافل الأربعين)؛ ماذا، ومَنْ، وكم تبقى من أمريكا، في العراق الراهن؟
ولقد سرد ريتر الحجج المضادة التالية: 1) لا توجد رابطة بين صدّام حسين و«القاعدة»؛ و2) إمكانيات العراق، الكيميائية والبيولوجية والنووية، دُمّرت في السنوات التي أعقبت حرب الخليج؛ و3) المراقبة عن طريق الأقمار الصناعية كانت، وتظلّ، قادرة على كشف أيّ مراكز جديدة لإنتاج الأسلحة؛ و4) الحصار منع العراق من الحصول على معظم، وربما جميع، المواد المكوّنة لصنع تلك الأسلحة؛ و5) تغيير النظام بالقوّة لن يجلب الديمقراطية إلى العراق؛ و6) عواقب حرب أمريكا على العراق خطيرة للغاية، على الشرق الأوسط بأسره. بعض هذه العواقب، والكثير منها ربما، يسجّلها المشهد الراهن المتمثل في حيرة القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا والأردن إزاء الميليشيات ذاتها التي مكّنتها القوات الأمريكية الغازية ذاتها، سنة 2003 وما بعد.
وكان المنطق الذرائعي خلف خدمة المصالح القومية الأمريكية العليا في غزو العراق يشير إلى ثلاثة أسباب استراتيجية على الأقلّ: 1) تحويل العراق إلى قاعدة عسكرية أمريكية ضخمة وحيوية، تخلّص واشنطن من مخاطر بقاء قوّاتها في دول الخليج، وما يشكّله هذا الوجود من ذريعة يستخدمها الأصوليون لتحريض الشارع الشعبي ضدّ الولايات المتحدة، وتشجيع ولادة نماذج جديدة من المنظمات الإرهابية على شاكلة «القاعدة»؛ و2) السيطرة على النفط العراقي، التي ظلت التقديرات تشير إلى أنه قد يصبح الاحتياطي الأوّل في العالم، أي بما يتفوّق على المملكة العربية السعودية ذاتها؛ و3) توطيد «درس أفغانستان» على صعيد العلاقات الدولية، بحيث تصبح الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، ومعظم أجزاء العالم في الواقع، مطلقة أحادية لا تُردّ ولا تُقاوم.
ولسوف يقول بوش الابن، ويعيد ويكرر، إنّ «العراق الحرّ ستحكمه القوانين، لا الدكتاتور. والعراق الحرّ سيكون مسالماً وليس صديقاً للإرهابيين أو تهديداً لجيرانه. والعراق الحرّ سيتخلى عن كلّ أسلحة الدمار الشامل. العراق الحرّ سيضع نفسه على طريق الديمقراطية». كولن باول، وزير خارجيته وسيّد الحمائم آنذاك، سوف يزيد في الطنبور نغماً: إنّ «ما نريده من العراق هو أمّة خالية من أسلحة الدمار الشامل، أمّة لها شكل تمثيلي في الحكم، تعيش بسلام مع جيرانها، لا تضطهد شعبها، وتستخدم ثروة العراق لصالح شعب العراق. أمّة لا تزال أمّة واحدة، لم تتشظّ إلى أجزاء مختلفة. ولسوف أضيف عنصراً ثانياً: مثال للمنطقة ولبقيّة أرجاء العالم. دولة مارقة ذهبت. مكان كان مصدراً للتوتر وعدم الاستقرار ولم يعد مكاناً للتوتر وعدم الاستقرار».
رمسفيلد، وزير الدفاع والقائد التنفيذي لفريق الصقور، عدّد سلسلة أهداف عامّة تسعى إليها الإدارة من وراء احتلال العراق، ثمّ اختصر الأمر في أعقاب سقوط بغداد على النحو التالي: «إعادة العراق إلى العراقيين»… ليس أقلّ! جيوشه على الأرض كانت منهمكة في إنزال أحمد الجلبي في الناصرية على حين غرّة؛ وفتح شوارع البصرة وبغداد أمام اللصوص والمشاغبين وناهبي المتاحف والبيوت والدوائر الرسمية؛ وحراسة مبنى واحد وحيد في بغداد كلّها: وزارة النفط العراقية!
في مستوى آخر، يخصّ التنظير الأعلى ذرائعية، نشر هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، مقالة مسهبة بعنوان «دروس من أجل استراتيجية مخرج» اعتبر فيها أنّ «الحرب في العراق لا تخصّ الشأن الجيو ـ سياسي بقدر ما تدور حول صدام الإيديولوجيات والثقافات والعقائد الدينية. ولأنّ التحدّي الإسلامي بعيد النطاق، فإنّ الحصيلة في العراق سيكون لها من المغزى العميق أكثر ممّا كان لفييتنام؛ إذْ لو قامت، في بغداد أو في أيّ جزء من العراق، حكومة على شاكلة الطالبان أو دولة أصولية راديكالية، فإنّ موجات الصدمة سوف تتردّد على امتداد العالم المسلم».
ولكن… إذا قررت إيران وميليشياتها الثأر من دولة الاحتلال، في ضوء المشهد الراهن (بمعزل عن نظرية صفوي حول جحافل الأربعين)؛ ماذا، ومَنْ، وكم تبقى من أمريكا، في العراق الراهن؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس