إرث الكاتب

لطالما تساءلت عن جدوى الكتابة التي أرى فيها عبئاً… أو أمراً لا نختار أن يسكننا بمقدار ما يختارنا. الكتابة تأتي نتيجة عطب ما في الذات، أو لعلها رغبة ما في تحقيق شيء نعجز عن تحقيقه في عالم يُثمن الموجودات المادية، كما أنّ بواعث الكتابة تبقى متعددة، ومتباينة، ومع ذلك فإن ما يهمّ حقيقة المرحلة اللاحقة، وأعني ما بعد الكتابة، أو الكتابة بوصفها إرثاً.
حين يكتب كاتب ما، فإن ما يخطه يصبح هوية هذا الكاتب، واختزالاً لوجوده، أو ينبغي أن يعكس حقيقته، فالميراث أو الإرث ضمن معانيه المتعددة يتصل مباشرة بالمفاهيم المادية، غير أنّ له معنى يتعلق ببقية الشيء، ويبقى مفهوم الكاتب، وما ينتجه ضمن هذا الإطار. وفي طبقات الكتاب ثمة الكثير من الكلام، ولكن افتراضنا يتحدد بالكاتب، الذي يمتلك قدراً من الجودة تؤهله لأن يكون كاتباً فاعلاً يمكن أن يخلّف إرثاً، وبهذا علينا أن نتجاوز أشباه الكتاب، والطارئين على الكتابة التي تتعدد بتعدد الكتّاب، فهناك شعراء، وروائيون، ونقاد، وصحافيون، وأكاديميون، ولكن السؤال الأهم يتعلق بإرث هؤلاء الكتاب؟
ربما علينا أن نتساءل بمشروعية مطلقة… ما هو إرث الكاتب؟ هل هو حصيلة مجموعة من الكتب تتسم بطابع نوعي أو جودة ما؟ أم هي مجموعة من الكتب تسعى إلى تحقيق تفوق كمي. ثمة كتاب قادرون على إنجاز ثلاثة إلى أربعة كتب سنوياً، أو بأقل تقدير يتمكون من نشر كتاب واحد على الأقل في السنة، مبتغيين من ذلك وضع إرث ما، وبذلك تتمايز المفاهيم المتعلقة بالكتابة، حسب الجودة والنوعية، ولكن ماذا عن الجوائز، والتكريمات، وقدرة بعض المؤسسات والدول على تكريس أسماء بعينها لأسباب أو أخرى، فتصبح بعض الأسماء مفروضة علينا بحكم الأمر الواقع، ومع ذلك، فإن كل هذا لا يعني شيئاً، ففي النهاية يبقى الكتاب تجريداً أو موضوعاً بذاته يحمل قيمته الخاصة، غير أنّ الكتاب لا يعني سوى إحالة لإرث من يكتبه، فهل تكفي الكتب لأن تكون إرث الكاتب؟ أم أن الكاتب يجب أن يعكس وجوده عبر ممارسة ومواقف روجت لها كتبه التي تخلو من ذلك الانفصال بينها وبين الممارسة.
عندما نقرأ شعراً لكبار الشعراء العرب نقف مدهوشين لقيم الابتكار، وطرافة المعنى، وتفوق اللغة، وعلو البلاغة، ولكن وعينا يبقى مسكوناً بالشاعر، ومدى ما حقق من انسجام بين ما يكتب، وما عبر عنه من مواقف، فثمة بعض النقاد يرون أن بعض الشعراء العرب كانوا أقرب إلى متسولين، أو أبواق للسلطة، بيد أن توجهنا إلى الكتّاب المعاصرين الذي يفيضون بإنتاج كتب يعتقدون أنها ستكون إرثاً حقيقاً لهم، ولكننا إذا أقررنا بجودة هذه الكتب إلى حد ما، غير أن بعضها لا يعكس حقيقة الكاتب أو مواقفه، إنما هي عبارة عن أفكار معظمها غير أصيل، ولا يرتبط بتأثير حقيقي، وحين تُختبر فإنها لا تصمد طويلاً أمام القيم، وبغض النظر عن ذلك، فثمة بعض الكتاب يعتقدون أن الحصول على جائزة سيحقق الإرث الذي يبتغيه، ولكن بعض الجوائز لم تكن سوى نفاق، وبذلك فلا يمكن أن نعدّ بعض الجوائز إرثاً، لأنها لم تنحز إلى الحق إنما كانت تستهدف استجلاء موقف ما ينال تقديراً ما.
في سياق إرث الكاتب فإن كلمة «الإرث» تحيل في تكوينها الخاص إلى التأثير المستدام، بالإضافة إلى الدور الحيوي لأعمالهم على الأجيال القادمة. وبهذا يتجاوز الإرث الكلمات المكتوبة على الصفحة ليشمل القيم، ووجهات النظر، والأطر الفكرية التي تزرعها أعمالهم في عقول الآخرين، وبهذا يعني الإرث القدرة على تشكيل العقول، والأهم إنجاز الأثر بعد أن يرحل الكاتب عن هذا العالم، وبهذا يمكن القول إن بعض الكُتّاب يملكون تأثيراً، وأعمالهم أمست جزءا من التراث الثقافي أو الفكري، والبعض الآخر لا يبقى من إرثه شيء سوى أنه تخلى عن مبادئه لأمر ما.
