شهادة تذكارية للشاعر الإرتري- السوداني عبدالحكيم محمود الشيخ’
1 في فورة الشباب..، بعد منتصف الليل، نقطع الطريق راجلين من دار اتحاد الكتاب السودانيين، بالمقرن الخرطوم غربا، متجهين نحو أمدرمان، أنا وصديقي الشاهق حكيم، لم يك ثمة أمل في أن يصل أحدنا أو كلانا إلى أي بيت، ولم يك أمامنا سوى أن نصل داخلية طلاب المعهد العالي للموسيقى والمسرح بـانت- أمدرمان.
طيلة المسافة من مقر الاتحاد.. حتى الجسر الوحيد الذي يربط بين الخرطوم وأمدرمان- وقتها، لم نتوقف ولا لحظة عن المسير، يقرأ حكيم بصوته الجميل منفعلا: ‘كاظما يا صديقي’ مطلع آخر قصيدة طالعناها معاً للشاعر كاظم جهاد وكان صديقي حكيم يحبه، وأقرأ له: ‘أقيم عرسا قلت للذي أحبني، وأوحى لي: أن بالشارع الآخر مذبحة!’ من أعمال عيسى مخلوف وكنا فرغنا، تواً، من التعرف على صوته الشعري في ديوانه ‘تماثيل لوضح النَّهار’.
2
بدأتُ كتابة الشهادة أعلاه عن الشاعر عبدالحكيم محمود الشيخ المشهور بين أصحابه تحبّباً بــحكيم، قبل عدة أشهر، على صفحة أنشأتها الكاتبة مها الرشيد على موقع التواصل الاجتماعي الشهير (Face book)، بمناسبة العيد الوطني لإرتريا، تدافعت الشهادات حول حكيم من أهل الشعر والقصة القصيرة والرواية والإعلام- من الجنسين- إرتريين وسودانيين، مما شجعني على الاستطراد.
3
بيني وبين حكيم أنس لا ينتهي وحكايات لا يجهضها انحسار الليل عن فجر لم يراودنا فيه النوم مطلقا وتلك شجون ومناقشات حول ما هو الأدب ، ما هو الفن، ماهي الآيديولوجيا، ماهي الديمقراطية، وكيف نخلص للفن، وكيف نخلص للإنسان، ونحن نكتب ونقرأ ونجوع يوميا في شوارع المدينة، دون أن يكون لأحدنا مقعد في جامعة أو معهد، أو وظيفة ومصدر دخل في مكان ما، بل ونمضي ليلاتنا بعيدا عن البيوت، في داخليات معهد الموسيقى والمسرح أو داخليات كلية الفنون الجميلة أو في بيوت ما تيسر من أصدقاء.
فجأة وبدون سابق إنذار، كان يغيب عني حكيم لعدة أشهر حسوما، وحين أسأل أصدقائي الإرتريين عنه يقولون لي إنه في كسلا وسيعود، وبالفعل يعود حكيم بطوله الباسق الوسيم، وبصحبته حكايات وقصائد جديدة، وحين أسأله عن كسلا، يضحك بعمق، ويقول لي هامسا: أنا كنت في ‘الجبهة’.
3
بقدر ما كان حكيم ثائرا ومتحمساً، بقدر ما كان زاهدا أقرب لكونه صوفيا في زيِّ حديث، وبقدر ما كان يدعوني للجرأة والاقتحام في كل شيء بقدر ما كان يحتفظ في داخله بمساحة شك ما، دائمة؛ بقدر جنونه واندفاعه وحبه للحياة والأفكار والرؤى الجديدة، كانت له ‘حكمته’ الخاصة التي كنت استقيها منه في مواقف عديدة: شعراء كثر من الأجيال التي سبقت ظلمت تجاربهم الإبداعية وقتها، وقد فعل فيهم من كانوا يعرفون بيننا بـ ‘حملة الأختام’ الأفاعيل، وتلك كانت من ظواهر تدافع الأجيال، وكان وقت حضورنا للساحة آنذاك، هو الوقت الآيديولوجي بامتياز، وقت الاستقطابات الحادة، أعقاب انتفاضة مارس/ أبريل، وخروج الأحزاب بمختلف مسمياتها وآيديولوجياتها المختلفة، من جب ‘ديكتاتورية مايو- نظام حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري مايو 1969- أبريل 1985م’ إلى فضاء لم يتسع بعد- للأسف- ليتسم بما وصف به .. ‘ديمقراطية’.
4
يحتدم بيننا النقاش إثر خروجنا من منتدى أدبي ما، عن مستوى هذا الشاعر أو ذاك الشاعر، وهل هناك تطور في تجربته أم هناك ثبات على نفس المستوى أو تراجع، وكنت أجد في آراء حكيم الكثير من بعد النظر وعمقه في التحليل.. وتتبع التجربة والأثر.. نقاشي معه عصمني وكثيرا من الانزلاق نحو الأحكام الجاهزة والقوالب الرائجة، لكن أرقي الدائم- محل نقاشنا المحتدم، معتركنا الوحيد، كان ‘شاعرية’ حكيم نفسه، تجربته الإبداعية، تأخير نفسه في المنابر وتقديم الآخرين، اندفاعه الدائم لنشر أعمال الآخرين ولو عبر حفظه لنصوصهم والتبشير بها في المنتديات والمجالس الخاصة والمشاوير، احجامه الكامل عن تقديم أعماله أو طرحها أو الترويج لها بأي صورة من الصور.
أتذكَّر بوضوح جلي، نبرات صوته حين ينهزم، بعد إلحاح مني، يستمر ليالي كاملة، أتذكَّر نبراتٍ تتسمُ بأبعاد طفولية، حين يشرع قارئاً أحد نصوصه الجديدة، ذلك- لم يك ممكنا إلا بعد اشتراطات وتحوِّطات عديدة، مثل أن نكون وحدنا تماماً، بعيدين عن الآخرين، أن لا أردِّد حرفاً مما أسمعُ- يعرف توقّد ذاكرتي وقوتها جيدا- حجته الدائمة في ذلك ان القصيدة جديدة وهو لم يفرغ بعد من كتابتها.
5
أتفهم حساسيته المفرطة نحو أن يطرح نفسه شاعرا في تلك الأزمنة والأمكنة، لما ذكرت آنفا، أيضا أتفهم- والأمر هنا شديد التعقيد والخصوصية- أن صوت شقيقه الأكبر محمد محمود الشيخ الشعري كان طاغيا على الساحة بما لايدع مجالا للشك، صوت محمد كان ملهما، نجما ساطعا في الساحة الأدبية، نتقفى خطاه ونتعلم منه الكثير؛ كنت دائم العراك مع حكيم في هذا الأمر، حساسيته المفرطة نحو أن يقدم نفسه شاعرا في ذات الساحة التي كان فيها اسم محمد مدني هو المسيطر، محمد مدني لم يك يتركنا بعيدا عن دفء صداقته، مع فارق العمر، وان حفيّا بينا، لكن شيئا ما، في نفس حكيم، كنت أحسه دائما، يدفعه لطيِّ أوراقه الشعرية بعيداً عن المنابر وأعين الآخرين.
6
هل هو إرث من الشعراء والشهداء؟! عبد الحكيم أحدأبناء محمود الشيخ، شعراء وثوار يشار لهم بالبنان في إرتريا والسودان: (محمد المعروف بـ ‘محمد مدني’، وعمّار، سبق عمّار شقيقه الأصغر حكيم بالشهادة- حادثة اغتيال سجلت ضد مجهول، وتبعه حكيم بعد عدة سنوات)، يدهشك أن عمّار رحل عنَّا وهو يتأهب للزواج كما حدث مع حكيم، وأن عمار رحل وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، وهي ذات السن التي رحل عنَّا فيها حكيم (عمَّار (1961-1992م)/ عبدالحكيم (1965-1998م).
يقول لي القاص والناشط السياسي خالد محمد طه، وهو رفيق طفولة ودرب الشاعر حكيم: ‘لخلفية السياسية لعمَّار هي ذات الخلفية السياسية لحكيم؛ تجمعات المبدعين الديمقراطيين من كُتاب وتشكيليين وموسيقيين وممثلين وصحافيين، عضوية الجيش الشعبي لتحرير ارتريا، عمَّار عمل في إذاعة (صوت الجماهير الإرترية) من موقعها في الميدان بقمة جبل (هقر) موطن إحدى ممالك البجا الكوشية القديمة، على سلسلة جبال البحر الأحمر، ما يعرف بمنطقة شمال الساحل، عمل مذيعاً ومُعدِّاً للبرامج، بجانب التغطية المباشرة للعمليات الحربية- عمله بالإذاعة شكّل نقلة نوعية وقتها في الموضوعات وطريقة التناول ذات الطابع المهني، أسهم في تدريب كوادر إذاعية، تقود العمل االإذاعي في إرتريا حالياً- عبر الإذاعة الحكومية أو تلك التي تتبنى آراء معارضة، كانت له اهتمامات بالشأن الثقافي عموماً وإسهامات فكرية’.
7
‘حكيم عمل بين سنة 1985 إلى 1989م’- لا يزال الحديث لـ خالد طه- ‘بمكتب الإعلام الخارجي بالخرطوم معدّا لنشرة (رسالة إرتريا)، مع مهام نضالية أخرى ذات طابع دبلوماسي، بجانب اسهامه أدبياً وفنيّاً، عمل بـ (المكتب المركزي للإتحاد الوطني للشبيبة والطلاب)، تمَّ توجيهه للعمل في الميدان ضمن وحدة القوات الخاصة (كماندوز)، خاض معارك السنوات الأخيرة في جبهة (عصب)، بين الساحل والصحراء، عمل بمكتب الشؤون الثقافية ووزارة الإعلام صحافياً- مديراً لـملحق الآداب والفنون بصحيفة ـ (إرتريا الحديثة) ومعدَّاً للبرامج ومذيعاً ومشرفاً على القسم الفنِّي والثقافي بـ (إذاعة صوت الجماهير الإرترية)، أسهم في كلِّ الفعاليات الثقافية والأدبية منذ التحاقه بالثورة حتى عشية وفاته.
*شاعر وصحافي سوداني مقيم بلندن