ولعل التأثير الفكري يتعلق بقيمة تلك الموضوعات الأدبية، أو الاجتماعية أو السياسية، غير أن القيمة الحقيقة أن يسعى الكاتب إلى تقديم طرق جديدة للتفكير، والأهم القدرة على التغيير، فعلى سبيل المثال كتابات روائي مثل جيمس بالدوين حول قضايا العرق، والهوية، والعدالة، إذ تمكنت من وضع أسس فكرية، أمست أساسية في النقاشات حول المساواة العرقية، وبذلك فإن إرثه مستمر في الطريقة التي تواصل بها أفكاره إرشاد النقاشات، وإثارة التأملات حول هذه القضايا، ويمكن أن نضيف قائمة طويلة من أسماء الأدباء، والفلاسفة والمفكرين، بدءاً من أفلاطون، وليس انتهاء بسلافوي جيجيك، وللتراث الإسلامي إرث عميق يمثله ابن رشد، والرازي، وابن القيم، وغيرهم الكثير… وتحديداً حين كان العقل العربي أو المسلم أكثر قدرة على التفكير، ويملك هامشاً من الحرية.
ويكمن إرث الكاتب في التأثير الثقافي، ولا سيما عند تناول موضوعات إنسانية شاملة لا يجزأ فيها الحق، ولا يخضع لتأويلات، فيصبح جزءا من الذاكرة الثقافية، ولطالما بحثت عن إرث بعض الكتاب العرب المعاصرين، وتأملت الاحتفاء الذي نالوه عن كتبهم، وما الذي أضافوه من تحول نوعي وحقيقي على الواقع، فوجدت أنه محدودة التأثير! ومع أن الغرب أظهر تهافت أفكاره، ولا إنسانيته في سياق الأحداث الجارية، غير أن هذا لا يشكل سوى جانب من العمى التاريخي والقيمي والأخلاقي، غير أن تغيير واقعنا ليس منوطاً به، ويجب ألا نبحث عن التعاطف مع قضايانا، وتفهمها، فهو ليس سوى ضلع من أضلاع الصراع، إنما تكمن المشكلة في إرثنا، وواقعنا أو بقدرة الفكر العربي على خلق فكر موازٍ، يقوّض الفكر الغربي القائم على مصالحه، وفلسفته الخاصة، والأهم فهمه للعالم. إننا بحاجة إلى إرث ينهي حالة الاستلاب والتبعية للغرب، فالكتابة العربية أشبه بإطلاق النار، ولكن الرصاصات فارغة، فلا يوجد أثر سوى الصوت.
لا يمكن التيقن من أن الكتابة العربية المعاصرة ـ إلى حد ما- أوجدت إلهاماً يطال العقل الجمعي، فمعظم الكتابة العربية تبقى على الهامش، أو أنها عاجزة عن التغيير، ولا يمكن أن نتجاهل كاتباً أدرك قيمة الخطاب والممارسة مجتمعين مثل فرانز فانون، حين كافح الاستعمار، فدعا إلى التحرر خطاباً، وممارسة، بل إن أعماله وفرت دعماً فكرياً لحركات الاستقلال في العالم، وبذلك فإن الإرث الذي خلفه فانون منح المجتمعات المضطهدة القوة اللازمة للسعي نحو العدالة، ما جعل كلماته تتخطى الأدب إلى النضالات الواقعية، غير أنّ بعض الكتاب في العالم العربي بدوا أسيري ذواتهم، حتى أن كتاباتهم أشبه بثرثرة، بعضها محدود التخييل، وبعضها الآخر ليس سوى مراكمة أفكار، وتوثيق مراجع، ولاسيما في هذه الألفية، ومع ذلك فلا يمكن أنّ نتجاهل مشاريع فكرية حقيقة لعبد الوهاب المسيري، وهشام الشرابي، ومالك بن نبي، وإدوارد سعيد، وغيرهم…
يكمن إرث بعض الكُتَّاب، ولاسيما المفكرين في طرق التحليل التي يقدمونها، فثمة نقاد عرب قضوا سنوات حياتهم يعيدون اللعب على قضية اللغة، والأسلوب، والبحث عن النماذج المجردة التي تستهلك كل شيء، وبعضهم تجرّد من مبادئه لأجل عيون السلطة، والتكريمات … فلم يتمكنوا من تكوين معنى في الوعي، أو موقف، بل إن الاحتفاء بهم ووضعهم على قمة الثقافة العربية يثير الكثير من الشبهات تجاه نتاجهم، من ناحية ما إذا كان نتيجة كتابة حقيقية؟ أو أنه عبارة عن نتاج لعبة السلطة التي تنتج نخباً وطنية ثقافية للمباهاة فقط! لا شك إن استمرارية الأهمية تتعلق بالإرث القادر على تقديم رؤى حول الطبيعة الإنسانية والمجتمع عبر القرون، فالكتابة المنتجة هي تلك القادرة على تجاوز لحظتها التاريخية، ومن ثم إعادة تفسيرها باستمرار عبر الأزمنة والثقافات، وتكاد الأسماء التي تخرج عن هذا التوصيف قليلة، ومع ذلك فإن الكتابة في مجتمعاتنا ما زالت قاصرة على أن تخلق هذا الأثر نتيجة أزمة حضارية عميقة، وبهذا فإننا في سياق جدلي، فهل نحتاج إلى ذوات مفكرة تنتج نظاماً، أم أننا نحتاج إلى نظام ينتج ذواتاً مفكرة؟
كاتب أردني فلسطيني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية